ترك برس
برز اسم حزب "الرفاه مجدداً" في المشهد السياسي التركي مؤخراً، لا سيما بعد حصوله على نسبة غير متوقعة من الأصوات في الانتخابات المحلية الأخيرة، لدرجة انتزاعه بلدية كبرى (شانلي أورفة) من حزب العدالة والتنمية الذي كان قد تحالف معه لدعم الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2023.
وإلى جانب الانتخابات المحلية، أثارت حرب غزة الحالية الخلاف بين "العدالة والتنمية" و"الرفاه مجدداً" بزعامة نجل السياسي الراحل نجم الدين أربكان، فاتح أربكان الذي اتهم الحكومة بغض النظر عن الجرائم الإسرائيلية في القطاع.
كل هذه التطورات طرحت تساؤلات عما إذا كان "الرفاه مجدداً" سيكمل مسيرة الراحل نجم الدين أربكان في تحقيق استقلالية تركيا على مختلف الأصعدة وإعادتها إلى المعسكر "الشرقي الإسلامي"، أم أنه سينخرط في "التيار الشعبوي المعارض"، لا سيما وأنه بات ينتهج نهج باقي أحزاب المعارضة اليسارية في معاداة المهاجرين واللاجئين والتوعد بترحيلهم والتضييق عليهم في الولايات التي فاز الحزب ببلدياتها.
الكاتب ياسر عبد العزيز، سلّط الضوء في مقال على موقع "ميدان"، على مستقبل "الرفاه مجدداً" في السياسة التركية خلال المرحلة المقبلة.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
بعد أن قضى الأستاذ نجم الدين أربكان ثلاث سنوات في السجن على إثر انقلاب 1980 بعد أن حملته موجة الحريات التي عمت البلاد إلى خارج أسوار سجنه، ليعود للحياة السياسية، ويؤسس حزب الرفاه في عام 1983 بعد خروجه مباشرة مستفيدا من حالة الانفتاح على الحريات التي تسربت من قبضة العسكر في عهد حكومة تورغوت أوزال، ومن ثم شارك في انتخابات العام نفسه، لكنه لم يحصل سوى على 1.5% من الأصوات، لكن الرجل الذي عرف عنه الإصرار.
لم ييأس الأستاذ، وواصل جهوده السياسية حتى أفلح في الفوز في عام 1994 بأكثر من 400 بلدية كبرى وصغرى، بما في ذلك ولايتي أنقرة وإسطنبول، هذه الانتخابات أظهرت تزايد شعبية حزب الرفاه، ما أهله لخوض الانتخابات البرلمانية عام 1996والفوز بالأغلبية فيها، ليشكل حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيللر، ويترأس مؤسس الحزب ورئيسه الأستاذ نجم الدين أربكان الحكومة بما له من مقاعد أكثر في البرلمان، وللمصادفة كان وزير الدولة في هذه الحكومة والمتحدث باسمها عبد الله جول، مؤسس حزب العدالة والتنمية بعد ذلك والمنشق على حزبه والخراج من عباءة أستاذه إلى مساحات أرحب، بحسب رؤية الشباب في الحزب، حينها.
استطاع أربكان وأحزابه أن يؤثروا في المجتمع التركي بعد أن أحدث نهجه في القضايا الاجتماعية والسياسية جدلا كبيرا لا سيما في نظرة الحزب للجمهورية والأسس التي قامت عليها، حتى إن البعض يرى أن الحزب أحدث زلزالا على مستوى القضايا الاجتماعية والثقافية، بعد ترويجه للقيم الإسلامية والسعي لتطبيقها في مجتمع اتخذ من العلمانية منهجا ودستورا، فأثارت نظرة الحزب ومؤسسه جدلا واسعا حول العلمانية وعلاقتها بالدين.
إلا أن الجدل لم يقتصر على نظرة الحزب الفلسفية لعلاقة الدين بالعلمانية وهوية المجتمع وجذوره التي دعا للعودة إليها ونبذ الاتجاه غربا، حتى أن "الأستاذ" طالب بالانسحاب من حلف "ناتو" في إشارة إلى منطلقات الحلف المخالفة للقيم الحقيقية للمجتمع التركي سليل الخلافة الإسلامية، لكن الخلاف ثار أيضا على سياسيات الحزب الاقتصادية التي دعت إلى الاقتصاد "الإسلامي" والتوزيع العادل للثروة، ومن ثم الاستفادة بثروات الأمة الإسلامية الكثيرة المهدرة والمنهوبة لصالح أفراد الأمة ودولها، لكن الظروف والقوى المناهضة لم تمهل الرجل وحزبه، فكان انقلاب عام 1997 الذي أطاح بالرجل وحزبه بعد أن أنهت موجة الحريات حالة المد، وتتحول إلى حالة الجذر فتسحبه الموجة من جديد إلى زنزانة في السجن.
