د. سمير صالحة - أساس ميديا
يبدو أنّ صراخ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وتحذيراته اليومية بشأن الأهداف الإسرائيلية التوسّعية في المنطقة، وأنّ الدور سيأتي على سوريا وتركيا بعد فلسطين ولبنان، لم يترك أيّ أثر لدى الأسد الجريح والمخذول اليوم.
ألم يبلغ أحدٌ بشار الأسد بتقدّم القوات الإسرائيلية مئات من الأمتار في ريف القنيطرة الجنوبي، وتجريفها ثمّ ضمّها بوضع أسلاك شائكة في المكان؟ أم هناك وعود قدّمت للنظام في دمشق وأقنعته بتغيير مواقفه وسياسته حيال “محور الممانعة”، بينها التعويم مقابل “حياده” في المواجهة الإيرانية الإسرائيلية فوق الأراضي السورية؟
تكاد تقول مواقف موسكو وتحرّكاتها الميدانية الأخيرة إنّها هي أيضاً جزء من الصفقة والمقايضات المحتملة التي ستكون طهران الخاسر الأوّل فيها. فأين ستقف أنقرة من المشروع الأميركي الإسرائيلي الإقليمي الجديد؟ وهل هي تراقب أوّلاً أسلوب الردّ الإسرائيلي الأميركي على إيران ولعبة الردّ على الردّ لتقرّر ما ستفعله في التعامل مع حالة إقليمية جديدة تغيّرت فيها الأساليب والأسباب والأدوات والأماكن؟ أم تنتظر نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية والتعويل على عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض ليخرجها من ورطة الثنائي بايدن – نتنياهو وخططهما التوسّعية في المنطقة؟
ما بعد احتلال دمشق
واضح تماماً أنّ تحذيرات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان العلنية الأخيرة بشأن ما ينتظر سوريا عند حدوث عملية عسكرية برّية واسعة ضدّها، وقوله إنّ “احتلال دمشق يعني وصول الجنود الإسرائيليين إلى حدود تركيا، وهو ما سيؤدّي إلى تمزيق خريطة سوريا بالكامل”، تحمل معها رسائل مبطّنة لبشار الأسد بأنّ خياراته محدودة ورهانه على طهران وموسكو لن ينفعه لإخراجه من ورطته، وأنّ أفضل ما يمكن أن يفعله هو عدم ترك اليد التركية الممدودة نحوه تنتظر مطوّلاً في الهواء.
لكن واضح أيضاً أنّ صمت دمشق حيال ما يجري هو ما يقلق أنقرة. فهو يعزّز القناعة بأنّ تهديدات تل أبيب للأسد كان لها مفعولها، وأنّه بين خيارين لا ثالث لهما: الابتعاد عن النيران الإسرائيلية وترك إيران لوحدها في المعركة الدائرة فوق الأراضي السورية أو جلوسه في دائرة الخطر التي لن ينجح في الخروج منها.
هناك ما أفزع النظام في دمشق حتماً وما سيجد إردوغان صعوبة في الالتفاف عليه وتجاوزه على طريق إقناع الأسد بالتعاون مع أنقرة للخروج من ورطته:
1- التلويح الإسرائيلي بالاستهداف العسكري المباشر لقصور الرئاسة ورموز النظام السوري.
2- استحالة الرهان على إيران وميليشياتها لتحميه في سوريا بعد الآن وهي تعاني على الجبهة اللبنانية.
3- العروض المقدّمة له للخروج بأقلّ الخسائر والأضرار بعد إعطاء تل أبيب وواشنطن ما تريدان.
موسكو من خلال مواقفها السياسية والميدانية الأخيرة قد لا تعترض على صفقة من هذا النوع تخدمها على جبهة القرم. لكنّ السؤال: هل تترك طهران الأسد يفعل ما يريد بعد كلّ ما قدّمته له من دعم في العقدين الأخيرين؟
هذا ما أدركه الأسد..
يعرف الأسد أفضل من غيره أنّه لم يعد يستطيع المناورة في ساحة لعب ضيّقة عبر محاولة توجيه تمريرات طويلة:
4 – موسكو لن تتردّد بقبول أيّ عروض مساومة أو صفقات مع واشنطن في ملفّات إقليمية متداخلة يكون الملفّ السوري في مقدَّمها، خصوصاً عند عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
5- طهران لن يكون بمقدورها الصمود على أكثر من جبهة، خصوصاً عندما يبدأ التململ الشعبي والسياسي يتزايد ويتّسع في الداخل.
6- العواصم العربية لن تحارب من أجله بعدما خذلها قبل أيام بإعلانه تمسّكه بخندق المقاومة الإيراني.
7- نتنياهو المدعوم أميركياً يصرّ على القفز إلى الأمام عبر تحريك أوراق سياسية وأمنيّة وجغرافية تطيح بالتوازنات والمعادلات الإقليمية القائمة.
