تركيا تتنصر على عشر دول | ترك برس

ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس

"ليس غريباً أن يكره الغرب وأمريكا وغيرهم أردوغان، فقد كان هؤلاء يتحكمون في كل تركيا وكأنها حديقة من أملاكهم وكنا ننتظر أياماً عندما يسمحوا لنا بزيارة بلادهم أو حتى إحداث أي تغيير في تركيا، وجاء أردوغان ليقلب الصفحة وأصبحوا ينتظرون أياماً لكي يرد على مكالماتهم ولا يستطيعون حتى التحكم في سفاراتهم دون علم الدولة التركية بقيادة أردوغان بعد أن حرمهم من معظم أعوانهم داخل وخارج تركيا، فتركيا أردوغان اليوم تخيفهم، ولم يبق لهم سبيل للسيطرة عليها وعلى تفوقها واستقلالها"، تانسو تشيلار رئيسة وزراء تركيا السابقة.

أصل الحكاية

في كلمة له خلال افتتاح سلسلة مشاريع خدمية بولاية أسكي شهير، شمال غربي تركيا، فجر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قنبلة من تلك القنابل التي تحملها مسيرات بيرقدار، لم يتوقعها أصغر دول العالم ناهيك عمن يظنون أنهم أكابره، قالها أردوغان بصيغة الواثق وثباته سفراء عشر دول غير مرغوب بتواجدهم على أراضي بلاده.

وقال أردوغان بالنص عن السفراء العشرة: (في اليوم الذي لا يعرفون أو يفهمون فيه تركيا، سيغادرونها).

لكن لماذا هذا التصريح الذي يعد في أعراف الدبلوماسية إعلان حرب، ومن هو عثمان كافالا الذي أثار هذه الموجة من التوتر بين تركيا وتلك الدول العشر؟
الحكاية تبدأ مع عودة عثمان كافالا إلى تركيا لإدارة أعمال أبيه بعد وفاته بعد دراسة الدكتوراة في أمريكا التي قضى فيها معظم وقته وتعرف فيها على جورج سوروس، الملياردير الأمريكي اليهودي الذي ساهم في إسقاط الشيوعية في أوروبا الشرقية، ودفعت هذه العلاقة بين كافالا وسوروس إلى استفادة الأخير بكافالا في مشروعات "دعم الديمقراطية" على طريقة شرق أوروبا، مع الوضع في الاعتبار ديانة سوروس وتوجهه الأيدلوجي، فنشط كافالا الذي تعود أصوله لليونان وتحديدا من مدينة كافالا اليونانية قبل أن يهاجر جده تاجر التبغ إلى تركيا للاستقرار فيها، وتنمو تجارة العائلة، ويستخدم عثمان كافالا هذه الأموال في توجهات مضادة لحكومة العدالة والتنمية وتورطه، بحسب رواية الحكومة، في أحداث جازي بارك في 2013 ثم في محاولة الانقلاب العسكري التي خطط لها فتح الله جولن، وتبقى الرواية للحكومة، تربط نشاطاته بعلاقاته بجورج سوروس وأهدافه.

في بيان جمع توقيع سفراء كل من أمريكا وألمانيا وفرنسا وكندا والدنمارك وهولندا والنرويج والسويد وفنلندا ونيوزيلندا، قدم للخارجية التركية طالبوا بالإفراج عن عثمان كافالا، واصفين اعتقاله بأنها قضية تلقي بظلها على "احترام الديمقراطية" في تركيا، وهو ما رآه الرئيس التركي، وبحق، تدخلا في الشئون الداخلية لبلاده، ما استدعى مطالبة اردوغان لوزارة خارجيته إعلان أن السفراء العشرة غير مرغوب في تواجدهم على الأراضي التركية.

كتابة جديدة لقواعد اللعبة

وصفت رئيسة الوزراء الأسبق تانسو تشيلار الحالة التي دفعت السفراء العشرة للإقدام على هذه الخطوة التي قاموا بها، فلقد اعتادت تلك الدول بعد سقوط الدولة العثمانية أن تتعامل مع تركيا بهذه الطريقة، فقد استطاعت بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى فرض وصاية قانونية تمثلت في اتفاقيات مجحفة وقع عليه المهزوم، على أنها أفضل الخيارات بعد حرب التحرير وإعلان الجمهورية بعد انتهاء عصر الدولة العلية العثمانية، كما كانت تسمى في تلك الفترة، فلا البحر بحر الأتراك ولا الممرات، ولا الجيش جيش الأتراك ولا المال مال الأتراك، ولا يطير طائر ولا تمر دابة إلا "بتنسيق" مع الغرب، وحافظ الغرب على الوكلاء ما استطاع، وبارك كل انقلاب على إرادة الشعب لتثبيت الوكلاء ومن قبلهم تلك القواعد التي أوكلوا في تطبيقها على ذلك الشعب الحر.

وإبان الحرب الباردة بين الغرب بقيادة أمريكا والشرق بقيادة الاتحاد السوفيتي، بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت تركيا الجمهورية، قاعدة متقدمة للغرب في مقابل دول الشرق تبنى فيها القواعد العسكرية التي يسكنها جنود أغراب، وتدفع إليها القنابل النووية والصواريخ بعيدة المدى وتنطلق منها الطائرات برغبة الحكومات المتعاقبة أو من غير رغبتها، فالأرض أرض الغرب والقرار قرارهم، وليس للحكومات التركية نصيب من هذه القرارات إلا الإعلام بالأمر حفظا لماء الوجه وترسيخا لتمثيلية الاستقلال التي أخرجها الغرب بعد الحرب العالمية الثانية.

بعد وصول حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم في 2003 تحولت الأمور وتبدلت الأحوال، ولعل المشهد الأشهر للرئيس أردوغان في منتدى دافوس حين ترك الجلسة بعد حديث رئيس وزراء الكيان المحتل عن "السلام" بعد أن قرعه وقرع المنظومة الدولية التي تحمي الجاني على حساب الضحايا، كان إيذانا بعهد تكتب فيه قواعد جديدة للعبة، لا تبعية فيه ولا رضوخ لتركيا أمام أحد.

لقد استطاعت حكومة العدالة والتنمية خلال ثمانية عشر عاما أن تُملّك تركيا أوراق قوة كثيرة انطلقت من الداخل بتمكين الأتراك اقتصاديا وتجاريا وصناعيا، إلى الخارج بامتلاك أوراق للعب مكنتها من الجلوس على طاولة الكبار ترمي بأوراقها فتسقط لاعبين كبارا في مساحات المقبول والمتاح، وهو ما جعل الكل يهرول نحوها في عدد من القضايا الإقليمية والدولية بعد أن أصبحت فاعلا لا يمكن تجاوزه، لكنهم لم ينسوا يوما، مدفوعين بعنجهيتهم، واجبهم في اخضاع الشرق وممارسة مرض السادية الكامن عليه.

حرب لن تنتهي

ولما كان ساسة الغرب مرضى بسادية الاحتلال وعنجهية السادة، وفوقية نظرية تفوق العرق الأبيض فإن الحرب لن تنتهي، وتركيا التي خرجت بشكل كبير من تحت الوصاية يجب أن تعود إلى بيت الطاعة، ولأن من يدير شئونها ليس كسابقيه، فإن عودتها طائعة صعب، ومن لم يرض بالجزرة فليس له إلا العصا.

يقول إيريك إيدلمان، الذي عمل سفيراً للولايات المتحدة في أنقرة من عام 2003 إلى عام 2005 في برقية له لوزارة الخارجية كشف عنها موقع ويكيليكس: (تركيا أصبحت حليفا لا يمكن الاعتماد عليه بشكل كامل).
هكذا يفكر الأمريكان في الإدارة التركية الجديدة، لاحظوا تاريخ البرقية، لم يكن العدالة والتنمية يمتلك أوراقا مثل ما يمتلك الآن، لكن الرجل الحاذق قرأ المشهد من بدايته، وعرف أن هناك قراءة جديدة يجب أن توضع في الحسابات عند كتابة استراتيجية التعامل مع تركيا العدالة والتنمية.

في مقال (إرهاصات انقلاب في تركيا!) تحدثنا عن اللعب على المكشوف وتهديد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بتدمير اقتصاد تركيا، ولعل ترامب قد كشف بصبيانيته السياسية عن الخطة، وقد كان، ونفذت الخطة وتنفذ حتى الآن، وأصبحت الليرة التركية في مرمى نيران الغرب وللأسف أشقاء تركيا في الخليج، ودعوني أنقل لكم قراءة لخبير اقتصادي غربي كبير هو روبن بروكس، كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي (IIF)، الذي يرى في حالة السقوط الحر الذي تشهده الليرة التركية هذه الأيام في وصفه بإن جميع التحليلات الحالية حول الليرة التركية، عبارة عن "ثرثرة تهدف إلى بث الذعر". على حد وصفه، وأضاف بروكس أن البعض يتوقع أن يستمر الوضع الحالي إلى ما لا نهاية، وحذر أن يلتفت المستثمرين لهذه التحليلات التي وصفها بــــ "الهراء" وأكد كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي على أنه لا توجد مؤشرات على حالة من "الدولرة" الناتجة عن الارتباك، مؤكدا على أن حركة تدفق الودائع الأجنبية تسير في منحنى أفقي بالنظر إلى متوسط الحركة خلال الأسابيع الـ 13 الأخيرة، ما يعني أن الأوضاع لا تعدوا أن تكون عاصفة ستمر، مشيرا إلى أن الأزمة التي شهدتها تركيا في أغسطس 2018، كانت أكبر لكنها مرت.

انتهى كلام روبن بروكس لكن الحرب لم تنتهي وتستخدم فيها كل الوسائل سواء اقتصادية أو اجتماعية بتأليب الشعب على بعضه أو على ضيوفه من السوريين فالغرب الذي اعتاد الانتصار في آخر مئة عام لا يقبل أن يهزم من دولة تنمو ولو كانت حليفة.

الواجب والمتاح في هذه الحرب

لما كانت الحرب لن تنتهي على تركيا العدالة والتنمية، فإن هناك واجبات تفرضها علينا الضرورة، واجبات على الحكومة التركية وواجبات على الشعب التركي والحر منهم تحديدا، وواجب على العرب والمسلمين، إذ أن تركيا تمثل نموذجا لمحاولة الانعتاق من منظومة الهيمنة الغربية، والحرب بالأساس على النموذج لا على الفرد أو النظام، فإن نجاح هذا النموذج الملهم سيفتح الباب لاستنساخه أو تقليده، بل والبناء عليه والإبداع في مساحات المتاح لكل دولة تسعى لتحرر حقيقي لا زيف فيه.

لذا فعلى الحكومة التركية أن تنفي عن نفسها الخبث أولا بأول، فالمتطلعين كثر والمنتهزين أكثر، كما أن عليها الاستفادة من قدرات الموهوبين والمبدعين، ليس فقط من أبناء شعبها، ولكن من ضيوفها الذين استضافت منذ الربيع العربي، وهم كثر.

وعلى الشعب التركي وأخاطب الأحرار خاصة منهم، الذين يفهمون قيمة بلادهم وما تمثله للأمة، أن يقفوا خلف قيادتهم ويعلموا أنها حرب الاستقلال الحقيقية لبلادهم، فلا يقصر أحدهم في واجبه نحو بلده، ويترجموا الحب الحقيقي لعلمهم بالعمل والإتقان والدفع نحو الاستقلالية الحقيقية بالإنتاج، كل في مجاله.

وعلى الأمة شعوبا، فلا خطاب للقادة، فهم مكشوفون أمام شعوبهم، أن يستثمر كل في مجاله لإنجاح تجربة تركيا العدالة والتنمية من أجل الانعتاق من هذه الهيمنة، وليدفع الأغنياء منهم بأموالهم في شراكات داخل وخارج تركيا تصب في دعم التجربة وتقويتها بعد أن تخلى عنها الشقيق قبل الصديق، ظنا منهم أنهم يحمون ملكهم، وهو زائل لا محالة ولن يبقى لهم إلا اللعنات بتفويت الفرصة على الأمة للاستقلال.

وعلى الجميع أن يعي أنها حرب لا هوادة فيها من أجل الاستقلال، وقد تفرض عليك السياسة أن تهادن وتغير المربع الذي تقف فيه، لكن دوما تذكر الهدف الذي تحولت من أجله ولا تنسيك التكتيكات الأهداف الاستراتيجية التي نهضت لتحقيقها فإن كانت السفارة الأمريكية قد اعتذرت عما بدر من سفيرها وهو ما يعني أن البقية ستعتذر وهو بالنتيجة يعد انتصارا لتركيا على العشر دول، إلا أني أذكر تركيا وقيادتها وشعبها وشعوب الأمة بمقولة جون كنيدي الشهيرة:

(سامح أعداءك لكن لا تنس أبدا أسماءهم)