مع اختلاف الأوضاع والأحوال، ومع تقليم أظافر العسكر، ومع وضع أسس مفاهيم جديدة للعلمانية في المجتمع، ومع إعادة تشكيل المحكمة العليا وتحول نظرتها لتفسير دستور الدولة، يطل علينا الرفاه من جديد من عباءة الأب المؤسس، فالوارث الابن، محمد علي فاتح أربكان، ورغم تقديمه برنامجا جديدا لحزبه الذي أصر أن يكون بنفس الاسم الذي اختاره والده لحزبه ووصل على صهوته لرئاسة الوزراء في الدولة، يشهر فاتح أربكان سيفه، ويصرخ صرخته أن حزبه قادم، بعد أن حقق نجاحان مهمان في فترة قصيرة في الانتخابات البرلمانية ثم الانتخابات البلدية، حزب الرفاه من جديد الذي تأسس في نوفمبر 2018 بعد أن انشق مؤسسه فاتح أربكان عن حزب السعادة، أخر حزب أسسه والده قبل وفاته، بعد أن أغلقت المحكمة، وحظرت كل الأحزاب التي أسسها، ومنها حزب الرفاه في عام 1998
حزب الرفاه من جديد خرج من عباءة أفكار "الأستاذ" ومن ثم يمثل تيارا محافظا دينيا واجتماعيا في تركيا، ويحمل مبادئ تيار الرؤية الوطنية التي وضعها أسسها الأستاذ نجم الدين أربكان، ما يعني أن أيدلوجية الحزب القومية منبثقة من أفكار وتوجهات "ميلي جروش" التي تعنى بتعزيز القوة المعنوية والروحية للعقيدة الإسلامية، وتحث على الالتزام بالقيم الدينية، وتسعى للتصدي للتأثيرات الغربية، وهو ما نطق به برنامج الحزب وأهدافه الذي يهدف إلى إقامة عالم جديد ونظام عادل تحت قيادة تركيا الكبرى مرة أخرى، ويرفض ويعارض الصهيونية، ويسعى لمجتمع سوي وفق الشريعة الإسلامية، ما يعني تأسيس مجتمع قوامه الأسرة بالمفهوم التقليد، رفضا للمعاني المستحدثة في الغرب للأسرة والجنس، وهو في كل ذلك يتشابه كثيرا مع حزب العدالة والتنمية.
دخل حزب الرفاه من الجديد انتخابات 2023 البرلمانية والرئاسية تحت مظلة تحالف الجمهور، بعد أن تنازل فاتح أربكان عن ترشحه لرئاسة الجمهورية للرئيس أردوغان ونسق معه في الانتخابات البرلمانية ليحصل على 1.5 مليون صوت، مما يمثل نسبة 2.8% من إجمالي أصوات الناخبين، ما أهله لشغل 5 مقاعد بالبرلمان لأول مرة منذ تأسيسه، لكنه في الانتخابات البلدية، قرر الحزب الانسحاب من تحالف الجمهور الذي يترأسه العدالة والتنمية، في تحدي كبير لذاته، قبل أي شيء، ما أطلق جرس إنذار للمراقبين أن كيانا ما ينموا بقوة وبسرعة في مساحات كانت مغلقة على الخمسة الكبار.
لكن توقيت القرار، كان مبني على الحالة التي يعيشها الشارع السياسي التركي، ما يسمح للرفاه من جديد المنافسة في ظل تراجع أحزاب، ويحتاج داعموها أن يجدوا مركبا غير ذلك الذي قرروا النزول منه يوصلون به أصواتهم، ويحققون به رغباتهم، فحزب الحركة القومية الذي بدأ في السنوات العشر الأخيرة، يصطبغ بصبغة إسلامية ليشبه شريكه في التحالف (العدالة والتنمية) والأخير، بدأ يتخلى عن بعض ثوابته، باتجاه حالة أكثر برجماتية، لتدارك مكاسب تتسل من بين يديه بعد المواقف القوية التي اتخذها تجاه بعض القضايا والدول والأشخاص، وتململ قطاع واسع من حزب سعادات من مواقف قيادة الحزب سواء على مستوى التحالفات الداخلية التي تضاد مبادئ الحزب "الإسلامي" أو الخارجية التي جعلت الحزب وكيلا لأحدى القوى الإقليمية في البلاد، على الرغم من اختلاف الأيدلوجية، وعلى الجهة الأخرى فإن القوميين في حزب الجيد، قرروا أن يمتنعوا أو يذهبوا إلى الحزب الأقرب، حزب الشعب الجمهوري، كل هذه المؤثرات، خدمت قرار خوض حزب الرفاه الانتخابات البلدية منفردا.
لكن علينا أن نشير إلى أن القرار يرسم ملامح جديدة للمنافسة السياسية، ويعكس فصلا جديدا من التنافس والاستقطاب السياسي في تركيا، في ظل القراءة السابقة، ولما كان الرهان رابحا وحقق الرفاه من جديد المفاجأة وحصل على أصوات فاقت الأصوات التي حصلت عليها حزب المستقل وسعادات والديمقراطي والمملكة والاتحاد الكبير والنصر، فإن صعوده هذا في ظل توافقه في الأيدلوجية مع الحزب الحاكم يجعله معارض شرس ومنافس لا يستهان به في ظل تخففه من أعباء السلطة وقيودها ومحدداتها، لا سيما وأن أصوات المحافظين التي خسرها العدالة والتنمية في الغالب ذهبت إلى الرفاه من جديد إن لم تمتنع حتى تحدد هدفها، يكون أربكان حاضرا من جديد، ويكون حزبه هدف من أحجم في انتخابات البلديات، وهل يفعلها الرفاه من جديد بعد 26 عاما؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!