يهدف تقدُّم القوات الإسرائيلية باتجاه دمشق لاصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد: إبعاد إيران وميليشياتها عن مناطق جنوب سوريا، تهديد نظام الأسد بشكل مباشر، والتحوّل إلى شريك إقليمي في الملفّ السوري يحاور موسكو وأنقرة على مسار سوريا ومستقبلها. لذلك تتقلّص وتتراجع فرص الأسد أمام تصلّب إيران ورفضها مغادرة سوريا والذهاب باتجاه مغاير، وهو نقل الميليشيات العراقية المحسوبة عليها إلى الجبهات السورية لملء الفراغ الذي ستتركه قوات ماهر الأسد التي تحتفظ بصبرها الاستراتيجي، ومجموعات الحزب التي تنسحب باتجاه الجنوب اللبناني. وذلك ما يمنح تل أبيب المزيد من الفرص والمبرّرات للتصعيد العسكري الواسع في سوريا، ويترك الأسد بين خيارَي جار تركيّ يعرض التهدئة والحوار وعدوّ إسرائيلي يتربّص للانقضاض تحت ذريعة إخراج إيران من سوريا، أم هناك ما يطمئنه أكثر في العروض الإسرائيلية التي قد تصل حدّ مواجهة تركيا في شمال سوريا دفاعاً عن “قسد” ومشروع الكيان الكردي الانفصالي على الحدود الجنوبية لتركيا؟
مخاوف أردوغان
من مصلحة أنقرة قيام تل أبيب بعمل عسكري في العمق السوري لإخراج إيران من سوريا، لكنّ المسألة لن تتوقّف عند هذا الحدّ. وإلّا فما الذي يعنيه انتقاد إردوغان لمواصلة تطبيق قانون قيصر والقرار رقم 13 894 حول العقوبات على النظام في دمشق؟ ولماذا تعلن الخارجية التركية أنّ تمديد الولايات المتحدة العقوبات المفروضة على سوريا لمدّة عام إضافي لا يتوافق مع الحقائق على الأرض، وأنّ دعم السياسات التركية التي تركّز على وحدة الأراضي السورية سيساهم في استقرار المنطقة؟
ستحاول تل أبيب مواصلة لعبة الاستنزاف الإقليمي بعدما فشلت في حسم أيّ معركة على الجبهات اللبنانية والسورية والفلسطينية. سيكون الهدف منح أميركا فرصة الخروج من الانتخابات الرئاسية ومعرفة من سيكون الرئيس الجديد، ثمّ يتمّ في ضوء ذلك رسم سياسة أميركا الإقليمية الجديدة.
نتنياهو يعرف أنّه لا يستطيع أخذ كلّ ما يريد، لذلك سيبحث عن فرص تعطيه فيها ما يريده للاستقواء على الجميع في الإقليم. فهل تلتحق واشنطن بالقتال عندما تشعر أنّ نتنياهو فشل في أخذ ما يريد وإقناعنا بإعطائه ذلك؟ وهل تسمح موسكو لأميركا بنسف كلّ ما شيّدته في سوريا فتضحّي بالأسد وطهران وتعرّض علاقاتها الجيّدة مع أنقرة في الملفّ السوري للخطر، وتقدّم تنازلات ميدانية وسياسية لمصلحة تل أبيب؟ لن تفعل ذلك إلّا في إطار خطّة تفاهمات أميركية – روسية تأخذ بعين الاعتبار ما يقوله ويريده أكثر من لاعب إقليمي باتّجاه الحلحلة السياسية في الملفّ السوري وتكون مرتبطة ببقيّة الملفّات الإقليمية على طريق التهدئة وصناعة تفاهمات أوسع بين الجانبين. سيناريو من هذا النوع ممكن جداً مع الإدارة الأميركية الجديدة، لكنّ العقبة التي تقف في طريقه هي فرص تليين المواقف على جبهة القرم.
أخطأنا في تقدير أنّه لم يبقَ لواشنطن سوى شريك واحد في سوريا تعوّل عليه وهو مجموعات “قسد” و”مسد” في شرق الفرات. الشريك الإسرائيلي يتقدّم رويداً رويداً باتّجاه الجلوس إلى أيّة طاولة إقليمية تناقش الملفّ السوري.
يبدو أنّ تل أبيب لن تفعل ذلك نيابة عن واشنطن، بل سيكونان معاً جنباً إلى جنب عند بحث سيناريوهات بناء سوريا الجديدة، وهذا بين ما يقلق إردوغان أيضاً. فهل تترك أنقرة نتنياهو يفعل ما يريد على الجبهة السورية وتكتفي بالحراك السياسي الدبلوماسي على خطّ واشنطن – الإقليم مذكّرة بالمعاناة التي يعيشها الشعب السوري منذ سنوات؟ أم تصل الأمور للمواجهة العسكرية المباشرة بين القوات التركية والإسرائيلية في سوريا؟ ورقة “قسد” وصمود إيران على الجبهات ومدى حدود المناورة الروسية في سوريا واسم الرئيس الأميركي المقبل هي التي قد تحدّد شكل القرار التركي.
لا يريد إردوغان إطلاق يد واشنطن وتل أبيب في الإقليم، لكنّه قد لا يقول لا لإضعاف إيران في المنطقة وهو يستعدّ لتدشين محطة التلفزة التركية الرسمية الناطقة بالفارسية، غير أنّه بين المهمّ أيضاً أنّه لا يريد التفريط بما أنجزه في الأعوام الأخيرة على خطّ التهدئة والانفتاح والتنسيق الإقليمي والعربي تحديداً؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس