ترك برس
شكلت أحداث "طوفان الأقصى" نقطة تحول تاريخية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث استمرت المعاناة في غزة طوال عام كامل تحت وطأة القصف والاحتلال. ورغم التدمير الهائل وفقدان الأرواح، أثبت الشعب الفلسطيني أنه قادر على الصمود والتمسك بحقوقه، مُعبرًا عن إرادة حقيقية لا يمكن قمعها.
هذا العام، لم تكن الحرب مجرد صراع عسكري، بل كانت منصة لفضح زيف الروايات الإسرائيلية وأكاذيبها المزعومة حول "الأمن والسلام". إذ تحولت القضية الفلسطينية من مسألة محلية إلى قضية إنسانية عالمية، وجذبت تضامنًا غير مسبوق من مختلف الشعوب والدول.
وعبر مظاهرات ضخمة حول العالم، خاصة في تركيا، برزت مطالب حرية فلسطين كصرخة مدوية تعبر عن رفض الاحتلال. في ظل هذا السياق، يمكن القول إن غزة قد قدمت للعالم درسًا في المقاومة، مُظهرة كيف يمكن للإيمان والثبات أن يقاوموا أعتى أنواع الظلم، مؤكدين أن الأمل لا يزال حيًا رغم كل الصعوبات.
وفي مقال كتبه بمناسبة ذكرى طوفان الأقصى، قال الأكاديمي والبرلماني التركي السابق ياسين أقطاي، إن العام الذي مر طال على أهل غزة الذين يعيشون تحت القصف الوحشي الإسرائيلي ولم يبصروا النور طوال هذا العام وشعروا به كأنه دهور، ولكنه لم يكن سهلاً أيضاً على العدو الصهيوني مرتكب الإبادة وحلفائه، فقد انكشف فيه زيف ادعاءاتهم وأكاذيبهم التي ظلوا يروجون لها طيلة قرنين من الزمن. وسقطت أقنعتهم، وعُرِيتْ جرائمهم القائمة على القتل وسفك الدماء والعنصرية والاستغلال تحت ستار النظام الإنساني المتقدم والحديث والديمقراطي. والأهم من ذلك، أن شعورهم بالخيبة المريرة لعدم قدرتهم على السيطرة على قطاع غزة الصغير رغم سيطرتهم على العالم أجمع، جعل كل ثانية من هذا العام تشعرهم بأنها أطول بكثير مما عاشه أهل غزة.
وتطرق أقطاي في مقاله بصحيفة يني شفق إلى الأرقام المتعلقة بالحرب، كعدد القتلى أو حجم القنابل التي ألقيت والتي تساوي ثلاث مرات حجم قنبلة هيروشيما، مؤكدا أن كل هذه الأمور رغم أهميتها، أثبتت أنها لم تحقق نتيجة تذكر ولم تثن من عزيمة أهل غزة وصمودهم. وكان هذا بحد ذاته ضربة قاصمة لإسرائيل وحلفائها، ضربة تحطم روايتهم وتزيد من معاناتهم. وعلى النقيض من ذلك، مهما قالت الأرقام، فإن لأهل غزة، الذين تحدوا الاحتلال بإيمانهم وأجسادهم العارية، نصيبًا من النصر في قلب هذا الطوفان.
وتابع المقال:
كما ذكرنا سابقًا، فإن إسرائيل لا تزال بعيدة كل البعد عن تحقيق الهدفين اللذين أعلنت عنهما في بداية مجازرها ضد غزة، وذلك بعد مرور عام كامل. وفي المقابل، نجح أهل غزة خلال هذا العام في تحويل قضيتهم، التي كانت شبه منسية في الماضي، إلى أهم قضية عالمية. ففي نهاية هذا العام، شهدنا مظاهرات غير مسبوقة في مختلف أنحاء العالم، وخاصة في تركيا، تتبنى القضية الفلسطينية وتعبر عن التضامن معها. لقد تجاوزت القضية الفلسطينية حدود فلسطين، وأصبحت قضية تخص الإنسانية جمعاء، حيث كشفت عن الطبيعة العنصرية والانفصالية للنظام الصهيوني الاحتلالي الذي يستعبد العالم. وقد دفعت هذه الحقيقة الناس إلى المطالبة بحريتهم من خلال مطالبتهم بحرية فلسطين.
كما أن القضية الفلسطينية أطلقت شرارة وعي نقدي قوي، فقد بيّنت أن العالم بأسره يعاني من نوع آخر من الاحتلال، سواء كان سياسيًا أو اقتصاديًا أو إعلاميًا، حيث يتم احتلال العقول واستعمارها فكريًا. والمفارقة المأساوية، بل والمضحكة إلى حد ما، هي أن الفلاسفة مثل يورغن هابرماس وشيلة بن حبيب، الذين بنوا مسيرتهم الفكرية على النقد وادعوا تعليم العالم التفكير النقدي، لم يكونوا بمنأى عن هيمنة هذا الاحتلال الفكري. ويكفي أن "طوفان الأقصى" قد سلط الضوء على هؤلاء المتأخرين من دعاة التنوير، الذين لا يزالون يبررون موقفهم بحجة أن مشاريعهم الفكرية لم تكتمل بعد، وفضح زيف مبرراتهم أمام الإنسانية.
بل فعل أكثر من ذلك بكثير. فقد أثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أن البطولة التي كان يُقال إنها باتت شيئًا من الماضي بسبب تقدم تقنيات الدفاع، لم تمت بعد. لقد أظهر لأبناء عصرنا الذين استسلموا لذهنية قوم يزعمون أنهم "شعب الله المختار" ويتباهون بتفوقهم على غيرهم، رغم أنهم قطعوا صلتهم بالله واعتمدوا فقط على التكنولوجيا وقوتهم، كيف أن القوة الحقيقية تكمن في التوكل على الله وحده.
