ترك برس
تتجه تركيا إلى انتخابات محلية يوم الأحد الأخير من مارس/آذار المقبل، في مشهد بدأت الاستعدادات تتكثف له هذه الأيام، فيما يرى مراقبون أنها ليست مجرد انتخابات لاختيار مسؤولي الإدارات المحلية فقط، بل "نقطة تحول حاسمة في مسيرة الديمقراطية التركية، تقدم صورةً تُجسّد التغيرات الجذرية في البنية السياسية والاجتماعية للدولة".
وبدأت الأحزاب السياسية في تشكيل تحالفات استراتيجية، في حين تواصل أخرى جهودها لتجاوز الخلافات وخلق تحالفات داعمة لها، في انتخابات تُقرر من سيتولى مناصب رئاسة البلديات، وعضوية المجالس البلدية، بالإضافة إلى مخاتير القرى والأحياء. لكن هذه المرة تأتي الانتخابات المحلية في أعقاب معركة الانتخابات الرئاسية الشديدة القوة والتنافسية، التي أسفرت عن فوز الرئيس رجب طيب أردوغان بأكثر من 52% من أصوات الناخبين. كما تمكّن حزب العدالة والتنمية، بقيادة أردوغان، من تعزيز وجوده البرلماني بالفوز بـ268 مقعداً من أصل 600 مقعد في البرلمان.
لذلك يُنظر للانتخابات المقبلة كمعترك سياسي حاسم، ستعمل كمؤشر لقياس أجواء السياسة العامة في تركيا، ملقية الضوء على الاضطرابات المحتملة في المشهد السياسي. فهذه الانتخابات لا تقتصر أهميتها على مستوى الإدارة المحلية فحسب، بل تحمل دلالات أوسع تسبق الانتخابات الرئاسية القادمة في 2028، حيث تسلط الضوء على توجهات الرأي العام ومستوى رضا الناخبين عن الأداء السياسي الراهن، بحسب تقرير لـ "عربي بوست".
فخلال انتخابات 2014 المحلية، حقق حزب العدالة والتنمية إنجازاً كبيراً بفوزه بغالبية البلديات عبر البلاد. مع ذلك، كانت هناك استثناءات بارزة مثل عجزه عن الفوز في إزمير، التي ظلت معقلاً لحزب الشعب الجمهوري. كما بدأ التنافس يشتد مع أحزاب أخرى في مناطق متفرقة من تركيا.
وبرزت هذه التحولات السياسية في تركيا خلال انتخابات عام 2019، التي كانت لافتة آنذاك، حيث جرت في خضم أزمة اقتصادية، وتأثرت بتحالفات انتخابية جديدة، ما جعلها اختباراً جوهرياً للحزب الحاكم، بعد تبنّي النظام الرئاسي في العام الذي سبقه. أسفرت حينها النتائج عن فوز "تحالف الشعب"، الذي يجمع بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، بنسبة مؤثرة قدرها 51.74% من الأصوات، في مقابل 37.64% حصدها "تحالف الأمة"، الذي يضم حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد.
ومع ذلك، واجه الحزب الحاكم تحديات جسيمة، لا سيما في أنقرة وإسطنبول، حيث تمكن مرشحو الحزب الجمهوري من الفوز بإدارة هاتين المدينتين، ما شكَّل مفاجأة بالنظر إلى هيمنة حزب العدالة والتنمية على رئاسة هاتين المدينتين لسنوات طويلة. وبصورة عامة تعكس نتائج البلديات تصاعد التنافس بين الأحزاب السياسية في تركيا وتغيرات في اتجاهات الناخبين.
أما انتخابات 2024 فستشهد منافسةً أكثر حدة، مع إيلاء الأحزاب اهتماماً خاصاً بقضايا كالاقتصاد، وقضية اللاجئين، والإدارة المحلية، والسياسات الاجتماعية، ما سيجعل هذه الانتخابات بمثابة اختبار حقيقي للأحزاب السياسية الكبرى، وستقدم دلائل على المسار الذي من المحتمل أن تتخذه تركيا مستقبلاً.
مَن يحكم إسطنبول يحكم تركيا
تكتسب إسطنبول أهميةً بالغةً في السياق السياسي لتركيا، كما يشير إليها المثل القائل "من يحكم إسطنبول يحكم تركيا"، الذي يبرز قيمتها الاستراتيجية والرمزية كمركز اقتصادي وسياسي حيوي. فالرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، الذي بدأ مسيرته برئاسة بلدية إسطنبول، يُعد مثالاً على كيفية تحقيق الصعود السياسي من خلال هذا المنصب.
وكانت بلدية إسطنبول تحديداً منذ عام 1994 إلى 2019 تحت إدارة أحزاب ذات أيديولوجية سياسية مشتركة، مثل حزب الفضيلة، والرفاه الجديد، والعدالة والتنمية، حيث شهدت المدينة تطورات كبيرة ومشاريع تنموية مهمة، لكن انتخابات 2019 قدمت تحولاً ملحوظاً بفوز حزب الشعب الجمهوري، ما يدل على تغيير في تفضيلات الناخبين، ويبرز ديناميكيات جديدة في السياسة المحلية لإسطنبول.
لذلك يهدف حزب العدالة والتنمية لاسترجاع رئاسة بلدية إسطنبول التي فقدها في انتخابات 2019، محتفظاً بسيطرته على 24 من أصل 39 حياً، بينما يسعى حزب الشعب الجمهوري لتمديد فترة سيطرته عليها لخمس سنوات أخرى.
مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية في تركيا لعام 2024، تبرز توقعات بمنافسة محتدمة تعكس مدى أهمية القضايا الضاغطة التي تواجه الناخبين؛ من الأوضاع الاقتصادية المتقلبة، مروراً بالتحديات الأمنية، إلى القلق المتزايد حول البنية التحتية والاستعداد لزلزال محتمل في إسطنبول.
في هذا السياق، تبرز الاستراتيجيات الانتخابية للأحزاب الكبرى كعامل رئيسي يحدد مسار الأحداث، فنجد حزب العدالة والتنمية، على سبيل المثال، أعلن ترشيح مراد قوروم، وزير البيئة والتحضر العمراني السابق والبرلماني الحالي، شخصية بارزة بسجل مهني متميز في البيئة والتحضر العمراني، لرئاسة بلدية إسطنبول، ما يلقي الضوء على تركيز الحزب على قضايا التحول الحضري والاستعداد للكوارث الطبيعية، في وقت تتزايد فيه التحذيرات من زلزال محتمل.
من ناحية أخرى، تتعرض إدارة أكرم إمام أوغلو الحالية لبلدية إسطنبول، وترشحه لفترة قادمة، لنقض شديد من قِبل الناخبين ووسائل الإعلام على حد سواء، خاصةً فيما يتعلق بمعالجته للقضايا الملحة، ما قد يلعب دوراً في تشكيل رأي الناخبين وتأثيره على نتائج الانتخابات.
أما في أنقرة وإزمير، فتستمر المعارك الانتخابية بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة في رسم ملامح مستقبل السياسة التركية. إدارة منصور يافاش لأنقرة تعتبر مثالاً على كيفية أن الإدارة المحلية الفعّالة قد تعزز ثقة الناخبين وتدعم الأحزاب المعارضة، فيما تستمر إزمير في تأكيد مكانتها كمعقل للمعارضة، رغم بعض التحولات في تفضيلات الناخبين.
إن الديناميكيات السياسية الراهنة في تركيا، كما تتجلى في استطلاعات الرأي والتحليلات الانتخابية، تكشف عن سباق محموم يحمل في طياته تحديات وفرصاً لكل من الأحزاب الحاكمة والمعارضة. هذه الانتخابات ستكون لحظة فارقة تحدد ملامح السياسة التركية للسنوات القادمة، مع اهتمام متزايد بالقضايا التي تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين الأتراك وتوجهاتهم الانتخابية، في ظل التحديات الراهنة والمستقبلية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!