إبراهيم قاراغول - يني شفق 31/10/2024

ستُجرى الانتخابات الأمريكية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني. وكما هو معتاد، تستعد وسائل الإعلام التركية والعالمية قبل سنة من موعد الانتخابات، وتتعرض عقولنا لقصف إعلامي متواصل. تتوالى نشرات الأخبار من الولايات المتحدة صباحًا ومساءً، ويُسخَّر كل ما يمكن استخدامه من رموز وصور ومواقف وخطابات لإبراز فكرة "أمريكا العظمى" والترويج لها داخليًا. وكان ممثلو الإعلام الأمريكي يطلقون تصريحاتهم الرنانة، ويغدقون علينا استنتاجاتهم "الحكيمة" وعباراتهم المليئة بدلالات لا تضيف شيئًا ذا قيمة.

مكتب الإعلام في البيت الأبيض: العظمة في عقولنا،

اللامنطقية في تكرارها،

والكمال في صورتنا...

في أحد الأيام، ذهبتُ إلى مكتب الإعلام في البيت الأبيض. هناك، في ذلك المكان الذي طالما عُرف بكونه قاعة تُضفي النظام على العالم، اكتشفتُ أنه في الواقع قاعة صغيرة للغاية، لا أثر فيها للأجواء السحرية التي كنت أتصورها. كان مجرد مكان بسيط ومهمل. في تلك اللحظة، أدركتُ أن مفهوم العظمة هو جزء من عقولنا، وأن سحر "اللامنطقية" يكمن في تكرارها، وأن التأكيد على الكمال هو جزء من صورتنا الذهنية. حينها فهمتُ كيف أن الأمم والدول والإدارات والنخب السياسية، وحتى من يترددون في الظهور بقوة، يسعون دومًا للبقاء في ظلال قوةٍ أخرى.

صورة القائد القوي، والقفزة التاريخية العظيمة:

ما يقيّدنا ليس القوة بحد ذاتها، بل الجدران المتغلغلة في عقولنا.

لهذا السبب أدركتُ كيف يمكن لصور القادة الأقوياء، أولئك الذين يصنعون التاريخ ويعيدون تشكيل الجغرافيا، أن تدفع بالأمم نحو قفزات عظيمة، وكيف أن ذلك ممكن حقًا. مرت تركيا أمام ناظريّ، بتراث إمبراطورياتها العظيمة، وخريطتها وجغرافيتها، وجيناتها السياسية التي استمرت دون انقطاع على مدى قرون. تأملتُ مجددًا في قدرة بناء القوة وصورة القيادة القوية على مدى العشرين عامًا الماضية على تغيير الجغرافيا، وكيف نجح ذلك فعليًا.

لا أرفض أي شيء، ولا أعيش في أحلام منفصلة عن الواقع؛ لكن علينا أن ندرك أن ما يبقينا مكبّلين ليس القوة بحد ذاتها، بل تلك الرموز والجدران السميكة التي تسكن عقولنا.

سقوط الإمبراطورية:

من الابتزاز العسكري إلى العزلة، لم يتبقَّ شيء.

تفصلنا خمسة أيام عن الانتخابات الأمريكية، ولأول مرة، لا أحد يبالي. لا يوجد اهتمام، ولا قيمة إخبارية، ولا بث تلفزيوني، ولا تحليلات متفلسفة أو قراءات أو تحليلات عميقة. لماذا؟

يبدو أن "عبادة أمريكا" قد انهارت ولم يعد لها وجود، ليس فقط في تركيا، بل في كل أنحاء العالم. لأن ما انتهى فعليًا هو الولايات المتحدة نفسها!

ما زال العالم يجد صعوبة في قبول هذا الواقع. الجميع لا يزال يؤمن بوهم وجود أمريكا بسبب قواعدها العسكرية وجنودها المنتشرين في كل مكان. لكننا نشهد فعليًا "سقوط إمبراطورية"، وستشهد هذه الأجيال هذا السقوط.

اليوم، أصبحت الولايات المتحدة دولة فقدت رصيدها الدبلوماسي، وسمعتها الدولية، وقدرتها على قيادة العالم، وظهرت كدولة تمارس الإرهاب الاقتصادي. والأهم من ذلك، فقدت حلفاءها التقليديين الكبار.

الغالبية العظمى حول العالم تشعر بالقلق من القوة العسكرية التي تمتلكها هذه الدولة. الجميع يدرك أن هذه القوة لم تعد تحت قيادة "مسؤولة"، وأنها قد تقوم بأفعال متهورة ضد الإنسانية. لأن الولايات المتحدة لم يعد لديها أي "قوة مقنعة" سوى الابتزاز العسكري والضغوط.

"إدارة الإرهاب" العالمية تدفع بالولايات المتحدة نحو الانهيار..

باتت المنظمات الإرهابية اليوم من أقرب حلفاء الولايات المتحدة. ولأول مرة في التاريخ، تعلن دولة أن هذه المنظمات هي حلفاؤها الرسميون والاستراتيجيون، وهو ما لم يحدث مثيل له من قبل. بينما لا نزال نتحدث عن "مكافحة الإرهاب"، تقوم الولايات المتحدة باستخدام هذه المنظمات لضربنا. هذه هي الحقيقة التي يجب أن ندركها!

تحت مسمى مكافحة الإرهاب العالمي، أنشأت الولايات المتحدة منظمات إرهابية في مختلف أرجاء العالم، و"تشغلها" لخدمة مصالحها. علاوة على ذلك، تنفذ مع إسرائيل إبادة جماعية واضحة المعالم. إن ما ارتكبته من مجازر جماعية في العراق وأفغانستان، وما اقترفته من جرائم مروعة ضد الإنسانية في باغرام وأبو غريب، تكرره اليوم بالتعاون مع إسرائيل في غزة، وفي منطقتنا.

لقد فقدت الولايات المتحدة منذ زمن بعيد الضمير الإنساني المشترك. لولا امتلاكها القوة العسكرية، لكانت دول الاتحاد الأوروبي الكبرى قد أدارت ظهرها لها. حتى هذه الدول لم تعد تعتبر الولايات المتحدة حليفًا وثيقًا، وسنشهد هذا الواقع قريبًا.

ترامب سيفوز في هذه الانتخابات، وستبدأ المعركة الكبرى

وفقاً للوضع الحالي، سيفوز ترامب في الانتخابات. إلا إذا حدث تلاعب استثنائي أو تزوير في الانتخابات، فسيكون هذا هو الواقع. ومع ذلك، فإن التزوير الانتخابي الذي شهدناه في 2020، واقتحام الكونغرس، وتوجهات التصادم الداخلي في الولايات المتحدة ستتكرر بقوة أكبر خلال هذه الانتخابات وما بعدها.

من المحتمل أن يشهد العالم بأسره مسرحية تراجيدية للولايات المتحدة، وسيرى كيف أن القوة العظمى في العالم تتجه نحو صراعات داخلية، وكيف أن التصادم الداخلي يفقدها قوتها، وكيف سيصبح "حالة الصراع الداخلي" أمراً طبيعياً.

من سيفوز ليصب ذلك في مصلحة تركيا؟ وفي مصلحة منطقتنا؟ وهل سيطرأ تغيير في دعم إسرائيل؟ أعلم أن الجميع يترقب هذه النتائج. لو كانت انتخابات طبيعية، لقلت "لن يتغير شيء". لكن هذه المرة، سيتغير الوضع.

هل هي تصفية حسابات مع النظام أم "بيريسترويكا أمريكية"؟

هناك أمر أكثر أهمية من كل هذا: إذا فاز ترامب، وهو المرشح المتوقع فوزه، فقد نشهد ما يشبه "بيريسترويكا (إعادة هيكلة) أمريكية". إذ يمتلك ترامب هدفًا جوهريًا يتمثل في "تصفية الحسابات مع النظام". وربما سيكون هذا التغيير هو الأثر الأبرز الذي سيتركه في التاريخ، والذي بدوره سيؤدي إلى تغييرات غير عادية على خريطة القوى العالمية.

من المحتمل أن يرفض النظام القائم التنازل عن السلطة، وهنا تحديدًا ستبدأ المواجهة. وعندما تنغلق الولايات المتحدة على نفسها، سيتسارع باقي العالم إلى رسم خريطة جديدة.

أعتقد أن تركيا وبعض القوى العالمية الرئيسية تركز على هذا الأمر في إطار الانتخابات الأمريكية. أما تسارع إسرائيل في "الضرب والتوسع إلى أقصى حد قبل الانتخابات"، فهو نابع من ذات الترقب للمستقبل المجهول.

أتوقع تغييرات غير عادية...

إذن، بعد الانتخابات الأمريكية، أقول إنه ينبغي توقع تطورات غير عادية في مواقف الصين، وروسيا، وتركيا، ودول الاتحاد الأوروبي، وحلقات التحالف التقليدية.

في نهاية المطاف، سنرى رئيسًا أمريكيًا تُعلنه وكالات استخباراته الخاصة كعميل، وتعتبره خطرًا وغير موثوق به، وينبذه النظام القائم في الولايات المتحدة ويزدريه.

لماذا لا تجذب الانتخابات الأمريكية اهتمام أحد؟ نعم، لقد فقدت الولايات المتحدة جاذبيتها. لكن في رأيي، ستكون هذه واحدة من أهم الانتخابات في التاريخ الأمريكي. وقد تبدأ نتائج هذه الانتخابات تحولًا استثنائيًا يؤثر على أمريكا وعلى العالم بأسره.

أظن أن المتابعين التقليديين للانتخابات الأمريكية لم يدركوا بعد كيفية وقوع هذا التحول. وأؤكد أن جميع العواصم تترقب هذا الحدث فقط.

المسرحية الكبرى ستبدأ.

الجميع بانتظار هذه المسرحية.

مشاهدة ممتعة.

عن الكاتب

إبراهيم قاراغول

كاتب تركي - رئيس تحرير صحيفة يني شفق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس