عبد الحافظ الصاوي - الجزيرة نت
لم تكن معدات العسكريين وحدها هي التي تستهدف هدم التجربة التركية بسماتها الديمقراطية والتنموية الناجحة، ولكن بعد فشل معدات العسكريين في حسم الانقلاب العسكري في 15 يوليو/تموز 2016 عملت بعض القوى الداخلية والخارجية للعب على محور الجوانب الاقتصادية، لخلق مناخ سلبي يضغط على رجل الشارع ليكون أداة طيعة للتذمر في وجه الحكومة، وذلك من خلال الضغط على العملة المحلية، أو تراجع حركة السياحة، أو خروج بعض الأموال بصورة غير مشروعة، أو التهديد بفرض عقوبات اقتصادية، وكذلك استمرار بعض الدول الأوروبية في التصريح باستحالة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
ولم يكن الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا هو وحده الذي مثل تحديا أمام الاقتصاد التركي، ولكن استمرار التوتر السياسي الداخلي بسبب تداعيات التعديلات الدستورية التي سمحت بالانتقال للنظام الرئيسي، وكذلك دخول تركيا في حرب مفتوحة في كل من سوريا والعراق لحماية حدودها ومقاومة مشروعات إقامة دولة كردية هذا كله ساعد في إيجاد ضغوط حقيقية على مؤشرات الاقتصاد التركي جعلت التضخم يصل إلى 11.7%، وكذلك ارتفعت البطالةلتتجاوز 10%.
ومنذ بداية عام 2017 بدأت مؤشرات الاقتصاد التركي في أدائها الإيجابي، حيث أظهرت الإحصاءات الرسمية تحقيق معدل للنمو الاقتصادي خلال الربع الأول من عام 2017 بنحو 5%، وهو معدل نمو يمثل إنجازا في ظل الظروف الاقتصادية التي تعيشها أوروبا أو منطقة الشرق الأوسط باعتبارهما المنافذ الرئيسة لتركيا في العلاقات الاقتصادية الخارجية.
مقومات التعافي
عملت حكومة علي بن يلدرم -بمساعدة قوية من الرئيس رجب طيب أردوغان- على إيجاد مناخ إيجابي لمواجهة التحديات الاقتصادية من خلال المبادرات الفردية، وكذلك مؤسسات الحكومة ومجتمع الأعمال، وكان أبرز مثال على ذلك ما تم من تحويل الأتراك ما لديهم من عملات أجنبية إلى العملة الوطنية.
وكان الرئيس أردوغان أول من ساهم في ذلك بتحويل قرابة ثلاثمئة ألف دولار -تمثل أمواله الخاصة- إلى العملة الوطنية، وكذلك فعلت البورصة التركية، والمؤسسة العسكرية، كما ساهمت حركة الأفراد ببيع ما لديهم من ذهب وعملات أجنبية في إيقاف تدهور الليرة التركية عقب الانقلاب العسكري.
في 15 يوليو/تموز 2016 بلغ سعر الدولار 2.88 ليرة، ولكن بعد الانقلاب استمرت حالة التراجع في قيمة الليرة حتى وصلت إلى 3.98 ليرات للدولار، وأدى عدم استدراج البنك المركزي لاستنزاف الاحتياطي، ومشاركة المجتمع التركي، وكذلك وجود قاعدة إنتاجية قوية، وتحريك سعر الفائدة بنسبة 0.5% فقط من قبل البنك المركزي إلى السيطرة على محاولات اللعب بالليرة التركية واستنزاف الاحتياطي من النقد الأجنبي، والآن هناك هامش حركة لسعر الليرة يتراوح بين 3.50 ليرات و3.62 ليرات للدولار.
ومثل انخفاض الليرة التركي إحدى المزايا التي تم توظيفها في تنشيط الصادرات السلعية التركية وزيادة معدلاتها.
وعملت الحكومة التركية على تعديل أجندة علاقاتها الاقتصادية الخارجية على الرغم من التحديات السياسية، فعلى صعيد روسيا نجحت تركيا في إعادة السياحة الروسية، وكذلك عودة الصادرات الزراعية لروسيا، واستكمل العمل في خط السيل لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية.
كما نشطت الحكومة التركية في توسيع حركة المشروعات والاستثمارات الخارجية في كل من الخليج (الكويت، والسعودية، والإمارات، وقطر) وإيران وأفريقيا، كل هذا أدى إلى عدم دخول الاقتصاد التركي في حالة من الركود، أو شعور المواطن التركي بوجود معضلة اقتصادية.
وأدى حسم حزب العدالة والتنمية لنتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية في منتصف أبريل/نيسان 2017 إلى وجود استقرار سياسي بعث رسائل طمأنينة للمستثمرين الأجانب ولشركات السياحة الأجنبية، وفي نفس الوقت استعاد المستثمرون المحليون ثقتهم في الاستقرار السياسي.
كما أن ما تم من تنافس في قضية التعديلات الدستورية كان بمثابة أداء طبيعي للمنافسة السياسية التي تتيحها التجربة الديمقراطية في تركيا.
وكان التنوع الاقتصادي الذي تتمتع به تركيا بين المجالات الخدمية والإنتاجية أحد أهم مقومات التعافي الاقتصادي، فوجود قاعدة إنتاجية صلبة فيها ساعد على تحويل أزمة الليرة إلى فرصة فلم يسمح بتراجع الصادرات السلعية إلا في شهر الانقلاب فقط (يوليو/تموز 2016)، ثم عاودت الصادرات الارتفاع مرة أخرى.
كما أن أداء القطاع الزراعي التركي الإيجابي ساعد على عدم تصعيد الأزمة الداخلية، حيث تكتفي تركيا ذاتيا من احتياجاتها من الغذاء، وتصل صادرات القطاع الزراعي التركي سنويا لنحو 16 مليار دولار.
مؤشرات التعافي
ثمة مجموعة من المؤشرات الاقتصادية الكلية تبين حالة من تعافي الاقتصاد التركي للتداعيات السلبية للانقلاب العسكري الفاشل هناك، ومن بين هذه المؤشرات ما يلي:
- ارتفاع معدل النمو الاقتصادي: فقد أظهر معهد الإحصاء التركي أن ما تحقق من نمو اقتصادي في الربع الأول من عام 2017 بلغ 5%، وهو أكبر من المعدل الذي تحقق في الفترة المماثلة في عام 2016 بنحو 0.5%، وبشكل عام فإن معدل النمو لتركيا في 2016 كان بحدود 2.9%، وكانت التوقعات أن يصل معدل النمو بداية 2017 إلى 3.5%، ولكن وصول معدل النمو إلى 5% أظهر حالة أوضح للتعافي الاقتصادي.
- استقرار سعر العملة التركية، حيث بلغ انخفاضها قمته في يناير/كانون الثاني 2017 فاقترب من سعر أربع ليرات للدولار، ولكن مع حسم نتائج التعديلات الدستورية في منتصف أبريل/نيسان 2017، ومن قبلها الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية من تحسين علاقاتها الاقتصادية الخارجية في المحيط الإقليمي عاد سعر الليرة ليستقر قرابة 3.55 ليرات للدولار في المتوسط، ولم تعد هناك أي مظاهر لأزمة في النقد الأجنبي بالسوق التركي، مما أعاد حالة من الاستقرار في القطاعات الاقتصادية المختلفة، خاصة قطاع العقارات.
- انخفضت الصادرات التركية في شهر الانقلاب العسكري الفاشل إلى 9.8 مليارات دولار مقارنة بـ12.8 مليار دولار في يونيو/حزيران 2016، ولكن حسب ما تظهره أرقام معهد الإحصاء التركي فإن الصادرات استعادت عافيتها في الشهور التالية للانقلاب، ووصلت في ديسمبر/كانون الأول 2016 إلى 12.7 مليار دولار، وفي مايو/أيار 2017 إلى 13.6 مليار دولار، أي أن الصادرات في هذا الشهر فاقت معدلات أداء ما قبل الانقلاب في يونيو/حزيران 2016.
وخلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2017 بلغت الصادرات التركية 64.3 مليار دولار مقارنة بـ58.4 مليار دولار لنفس الفترة من عام 2016، وهو ما يعني تحقيق زيادة في قيمة الصادرات بلغت 5.9 مليارات دولار، وتصل نسبة الزيادة في الصادرات بين الفترتين إلى نحو 10.1%.
- تراجعت معدلات البطالة خلال الربع الأول من 2017 إلى 12.6% بعد أن وصلت إلى 13% في ديسمبر/كانون الأول 2016، ومن المتوقع أن تتحسن معدلات البطالة عبر نتائج نهاية النصف الأول من عام 2017، خاصة مع تحسن معدلات أداء الصادرات، وانطلاق العديد من المشروعات الكبرى داخل تركيا، وحصول تركيا على مشروعات ضخمة (تطوير مطارات ومحطات كهرباء) في الخليج وإيران خلال الشهور الماضية.
- تراجع معدل التضخم في يونيو/حزيران 2017 إلى 10.9% بعد أن استقر عند نحو 13% تقريبا بنهاية مايو/أيار 2017، ويستهدف البنك المركزي عبر سياساته النقدية انخفاض معدل التضخم إلى 7%.
ولعل التحسن البادي في استقرار سعر الصرف يساعد البنك المركزي التركي على تحقيق أهدافه، ولكن برامج الحماية الاجتماعية التركية لا تغفل أثر ارتفاع معدلات التضخم على مستوى معيشة الأفراد، فعملت على رفع قيمة الحد الأدنى للأجور لأصحاب الدخول الثابتة، وهم موظفو الحكومة.
- من القطاعات الحيوية التي تأثرت سلبا بالانقلاب العسكري الفاشل في تركيا قطاع السياحة، حيث تراجعت الإيرادات السياحية خلال النصف الثاني من عام 2016 إلى 12.9 مليار دولار مقارنة بـ18.7 مليار دولار للفترة المقابلة من عام 2015، وهو ما يعني تراجع الإيرادات السياحية للفترة المقارنة بنحو ستة مليارات دولار وبنسبة تصل إلى 30%، وقد أدى تراجع الإيرادات السياحية -وهي أحد عوامل الضغط- لانخفاض العملة التركية.
غير أن بيانات معهد الإحصاء التركي تظهر تقلص الفارق في الربع الأول من عام 2017، حيث وصلت الإيرادات السياحية إلى 3.3 مليارات دولار مقارنة بأربعة مليارات دولار في الربع الأول من عام 2016، ويتوقع أن تشهد البيانات الخاصة بالنصف الأول من عام 2017 تحسنا ملحوظا، خاصة بعد عودة السياحة الروسية لتركيا، وكذلك بعض الدول الأوروبية.
استشراف المستقبل
مما يميز التجربة التركية على مدار الفترة من 2003 وحتى الآن أنها تمتلك رؤية للمستقبل، فمنذ عام 2015 والحديث الدائر على أجندة صانع السياسة الاقتصادية بتركيا يدور حول تركيا 2023.
فعلى الصعيد العالمي، تستهدف تركيا أن تكون بحلول 2023 من بين أفضل عشرة اقتصادات على مستوى العالم، وهي تحتل الآن المرتبة الـ17 من بين أفضل عشرين اقتصادا على مستوى العالم.
كما نجحت تركيا خلال الفترة الماضية في أن تكون حلقة مهمة في إطار تجارة الغاز الطبيعي على مستوى العالم من خلال الدخول في مشروعات لخطوط ضخ الغاز الطبيعي من أذربيجان وروسيا إلى أوروبا، وليس هذا فحسب بل استطاعت من خلال هذه الاتفاقيات تأمين قدر كبير من احتياجاتها من الغاز الطبيعي المار بأراضيها، وهي قضية مهمة على صعيد استدامة مشروع التنمية التركي.
وبقدر ما تتيح الظروف الإقليمية الحالية فرصة لتركيا للتوسع اقتصاديا، وأن تكون قوتها الاقتصادية مساعدة لدورها الإقليمي فإن تلك الظروف تفرض تحديات كذلك على اقتصادها، فالأزمة الخليجية جعلت من تركيا رقما اقتصاديا مهما، وأشعرت دول الحصار بضعف ما تلوح به من أوراق اقتصادية لتحجيم دورها الإقليمي أو زعزعة أوضاعها الداخلية، كما فتحت أبواب السوق القطري على مصراعيه للمنتجات التركية، وكذلك ثمة احتمالات كبيرة بأن تستقبل تركيا المزيد من الاستثمارات القطرية خلال الفترة القادمة.
ومن التحديات التي تخلقها الأوضاع الإقليمية للاقتصاد التركي زيادة الإنفاق العسكري لمواجهة مخططات إقامة دولة كردية على حدودها مع سوريا أو العراق، وكذلك مواجهة التنظيمات الإرهابية، كما أن قضية المهاجرين العرب -وعلى رأسهم السوريون- أصبحت تمثل عبئا على الاقتصاد نظرا لتداعياتها السياسية داخليا وخارجيا.
وعلى الصعيد العالمي -خاصة الاتحاد الأوروبي- فقد أظهرت تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشل أنها دولة قوية، ولا تقبل الابتزاز السياسي، وأنها تمتلك اقتصادا قويا لم يتأثر بمحاولة وقف الاستثمارات الأجنبية من أوروبا أو محاولات عرقلة نشاط السياحة.
كما أن توسع تركيا في أفريقيا وفتح أبواب في أميركا اللاتينية وفي آسيا مع دول كبرى مثل الهند أوصل رسالة للاتحاد الأوروبي بأن تركيا لديها مجالات أخرى، وليست أسيرة العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد الذي يعد الشريك التجاري والاقتصادي الأول لها بنحو 60% من حجم الصادرات التركية أو تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وكذلك تدفق الحركة السياحية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس