ترك برس

نقد للمجتمع من أجل القرن الجديد 

من المؤكد أن التجريدات المتعلقة ببنية المجتمعات لا تغطي الواقع بكامله. ومع ذلك، فإن كل أنواع التجريد تساعدنا على فهم الجوانب المهمة والمهيمنة للظواهر. وأي تجريد متعلق بخصائص المجتمع التركي سيسهل علينا فهم السمات المهيمنة للوقائع القائمة، مع وجود استثناءات مرتبطة بالزمن والظروف. هذه المحاولة التجريدية تتضمن أيضًا التحديد الصحيح والنقد للخصائص التي هي نتاج الظروف التاريخية والاجتماعية. وهذا النقد التجريدي كان أحد أهم المحركات الأساسية للانتقال من الأنظمة الزراعية العسكرية إلى عصر الصناعة ثم إلى عصر المعلومات.  

نقد المجتمع، خاصة منذ عصر التنظيمات العثمانية، أنتج ردود فعل معاكسة وأفرز تيارًا محافظًا يقوم على الدفاع عن القديم. وأنتج الصراع المستمر منذ مئتي عام بين التيار المبتكر للغرب والوسط المحافظ المتمسك بالوضع الراهن مجتمعًا منهكًا جسديًا ونفسيًا ومحبطًا، ورسّخ لدى أفراده رد فعل دائم القلق على الأمن والوجود والبقاء من قبل “النخبة الحاكمة”. في حين أن التطور والتقدم لا يتحققان مع هذه السمة السلبية للدولة والمجتمع، بل في بيئة واثقة، وحرة، ونقدية.  

بشكل أو بآخر، قضت تركيا المئتي عام الماضية في هذه الفوضى المضطربة. تقدمت أحيانًا وتراجعت أحيانًا أخرى، لكنها قدمت العديد من الضحايا. تمت التضحية بأذكى أبناء المجتمع بسبب سياسات ناتجة عن مخاوف أمنية مريضة، بينما كانت هناك حلول بسيطة متاحة. وقاموا بإهدار الثروة الوطنية في حروب أهلية معظمها مصطنع. كما جرى استنزاف التراث الفكري في آبار أيديولوجية عقيمة وسط تناقضات وصراعات عبثية. وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها المجتمع يعاني من انفصام حقيقي، حيث يتم تقديس لحظة تاريخية معينة وتصوير ما قبلها أو بعدها على أنها عدوة.  

الدولة والعديد من التنظيمات الأيديولوجية والإثنية والدينية التي تبدو معارضة لها ولكنها في الحقيقة نسخة تقليدية مقلوبة منها، تحالفت لتحويل البلاد إلى بانثيون وثني ضخم. في هذا البانثيون، يجبر الجميع الآخرين على عبادة آلهتهم، لكن في الواقع لا أحد يؤمن حقًا بأي شيء، ويتم استخدام كل ما هو واقعي، وحقيقي، وصحيح، وأصلي، وعالمي كأدوات ذات قيمة استخدامية فقط.  

يجب أن يكون وقف هذا الدمار الاجتماعي، الذي يمثل امتدادا للانهيار السياسي العثماني، الجهد الفكري الأهم اليوم. يجب إبطال كل أشكال التفكير الوثني، وكل التناقضات والصراعات المزيفة (مثل الجمهورية، والدين، والعلمانية، والطائفة، والعرق، إلخ)، وكل أساليب الولاء الاستهلاكي.  

في هذا السياق، يجب أولاً أن تتحول تقنية التفكير النقدي من أداة كاريزمية فكرية إلى سمة اجتماعية تسيطر على كل أنسجة الدولة والمجتمع. إذا لم تستطع تركيا إنشاء بيئة جديدة يتم فيها تحقير كل أشكال الوثنية وتمجيد الحقائق الملموسة والأهداف الحقيقية فقط، فإنها ستفوت القرن الجديد، وسوف تتم التضحية بكل الإمكانات الإيجابية الموروثة من التاريخ والجغرافيا في هذه الصراعات الفارغة.  

في التحليل النقدي للمجتمع، تكمن المشكلة المركزية في طابع “الأمة – العسكرية”، والنقص الأساسي هو الجغرافيا السياسية المبنية على البر بعيداً عن البحر. هذه السمات تشبه إلى حد كبير السمة الوطنية المشتركة للمجتمع التركي بكل تنوعاته العرقية والدينية والطائفية. ورغم أن هذه السمات تشكل مصدراً للعديد من المشاكل، إلا أنها في نفس الوقت تعتبر بمثابة الأساس للعديد من الحلول المحتملة.

الأمة العسكرية: الولاء للقوة والسلطة والمكانة

يُلخِّص أحمد مدحت أفندي، أحد مثقفي عصر التنظيمات، طبيعة المجتمع بناءً على عدم براعته في التجارة والصناعة، فيقول: “يُظهر لنا تاريخنا أن نشأتنا الأولى كانت على شكل أمة عسكرية، وعلى الرغم من أننا أظهرنا براعة كبيرة في الصناعة أيضًا، وتمكنا من توسيع نطاق انتشار تجارتنا حتى بعض سواحل البحر الأبيض المتوسط، إلا أننا لا نستطيع إنكار أن هذه الإنجازات كانت في الغالب من نصيب الجزء غير المسلم منا، وليس الجزء التركي والمسلم. إذا أخذنا في الاعتبار نسبة العناصر الإسلامية ذات الطابع العسكري داخل أمتنا وقارنّاها بعدد الجنود الذين كنا نرسلهم إلى بعض المعارك المشهورة، فسنجد أننا حتى فترات قريبة، وربما حتى اليوم، نعتبر أمة عسكرية بأكملها. أي أن المقولة التي تفيد بأن ‘أي شخص لا ينتمي إلى الإنكشارية أو السباهي أو غيرها من الفئات العسكرية فهو غير مسلم’، كانت صحيحة جدًا. في حين أن تقدم الصناعة والتجارة يتحقق في ظل السلام، بل والسلام الدائم، لكن السنوات التي قضيناها في سلام كانت قليلة جدًا”.

(أحمد مدحت، الاقتصاد السياسي، نقلاً عن شريف ماردين، العلوم السياسية والاجتماعية، دار إيليتيشيم للنشر، 1992، ص. 92).

بجانب هذه السمة الوطنية، يُعتبر الجيش في نظر الشعب “موقدا نبويا” ويمثل جوهر الدولة. فهو ضمانة الوجود والبقاء، وحماية الوطن والبلد. لقد تمكّنت إمارات السلاجقة والإمارة العثمانية من الوصول إلى المنطقة، والاستقرار فيها، وتبني دور سيف الإسلام، ومن ثم إقامة الهيمنة السياسية، وذلك من خلال روح الجهاد والفتح. واستمرت التقاليد القتالية هذه حتى في مراحل تشكيل الدولة، حيث اقتصرت معيشة واهتمام العناصر المسلمة على الحرب والمهن المرتبطة بها. وتركت الدولة العثمانية التجارة والحرف للعناصر الأخرى. ولعل هذا هو السبب الذي جعل العديد من المؤرخين يشيرون إلى أن النظام الاقتصادي الذي كان تحت سيطرة الأقليات غير المسلمة في الفترة الأخيرة من الدولة العثمانية لعب دورًا في الاعتماد على الغرب كأحد أسباب الانهيار. تقع جذور هذه السمة المهيمنة في العيش تحت نظام شبه عسكري لقرون طويلة. وهذا أيضًا هو سبب الأهمية الخاصة والولاء المفرط للدولة والجيش.

وعلى النقيض من المناطق الغنية المستقلة والبنية المجتمعية القائمة على الطبقات التي تشكلها في المجتمعات الغربية، فإن المجتمع التركي تهيمن عليه بنية تتركز فيها السلطة والمكانة في يد الدولة. في الواقع، من الحقائق التاريخية المعروفة أنه خلال فترات صعود الدولة العثمانية، تم تعزيز بنية الدولة والجيش أولاً وقبل كل شيء، وخلال فترة الانهيار، تم تفعيل رد الفعل المتمثل في “إنقاذ” أو “إصلاح” الدولة أولاً، وهو ما لا يزال يهيمن على كل الأوساط السياسية حتى اليوم. لم تكن هذه الأدوار المركزية للدولة، التي تمثل السلطة، وللجيش، الذي يمثل قوتها، مجرد حالة مؤقتة ناتجة عن الضرورات العملية، بل تحولت إلى أيديولوجية قوية متجذرة في الخيال الاجتماعي.

في هذا الصدد، من الأكثر واقعية تحليل البنية الاجتماعية لتركيا من خلال نموذج المركز والقاعدة الهرمي وليس من خلال التحليل الطبقي أو ثنائية المركز-الأطراف الدائرية. يمكن تفسير المجتمع من خلال مخطط يتشكل من الأعلى (الحكام، وأصحاب المكانة، والسلطة) إلى الأسفل (الرعايا، والعامة، والشعب، والمحكومين). المركز في الأعلى، والأطراف في الأسفل. الدولة والرعايا، والحكام والمحكومون، والنخبة والعامة، هي فئات لا تقوم على أساس طبقي أو عرقي، بل في سياق الدولة. يعبر هذا المخطط الهرمي إلى حد كبير عن الهيمنة غير القابلة للنقاش للسلطة والمكانة (الجيش والدولة) على الشعب. الطاعة (البيعة) للجهة التي تضع نفسها في المركز الأعلى هي مطلب ديني وتقليدي. في هذا المعنى، الدولة والجيش هما مؤسستان دينيتان، والدين، أي الإسلام الواقعي الذي يؤمن به ويعيشه غالبية المجتمع، هو دولاني وعسكري. هذه الصيغة تنطبق أيضًا على العلاقة بين المسيحية والدولة البيزنطية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية الأرثوذكسية. ربما يكون هذا الطابع الديني شرطًا ضروريًا لطبيعة الدولة وشرعيتها وبقائها في هذه الأراضي.

مع أخذ هذه الحقيقة في الاعتبار، يمكن تصور عملية إصلاح تتضمن إمكانيات العصر الجديد من خلال منظور يرى الدولة العسكرية والأمة العسكرية ليس كمشكلة، وإنما كفرصة.

أشكال الولاء للقوة والسلطة والمكانة، بأساسها الديني، تسهل الطاعة القائمة على الرضا. ولكن لنفس السبب، فإنها تشرعن أيضًا الاعتراض والتمرد. وعندما تنحرف الدولة عن العدالة، يفتح باب الاعتراض.

من ناحية أخرى، يعمل نظام الوظائف الحكومية، أي نظام الخدمة المدنية بمستوياته العليا والدنيا، على إدارة عجلة الدولة بفضل طبقة نافذة تشكلت عبر الانتقاء الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، تنشأ في المجال المدني خارج نطاق الخدمة المدنية مناطق شبه مستقلة، وكوادر خفية، وتركيز اجتماعي واقتصادي مختلف. معظم مخاوف الدولة الأمنية ناتجة عن تطور هذا المجال المدني خارج نطاق السيطرة والمراقبة. العديد من المشكلات ذات الطابع الديني أو الأيديولوجي أو العرقي هي في الواقع نتاج تسييس هذه التطورات الاجتماعية الخارجة عن السيطرة. في كل مرة تقوم فيها الدولة بقمع المجالات المدنية بهدف السيطرة – أي الحفاظ على النظام والاستقرار – تزداد عمليات التسييس الخارجة عن السيطرة. هذا التناقض يؤدي إلى اختلال التوازن بين الحرية والأمن. عندما يقمع الأمن الحرية، تتفاقم مشاكل الأمن. أما في الحالات التي توفر فيها الحرية الأمن، فإن تحقيق الأمن يصبح أسهل. لأن النظام والاستقرار هما حالة من الأمان حيث يتم تأمين الحياة، المال، والشرف، والعقل، والنسل، وهذا بالفعل هو الأمن. الحرية، أي في بيئة يتم فيها ضمان الحقوق والعدالة، تصبح طاعة للنخبة الحاكمة في الدولة ضرورة شرعية. الدين، بهذا المعنى، هو الغراء الذي يربط بين الدولة والمجتمع في هذه الأراضي. في الحالات التي تقيد فيها الدولة الحريات، أو يتم انتهاك حقوق الأفراد أو الجماعات، يتحلل هذا الغراء وينهار النظام.

كلما كانت قوة المجتمع في المجالات المدنية أكثر اكتفاءً ذاتيًا (أوتاركية)، كانت الحريات والأمن أكثر متانة. لذلك، إذا تحولت سيطرة الدولة ومراقبتها للمجالات المدنية من كونها آلية للتحكم الذاتي تعزز هذه القوة، إلى فرض مطالب سياسية أو أيديولوجية أو طبقية للنخبة الحاكمة على المجتمع، أو تقليم ما يعارضها، فإن الدولة تفقد شرعيتها وتتحول إلى أداة للطبقات الحاكمة المتصارعة مع المجتمع. في هذا السياق، قيل إن “دين الدولة هو العدالة”، وقد اعتُبرت مبادئ دولة القانون دائمًا معيارًا أساسيًا.

الصيغة القديمة المتمثلة في توفير الأمن مقابل الضرائب، وما ينتج عن ذلك من حريات، والتي كانت سمة طبيعية للإمبراطوريات الزراعية العسكرية، استمرت في العصر الحديث مع بعض التعديلات. ربما يتم تطبيق صيغ أكثر راحة في بعض دول أمريكا أو أوروبا حيث التهديدات الداخلية والخارجية قليلة، ولكن في ظل ظروف مثل الأزمات الاقتصادية أو التهديدات الخارجية أو قضايا الهجرة، تنهار هذه الراحة وتبدأ القواعد القديمة في العمل. أي أن المبادئ الليبرالية الديمقراطية، كما هي على الورق، لا تصمد أمام المشكلات الملموسة.

تركيا، بسمتها كأمة عسكرية، وهرمها السياسي الهرمي، ونسيجها الاجتماعي المرتبط بالقوة والسلطة، تقع في منطقة تنتج باستمرار تناقضات اجتماعية واقتصادية وأيديولوجية. وهي ملزمة بحل مشاكلها في سياق الدولة. الأمثال الشعبية مثل “إما أن تحكم الدولة أو تأكل الغربان الجيف” أو علاقة الإمام بالجماعة تشير إلى هذه الحقيقة التي يجب إدراكها، وليس إلى كمال مرغوب فيه. ولاء المجتمع للدولة وطاعته، سواء كانت طوعية أو قسرية، رغم كل نتائجها السلطوية والاستبدادية وخلقها لللامسؤولية، تظل الصيغة الوحيدة لإنشاء النظام والحفاظ عليه؛ “الفقراء، على عكس التجار، ليس لهم راع سوى الدولة”. لذلك، فإن حل المشكلات السياسية والاقتصادية، وكذلك العرقية والطائفية والدينية، يكمن في عودة الدولة إلى طبيعتها الأصلية، أي أن تُحكم بالعدالة والقانون (وهذا ما يعنيه الدين/الشريعة في الجوهر)، وتعزيز المجتمع في المجالات المدنية، وجعل الحريات ضمانًا للأمن، وفي النهاية، تملك المجتمع للدولة. في هذا السياق، لن تكون الأمة العسكرية، مجرد رعايا للنخبة الحاكمة، بل ستصبح العمود الفقري الرئيسي الذي تتحمل مسؤوليته وتقدم له الحساب. فقط بهذه الطريقة يمكن أن تكون الدولة أبدية.

فارس البر وخوفه من البحر 

“…ثم توجه السلطان ملكشاه إلى صمان داغ (السويدية) حتى وصل إلى البحر الأبيض المتوسط. وبينما كان السلطان يشاهد البحر بمشاعر مليئة بالإثارة والحماس، شكر الله على أن الأراضي الواقعة تحت حكمه أصبحت أكثر اتساعًا مما كانت عليه في عهد أبيه ألب أرسلان. وبفخر واندفاع ناتج عن هذه الأفكار، دفع بفرسه نحو الأمواج المتلاطمة وغمس سيفه في المياه ثلاث مرات ثم رفعه قائلًا: ‘هذا ما وهبني إياه الله، السيطرة على البلاد من البحر الشرقي إلى البحر الغربي’. ثم صلى وشكر الله على هذه النعمة والمنة التي أنعم بها عليه. وفي تلك الأثناء، أخذ السلطان حفنة من رمال الشاطئ، وفي وقت لاحق، ذهب إلى قبر أبيه ألب أرسلان في مدينة مرو وقال: ‘يا أبي ألب أرسلان، أبشر، فقد فتح ابنك الذي تركته طفلًا العالم من أقصاه إلى أقصاه’. وهكذا عبر عن مشاعره المحقة والمفعمة بالفخر”.

(إ. قفص أوغلو، الإمبراطورية السلجوقية الكبرى في عهد السلطان ملكشاه، إسطنبول 1953).

عالم السلطان السلجوقي ملكشاه، امتد حتى البحر. هذه القصة المعبرة تحتوي على حقيقة مهمة حول حدود الجغرافيا السياسية البرية. في الواقع، حتى قبل وصول الأتراك، كان عالم الشعوب المسلمة الأخرى في المنطقة مثل العرب والفرس والأكراد وغيرهم أيضًا محصورًا في اليابسة. باستثناء الفئات التي تعتمد على التجارة، لم تكن البحارة مصدر رزق أو موضوع فضول أو حتى مجال أمني للشعوب التي تعيش حول بحر قزوين والخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود والمحيط الهندي. مصير المجتمعات التي تعيش على اليابسة حول العديد من البحار كان سيتغير مع غزو الشعوب التي استطاعت عبور المحيطات المفتوحة بدءًا من القرن الخامس عشر. فالخوف من البحر كان سيجلب ما يخشى منه.

النظام القروي المتناثر الذي أشار إليه دوغان أوجي أوغلو في الستينيات تم تجاوزه بشكل ما من خلال نقل السكان من الريف إلى المدينة والتحضر غير المنضبط. ولكن مثل العديد من القضايا الأخرى، لم يتم التفكير في عواقب هذه السياسة الصحيحة، مما أدى إلى ظهور ما نراه اليوم من المدن الشبيهة بالقرى. هذه العملية، التي جعلت التحضر الحديث عاجزًا وتركت الزراعة مهملة، أصبحت الآن أرضية لمشاكل اجتماعية واقتصادية خطيرة. ولا يزال هذا التطور الفوضوي العقبة الأهم أمام تحول الناس، الذين يعانون من صعوبات المعيشة الأساسية من عامة الشعب إلى الأمة. التحضر ليس فقط الأساس للاقتصاد السياسي الحديث، بل أيضًا لأعمق تطور ديني وأخلاقي.

من ناحية أخرى، لم يتمكن شعب الأناضول، الذي عاش لقرون في شبه جزيرة، من الوصول إلى البحار المفتوحة باستثناء الصيد الساحلي المحدود، وبالتالي لم يعرف أبدًا البحار الشاسعة. بمعنى آخر، إنه مجتمع لم يختبر أبدًا الشجاعة للتعامل مع عدم اليقين والمخاطر غير المتوقعة في المحيطات، ولم يشعر أبدًا بإحساس الحرية ومتعة اكتشاف أماكن جديدة. (حتى العثمانيون حاولوا جزئيًا الحفاظ على وجودهم في البحر الأبيض المتوسط من خلال استئجار قراصنة متوسطيين).

على عكس المجتمعات التي لديها إمكانية الوصول إلى البحار المفتوحة، فإن الحياة في المناطق البرية كانت تتميز بفوضى واضرابات لا تنتهي من الصراعات بين الدول، والأمراء، والباشوات، واللصوص، والجيوش. الأولوية الحيوية في مثل هذه الجغرافيا، هي أن يحافظ الأقوى على النظام والاستقرار، أي ضمان السلام والأمن؛ وهذا هو السبب الأساسي للولاء للقوة والسلطة والمكانة. بمعنى آخر؛ “إما أن تحكم الدولة أو تأكل الغربان الجيف”…

الجغرافيا ليست قدرًا، بل هي فرصة. عندما لا تستطيع المجتمعات البرية أن تحسن استغلال الجغرافيا بشكل صحيح، فإنها تنتج شخصية غير قادرة على الانفتاح على العالم وتكافح مع مشاكلها الداخلية.

نتيجة كونها مجتمعًا بريًا، فإن حقيقة “الأمة العسكرية” هي مصدر حقيقة “الدولة العسكرية”.

البحر يعني أرضية غير مستقرة ومتقلبة ورياحًا غامضة. الإبحار على أمواج هائلة والتوجه وفقًا للرياح يتطلب مهارات وقدرات وتقنيات جديدة وثقة مختلفة مقارنة بالأرض الصلبة والعوامل المستقرة على اليابسة. العديد من ممارسات الحياة المعتادة في السهول الشاسعة والجبال الشاهقة والممرات الوعرة ووديان الأنهار في جغرافيا أوراسيا لا تنطبق على البحر. علاوة على ذلك، فإن البحر، وخاصة المحيط، مليء بالمخاطر الغامضة والتي لا يمكن السيطرة عليها، ويتطلب مهارات دقيقة جدًا للإبحار وتحديد الاتجاه والوصول إلى الشاطئ.

إكمال مهمة حتى النهاية بنفس الطاقة والرغبة والنية هو في جوهره طابع البحارة. لأنهم مضطرون للوصول إلى الشاطئ.

بينما تواجه شعوب البر مئات المتغيرات بين المكان الذي تبدأ منه والمكان الذي تنتهي فيه. وفي كثير من الأحيان، يضطرون إلى التعامل مع المشاكل التي تواجههم قبل الوصول إلى الهدف. هذا هو السبب الأساسي وراء بدء المجتمعات البرية للأعمال بسرعة وفشلها في إنهائها.

الاكتشافات الجغرافية مكّنت شعوب أوروبا من عبور البحار والانتشار من أوراسيا إلى العالم وغزوه. أوروبا مدينة لقدرتها على أن تصبح قوة عالمية للاستعمار الحديث والرأسمالية التي تشكلت من خلال هذه المشاريع عبر البحار. الجغرافيا السياسية البرية لألمانيا وروسيا، اللتين لم تتمكنا من الوصول إلى البحار المفتوحة، هُزمت دائمًا أمام القوى البحرية. لقد تبين أن الذي كان على حق في عالم القرنين التاسع عشر والعشرين، ليس البريطاني ماكندر، الذي قال “من يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم”، وإنما الأمريكي ألفريد ت. ماهان، الذي قال “من يسيطر على البحار يسيطر على العالم”.

في القرن الحادي والعشرين، أصبحت نظرية الهيمنة الجوية لألكسندر دي سيفيرسكي هي السائدة.

في القرن الذي نعيش فيه، بدأت خطوة جديدة في العصر ما بعد الحداثة، وأصبح السعي لتجاوز البحر السماوي، أي الهواء، والهيمنة على السماوات، الدافع الرئيسي للتطور. (الهواء هو بحر مكرر. حتى في العصور القديمة، استخدمت العديد من الثقافات تعبيرات تشير إلى السماء على أنها نوع من البحر. اليوم أيضًا، هناك استخدامات مثل “مطار” و”سفينة فضائية”، وهي في الواقع تحمل نفس المعنى. في النهاية، الهواء هو أيضًا بخار الماء. “لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون” (القرآن الكريم، سورة يس، الآية 40)، “يولد الهواء حال موت النار، وتولد المياه بموت الهواء” – هرقليطس)

التكنولوجيا العسكرية والصناعات الجانبية التي تنتجها في العصر الرقمي تعتمد بشكل كامل تقريبًا على القوة الجوية وتداول-نقل الهواء (التردد).

بالنسبة لدول مثل تركيا، التي لم تتجاوز بعد التاريخ الذي تشكل على اليابسة، فإن الوصول إلى البحر السماوي، أي الهواء-الرياح-نقل التردد، الذي يعتمد عليه العصر الجديد، لا يزال هدفًا بعيدًا على الرغم من الجهود الناجحة المتأخرة. البحر والهواء، اللذان يتطلبان مهارات جديدة وثقة مختلفة، هما الفرص الجديدة للمجتمعات البرية لتجاوز عاداتها الممتدة منذ آلاف السنين وأن تصبح فاعلة مرة أخرى في اتجاه تيار التاريخ.

كمجتمع، في جغرافيا محاطة بالبحار من ثلاث جهات، أصبح من الضروري الآن الإبحار نحو المحيط والانطلاق في رحلة البحر السماوي الذي يرى كل شيء، كشرط أساسي للتغيير المادي والروحي.

تركيا بحاجة إلى سياسات موجهة نحو البحار المفتوحة تتجاوز الملاحة الساحلية، لتحقيق انفتاح أمني واقتصادي واجتماعي. يجب أن يعتمد ما لا يقل عن 20٪ من السكان على البحر والهواء من أجل العيش، وأن تشغل ما لا يقل عن 40٪ من الطاقة الفكرية قضايا تتضمن مهن عصر البحر والهواء. كما يجب أن تصبح القوة البحرية والجوية للدولة أكبر من القوات البرية. جيش بحري وجوي سيجعل الطابع العسكري أكثر انفتاحًا وقدرة.

