د. باسل الحاج جاسم - الحياة
أعادت دعوة أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء التركي، إلى عقد مؤتمر إستثنائي لحزب العدالة والتنمية في 22 أيار( مايو) الجاري، لاختيار رئيس جديد للحزب، ورئيس لوزراء تركيا، إلى الأذهان مخاوف عبّر عنها مراقبون، بعد الانتخاب المباشر من الشعب لرئيس الجمهورية، إذ إنه لا توجد حدود فاصلة دستورياً، وفي شكل دقيق، بين صلاحيات الرئيس وصلاحيات رئيس الحكومة، وهذا ما أشار إليه رجب طيب أردوغان نفسه في لقائه مع قيادات في حزب «العدالة والتنمية»، خلال فترة ترؤسه للحكومة، إذ قال «هناك حاجة للنظام الرئاسي حتى يكون هناك تناغم بين الرئاسة والحكومة».
فالاستفتاء الذي سمح بالانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية افتقر إلى تعديل مواز لصلاحيات الرئيس، ولكن لم يتمكن حزب «العدالة والتنمية»، من تحقيق انتصار كبير في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في حزيران (يونيو) العام الماضي، يتيح له تحقيق غالبية مع حلفائه، وتمكّنه من تمرير تعديلات دستورية، أو صياغة دستور جديد، ليتمكن من تجاوز معضلة الصلاحيات بين الرئيس ورئيس الوزراء. وكذلك لم ينجح العدالة والتنمية بإقامة تحالف سياسي ما أو صفقة سياسية، في البرلمان، وهو ما جعل الأمور تصل إلى ما وصلت إليه. وظهر رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو معلناً في مؤتمر صحافي - عقب اجتماع للجنة المركزية للحزب الحاكم - أنه لن يرشح نفسه لانتخابات رئاسة الحزب، وسيستمر جندياً في صفوفه، وأضاف أنه قرّر تغيير منصبه لا رفقائه في الحزب.
واعتبر كثير من المراقبين أن وراء خطوة داوود أوغلو هذه، خلافاً مع الرئيس أردوغان، لكن تاريخ الرجلين، والطريقة التي اختارها داوود أوغلو للخروج من رئاسة الحزب، تظهر أن داوود أوغلو وأردوغان القويين في حزب العدالة والتنمية، لا يختلفان في وجهات النظر والسياسات الداخلية والخارجية، ولكن الخلاف بينهما كان بسبب النظام الدستوري المطبق في تركيا حيث يوجِد مساحة للاختلاف والتقاطع، تؤدي إلى الصدام بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة.
كانت الأنظار قد توّجهت إلى أول اجتماع لمجلس الوزراء التركي بداية العام الماضي 2015، باهتمام غير مسبوق، على المستوى الداخلي لتركيا، وكذلك إقليمياً ودولياً، لما حمله ترؤس الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان للاجتماع من أبعاد على الواقع السياسي التركي، وتأثيرات في مستقبل البلاد.
في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية التركية، في أغسطس (آب) 2014، والتي أجريت، للمرة الأولى، في الاقتراع الشعبي المباشر، صرّح أردوغان مراراً وتكراراً، أن الدستور الحالي يمنح القوة التنفيذية لرئيس الجمهورية الذي يأتي إلى الرئاسة، بالتصويت الشعبي، تماماً كما منح دستور 1982 السلطة التنفيذية، لقائد الانقلاب في عام 1980 الجنرال كنعان إيفرين.
لم يكون ترؤس أردوغان اجتماعات الحكومة في بلاده أمراً مخالفاً للدستور الذي يعطيه الحق في ذلك، لكن من سبقوه في المنصب لم يحرصوا على حضورها، ورأى مراقبون أن ممارسته هذا الحق تعكس رغبته في توسيع صلاحياته.
وقد أوردت وسائل إعلام تركية عديدة أخباراً ووثائق تؤكد أن أردوغان لم يأتِ ببدع، حين أعلن نيته ترؤس الاجتماع الوزاري، حيث سبقه إلى ذلك خمسة رؤساء سابقين، إلا أن الحال تختلف مع أردوغان، من حيث السياق والخلفية.
وكان أردوغان أعلن، صراحة، في برنامج حملته الانتخابية لمنصب الرئاسة، أنه سيعمل على إحداث تحوّل نوعيّ في صلاحيات رئاسة الجمهورية، وقال، في أحد خطبه أمام كتلة حزب العدالة والتنمية النيابية، إن منصب رئاسة الجمهورية لن يكون بروتوكولياً، وأضاف: «في الماضي، كانت الحكومة تقدّم ممثلة للشعب، فيما تقدم رئاسة الجمهورية ممثلاً للدولة، سنلغي المسافة بين الدولة والشعب، وستقوم الحكومة المنتخبة، مع الرئيس المنتخب، بإدارة البلاد».
وكان الأتراك قد صوّتوا عام 2011 على تعديلات طفيفة على الدستور، أهمها انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، ما جعله يتمتع بصلاحيات أوسع، لكن الكتل البرلمانية أخفقت، حينها، في التوافق على تعديلات جذرية، بسبب الانقسام بين حزب العدالة والتنمية الحاكم وحلفائه من جهة وأحزاب المعارضة من جهة أخرى.
ويمنح الدستور التركي رئيس الجمهورية صفة رأس الدولة ومرجعيتها ويخوله مسؤولية حماية الدستور، وتنسيق العمل بين المؤسسات المختلفة، وعلى رغم أن الرؤساء الأتراك ظلّوا يحظون تقليدياً بمنصب شبه فخري، إلا أن الدستور، ووفق المادة 104 منه، يعطي الرئيس صلاحيات ليست هامشية أو شكلية، وترتبط بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، مثل دعوة المجلس الوزاري إلى الانعقاد وترؤس اجتماعه، ودعوة مجلس الأمن القومي إلى الانعقاد وترؤس اجتماعاته، وتعيين رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، وإعلان حالة الطوارئ، وتعيين رئيس وأعضاء مجلس الدولة للرقابة، وغيرها من القرارات.
ما اختلف في حالة أردوغان عن سابقيه أنه الأول في تاريخ الجمهورية التركية الذي انتخب من الشعب وفي شكل مباشر، إضافة إلى فوزه بنسبة تفوق نسب كل الأحزاب التركية الموجودة على الساحة، بما فيها حزبه الحاكم، وهو ما يعطيه، من الناحية العملية، إضافة إلى الصلاحيات الدستورية النظرية، شرعية لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها بسهولة.
ولا يمكن التغاضي عن حساسية الأوضاع التي تعيشها تركيا اليوم، داخلياً، وخارجياً، فقضيّة رفع الحصانة عن النواب الذين يتهمون بدعم الإرهاب، ستجعل البرلمان والحكومة أمام واقع جديد، واستحقاقات مرتبطة بتعديل الدستور، وذلك باستفتاء أو عبر اللجوء إلى انتخابات برلمانية مبكرة، يبدو فيها حزب العدالة والتنمية الأقرب لحسمها، مقابل ضعف واضح لأحزاب المعارضة، وإضافة إلى الجبهات المشتعلة في سورية وبين أذربيجان وأرمينيا، والتوتّر مع روسيا، وإتمام الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي بخصوص اللاجئين، وكذلك تلبية تركيا الشروط المتبقية للسماح لمواطنيها بدخول منطقة شنغن من دون تأشيرة، ولاسيما بينها شرط يتعلق بقوانين مكافحة الإرهاب التي تراها أنقرة خطاً أحمر بامتياز، ما يثير علامات استفهام على مدى إمكانية نجاح الاتفاق مع الأوروبيين.
لم يُفاجأ أحد بالطريقة التي اختارها داوود أوغلو، لإعلان مغادرته رئاسة الوزراء، فهو الأكاديمي الذي وصف بـ «واحد من أهم مئة مفكر في العالم»، وأرسى دعائم علاقات ذات أبعاد متناقضة، وساهم في اتخاذ تركيا خطوات جريئة في ملفات السياسة الخارجية لا سيما في ملفّي قبرص والعلاقات مع أرمينيا.
يبقى القول، إنه ليس مستغرباً أن ينأى صاحب نظرية صفر مشاكل، بالمشاكل عن حزبه، مخالفاً بذلك القاعدة التي اعتبرت السياسة لا تتماشى مع المبادئ، قارناً الأقوال بالأفعال، فخروجه بغيّر الطريقة التي أعلنها، يعني نسفاً لكل نظرياته طوال حياته الأكاديمية والسياسية، ومع استمرار داوود أوغلو مهندس السياسة الخارجية التركية في الحياة السياسية، نائباً لحزب العدالة والتنمية عن مدينته قونيا في البرلمان التركي، ربما يكون مستقبل تركيا السياسي بانتظاره خلفاً لأردوغان مجدداً بعد 2023، في ظلّ الحديث عن دستور جديد بديل من دستور ثمانينات القرن الماضي الذي فرضه العسكر، ليصبح نظام الحكم في تركيا رئاسياً.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس