ترك برس

سلط مقال تحليلي للكاتب والخبير التركي قدير أوستون، الضوء على تحوّل السياسة الدولية ودور تركيا المتنامي في هذا السياق، مع التركيز على زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، إلى واشنطن.

يوضح الكاتب - في مقاله بصحيفة يني شفق - كيف أن تركيا، عبر تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية وتطوير قدراتها الدفاعية، أصبحت فاعلًا إقليميًا ودوليًا محوريًا، في وقت تعيد فيه الولايات المتحدة وأوروبا ترتيب أولوياتهما وسط تغيرات عالمية كبرى.

كما يشير إلى قدرة تركيا على إدارة علاقاتها مع أمريكا رغم الخلافات، ورؤيتها الخاصة لأمن المنطقة، خصوصًا في ظل تراجع الدور الأمريكي التقليدي، واحتياج أوروبا والشرق الأوسط إلى نماذج جديدة للأمن والتعاون، تلعب فيها تركيا دورًا قياديًا.

وفيما يلي نص المقال:

زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى واشنطن جاءت في مرحلة تعيد فيها الولايات المتحدة تعريف أولويات سياستها الخارجية.

إن تبلور عملية إعادة تشكيل النظام الدولي يفتح الباب أمام دول قادرة على الاستجابة السريعة والفعّالة للتطورات، مثل تركيا، للاستفادة من الفرص الجديدة.

في المقابل، تجد بعض الدول، التي اعتادت على الراحة تحت مظلة التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة، صعوبة في التكيّف مع هذه التغيرات.

ومع وضوح أن العلاقات عبر الأطلسي لن تستمر كما كانت في السابق مع عودة ترامب إلى الحكم للمرة الثانية، تسعى الولايات المتحدة إلى تقليل تكاليف قيادتها للنظام العالمي، ما يتيح فرصة أكبر للقوى الإقليمية كي تمارس دورًا أكثر استقلالًا.

يمكن لتركيا، من خلال استغلال الفرص الاستراتيجية التي أوجدها هذا التحول الهيكلي في صراع القوى العالمي، أن تعزز علاقاتها مع أمريكا وأوروبا، وتزيد من ثقلها في المنطقة.

العلاقات التركية – الأمريكية

قوة التأثير في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة تتجاوز كونها علاقة ثنائية بين بلدين؛ فمثلًا، هذان البلدان اللذان يملكان أقوى جيشين في حلف الناتو، تؤثر سياساتهما بشكل حاسم في مستقبل التحالف عبر الأطلسي.

سياسات البلدين تجاه أوكرانيا لا تؤثر فقط على أمن أوروبا والبحر الأسود، بل تلعب دورًا مهمًا في توازن القوى في مثلث الولايات المتحدة – روسيا – الصين.

وبالمثل، تؤثر سياسات الحليفين تجاه سوريا على السياسات الخارجية لبلدان مثل العراق، والأردن، وإسرائيل. وينطبق الأمر نفسه على ديناميكيات مشابهة في منطقة القوقاز وفي إفريقيا.

ونلاحظ أيضًا تأثير أولويات واشنطن وأنقرة في تحديد أجندات منظمات دولية كالأمم المتحدة، وحلف الناتو، ومجموعة العشرين.

قدرة العلاقات التركية – الأمريكية على إحداث تأثير في مجالات متنوعة تعود إلى إصرار تركيا على أن تكون فاعلًا مستقلًا يتمتع باستقلالية استراتيجية في النظام الدولي، على عكس كثير من الدول التي تكتفي بمحاولة التكيّف مع السياسات الأمريكية.

فعندما غزت روسيا أوكرانيا، تحركت تركيا قبل أن يتضح موقف واشنطن، وقدمت الدعم لأوكرانيا، وأغلقت المضائق أمام السفن الحربية، وفي الوقت ذاته دفعت باتجاه حل دبلوماسي.

أما في سوريا، فقد واصلت تركيا سياسات الدعم الإنساني، ودعم المعارضة، والعمليات العسكرية المباشرة، والانخراط الدبلوماسي، رغم أن هذه الساحة كانت قد أصبحت منسية تقريبًا على المستوى الدولي.

ومع سقوط الأسد، أظهرت تركيا أنها قادرة على جني ثمار سياساتها التي صممتها بنفسها. وقد تبنّت هذه السياسة رغم التوتر مع الولايات المتحدة، التي تقدم منذ سنوات الدعم لتنظيم واي بي جي فرع تنظيم بي كي كي الإرهابي في سوريا. هذا الموقف أظهر مرة أخرى مدى أهمية واستقلالية السياسة التركية الاستراتيجية.