نقل الماضي البري إلى مستقبل بحري وجوي ممكن فقط من خلال عملية تطور وتحول تتوافق مع طبيعة الدولة العسكرية والأمة العسكرية. يجب أن يُنظر إلى الخوف من البحر والهواء ليس كعائق يقيد روح فارس البر، بل كحافز لفتحها وتطويرها وتوسيعها. عندها فقط سيتحرر التاريخ في هذه الجغرافيا من الحصار ويبدأ في التدفق مرة أخرى في مساره الطبيعي.

 الأفق الجيوسياسي هو إمكانية للتحول المجتمعي أيضا 

الخصائص الاجتماعية لتركيا تعمل على إدامة نظام شمولي، ودولاني، ويهدف إلى الحفاظ على الوضع الراهن، ويقسم المجتمع ويُضعفه في نفس الوقت. ومع ذلك، يمكن لهذه الخصائص نفسها، من خلال تقييم مختلف، أن تتحول إلى ديناميكيات إيجابية للتطور والتكامل في القرن الجديد.  

يمكن إعادة تفسير البنية الاجتماعية بناءً على هذه التجارب، من خلال دمج القيم التقليدية والقيم الديمقراطية العالمية، لإنتاج ديمقراطية أكثر تقدمًا.  

تجاوز المجتمع البري لخوفه من البحر، وتحول طابع الأمة العسكرية إلى مجتمع أكثر انضباطًا وإنتاجية، وتحويل عبادة القوة والمكانة إلى وسيلة لتحقيق أهداف أكثر عمومية، واستعادة الدولة من خلال الحرية والعدالة، هي شروط أساسية لتجاوز المجتمع ككل للألم والهزائم والصدمات التي خلفها القرن الماضي والاستعداد للعصر الجديد.  

يمكن لطابع الأمة العسكرية، مثل تحول الروح القتالية اليابانية والألمانية، أن يكون أساسًا لدولة قانون منضبطة ومبدئية ذات مبادئ أخلاقية قوية، واقتصاد أكثر إنتاجية. يمكن تحويل النظرة العسكرية البحتة التي تعطي الأولوية للأمن إلى وعي بأن الحرية ودولة القانون والإنتاجية الاقتصادية هي أساس الأمن.  

يمكن تحويل الاعتماد على القوة والسلطة والمكانة إلى سلوك اجتماعي يركز على الأداء وليس المرجعية، ويتطلب جهدًا فرديًا ومسؤولية ومهارات تفكير عقلانية.  

ويمكن تحويل المركز الهرمي وتسلسل الرعايا المطيعين إلى دائرة دولة-أمة تخضع لرقابة مجتمعية قوية.  

يمكن للطابع الفروسي البري لتركيا، من خلال الوصول إلى البحار المفتوحة والبحر السماوي (وهو ما لم تستطع ألمانيا وروسيا تحقيقه لأسباب جغرافية)، أن يفتح آفاقًا جيوسياسية جديدة ويُمهد الطريق لقفزة تاريخية مختلفة وولادة جديدة. عندها، تستطيع تركيا تطوير شخصية عقلانية، عالمية التوجه، ومبدعة، ومنتجة، تُعزز صفة إنسانية شجاعة وحرة، مما يرتقي بدوره بمستوى الدولة. فقط من خلال هذا التغيير الجذري يمكن تجاوز النقاشات الاستهلاكية التي تنتجها الشخصية والظروف الحالية، وتشكيل تركيز شخصية وروح كرامة تتوافق مع اتجاه العالم الحقيقي. وهذا يعني ثورة أخلاقية حقيقية.  

هذه الأمور ممكنة، ولكن يجب أولاً أن يبدأ العقل الفكري الجماعي في التفكير في هذا الاتجاه. وكما تقول الحكمة القديمة؛ كما تكون تؤمن، وكما تفكر تكون.


*تقرير تحليلي للمفكر التركي أحمد أوزجان، نشرته مجلة كريتيك باكيش

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!