عندما يخرج أحدهم من تحت الأنقاض، مغطى بالغبار والتراب، وهو يرفع علامة النصر ويعلن بكل ثقة "لقد انتصرنا"، وحتى بعد أن يقُتل هو أو جميع أقاربه، فإن هذا الإيمان العميق يصل إلى الإنسان المعاصر كرسالة جديدة تمامًا لم يسمعها من قبل. إن الحقيقة الثورية الكامنة في قول "حسبنا الله ونعم الوكيل" تتجسد كدرس قوي، يتجاوز بعمقه الانتقادات السطحية والتعليقات المتعجرفة الموجهة إليه.
قد لا نعرف مدى وصول هذا الصوت إلى أولئك المتعالين، لكن صمود أهل غزة في مواجهة الدمار والموت الذي يمطرهم، وشكرهم لله، وحبهم لآياته، وتحويلهم الموت إلى تحدٍ بفضل إيمانهم، كلها أصبحت آيات تُبصّر الناس وتنير عقولهم في كل أنحاء العالم.
بالطبع، أيقظت الشعوب الإسلامية في المقام الأول. فقد استعادت فلسطين والقدس والمقاومة والنضال والجهاد وحتى الحساب المتعلق بالآخرة، والتي كانت جميعها تقريبًا قد فقدت قيمتها في عيون المسلمين قبل السابع من أكتوبر، استعادت مكانتها في تصورات الناس وحياتهم وإدراكهم للأصدقاء والأعداء.
فغزة والشهادة والخسائر المشرفة عندما تستدعي الحاجة هي جزء من النضال الإسلامي. والمؤمن ما دام على صراط مستقيم، وما دام متمسكًا بإيمانه، لن يخسر أبدًا. حتى لو مات، فلن يخسر، وحتى لو هُزم، فلن يخسر. الخسارة هي مصيبة تحل بك عندما تصبح مشابهًا لعدوك. بعد الربيع العربي كانت هناك محاولات لوقف الحركات الإسلامية من خلال الانقلابات. وظهرت النغمة المعروفة حول نهاية الإسلام السياسي وفشله. لكن الذين فشلوا لم يكونوا الإسلاميين، بل كان ذلك نتيجة التخلي عن جميع ادعاءات هذا النظام نفسه، وإفلاسه، وعدم تحمله للمسلمين. كان الأمر يتعلق بمدى استعداده للدخول في مجازر سياسية أو فعلية، على حساب إلغاء نفسه وتجميد نظامه، وتقويض أسس وجوده، لمواجهة تحدي المسلمين.
لا يوجد اليوم أي مشروع بديل استطاع أن يحقق انتصارات على هذه الهمجية ويقدم للعالم رؤية جديدة، وقيم، ومثل أعلى في مواجهة التسلط الذي يتعرض له الإسلاميون ويؤدي إلى تراجعهم. لا داخل العالم الإسلامي ولا خارجه. بدلاً من ذلك، يشهد العالم احتفالات بـ"قتل" الإسلام، متجاهلاً تماماً ما يمثله الإسلام حقاً. ولم يدع الإسلام قط أنه يقدم أكثر مما تقدمه الحضارة الغربية وتدعي تحقيقه. ولا يعد الإسلام الآن بتقديم حياة أفضل للناس، بل هدفه الوحيد هو توعية الناس بظلمات العبودية ووحشيتها التي اعتادوا عليها، والسعي لتحريرهم منها. ومع ذلك، فإن الذين يعيشون في تلك الظلمات ليس لديهم القدرة على تقييم أو الحكم على نجاح أو فشل هذه القضية.
في الواقع لقد أظهرت غزة، أن هناك حسابات للنضال ضد نظام عالمي تُعبّر فيه الهيمنة المادية عن نفسها بتفاخر تكنولوجي عنصري.لقد شهد العالم بأسره، من خلال شعب مُحاصر منذ 17 عامًا وكأنه محتجز في معسكر اعتقال، أنه إذا كان لديهم إيمان قوي، فلا يمكن انتزاع إرادة الحرية. بالإضافة إلى ذلك، قدّم هذا الشعب للعالم دروسًا في المقاومة وسبل التحرر. لقد أظهر أهل غزة، من خلال مواقفهم، واستشهادهم ومقاومتهم وشكرهم، أنه يمكن تحقيق حياة مختلفة ووجود آخر.
لقد دعا أبطال غزة الناسَ من خلال مواقفهم، للاستيقاظ من غفلتهم أمام الطوفان الذي يعيشونه، وركوب سفينة النجاة. ظنت إسرائيل العنصرية المتغطرسة وحلفاؤها أنهم يستطيعون قمع هذه الانتفاضة خلال بضعة أيام، كما اعتادوا أن يفعلوا في الماضي. فعلى مدار تاريخهم، لم يشهد الصهاينة حربًا استمرت عامًا كاملاً. ولكنهم يشعرون الآن بأنهم يجرون نحو مغامرة مجهولة بعد مرور عام. في المقابل استمر أولئك الذين أدركوا حقيقة هذا الطوفان، وتحدوا قوى الهيمنة العالمية في تصعيد نضالهم وتقدمهم.و في الذكرى السنوية الأولى، شهدنا اندفاعاً عالمياً نحو الانضمام إلى هذا الطوفان المتصاعد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!