القدرة على إدارة الخلافات في العلاقات التركية–الأمريكية، حتى تلك التي تصل إلى حدّ التصادم الاستراتيجي، تعود إلى إصرار تركيا على إنتاج سياساتها الخاصة وقدرتها على ذلك.

في حين أن كثيرًا من الدول الأوروبية اعتادت على قبول الأطر التي تفرضها الولايات المتحدة في قضايا الأمن الدولي والانخراط ضمن سياساتها، نراها اليوم تعيش صدمة "ترامب"، بينما تمضي تركيا بثقة أكبر في طريقها.

ففي مقابل استراتيجية واشنطن في محاربة "داعش" في سوريا عبر "وكلاء محليين" مثل تنظيم واي بي جي الإرهابي، دون الزج المباشر بجنودها، نجحت تركيا في بناء استراتيجيتها الخاصة وحققت نجاحات ميدانية.

ولأن أنقرة رأت أن حلفاءها في الناتو قد لا يقفون إلى جانبها في وجه التهديدات القادمة من سوريا، قامت بتطوير قدرتها العسكرية من خلال استثمارات كبيرة في الصناعات الدفاعية،

وتمكّنت من الوصول إلى حدّ كبير من الاكتفاء الذاتي.

ومع تطور هذه القدرات وإنتاج سياسات قائمة على أولوياتها الاستراتيجية، أصبحت تركيا قادرة على تقديم بديل حقيقي للسياسات الأمريكية في المنطقة.

الاستقلالية الاستراتيجية

الاستقلالية الاستراتيجية التي عززتها السياسة الخارجية التركية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان خلال السنوات الماضية، باتت تُعد اليوم أهم ورقة في يد أنقرة، خاصة في ظل التغيرات الجذرية التي يشهدها النظام العالمي.

وفي حين اعتادت أوروبا على تتبع القيادة الأمريكية في قضايا مثل أمن القارة، واضطرابات الشرق الأوسط، وصراع القوى العالمية، أدركت – بعد عودة ترامب إلى الحكم – أن هذا النمط لم يعد قابلًا للاستمرار.

وأوروبا، التي تخلفت عن تركيا في بناء بنية تحتية دفاعية والسعي نحو استقلالية استراتيجية، ستضطر خلال السنوات المقبلة إلى سدّ هذه الفجوة بسرعة.

ويبدو أن الأوروبيين بدأوا يُدركون الدور الحاسم الذي يمكن أن تلعبه تركيا، وما يمكن أن تُقدّمه من مساهمات إيجابية.

ومع البدء في رسم أسس هندسة أمنية جديدة في أوروبا، لن تفقد الولايات المتحدة أهميتها بطبيعة الحال، لكن على أوروبا أن تتعلم – كما فعلت تركيا – أن تنتج سياسات أمنية خاصة بها، وأن تسعى إلى التعاون رغم احتمال حصول أزمات أو صدامات مع واشنطن.

المعادلة الإقليمية في الشرق الأوسط والحاجة الماسة إلى اتخاذ زمام المبادرة لا تقتصر على أوروبا، بل تنطبق على دول الشرق الأوسط أيضًا. فالسياسات الأمريكية التي لا تزال تضع أمن إسرائيل في مركزها، لم تتغير منذ سنوات طويلة. لكن على دول المنطقة أن تتحرك بشكل أكثر استقلالية.

وقد أثبتت جهود إسرائيل لتوسيع حربها في غزة إلى لبنان وإيران، والتغيرات التي طرأت على المعادلة الإقليمية بعد انهيار نظام الأسد في سوريا، أن التماشي مع السياسات الأمريكية لم يُسفر عن استقرار أو سلام إقليمي.

التحركات التي تبادر بها بعض الدول العربية نحو إعادة إعمار غزة وسوريا تمثل بارقة أمل، لكن هذه الجهود تحتاج إلى أن تُبنى على إطار استراتيجي أكثر شمولًا يتعلق بهندسة أمن المنطقة.

تركيا في هذا السياق تملك القدرة ليس فقط على لعب دور فعال، بل على قيادة هذه الجهود. ولهذا نشهد في الآونة الأخيرة نشاطًا دبلوماسيًا مكثفًا تقوده أنقرة مع كل من منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية.

في المرحلة المقبلة، ستكون تركيا إحدى الدول المحورية في أي مساعٍ جديدة لرسم هندسة أمنية في أوروبا أو الشرق الأوسط. وفي الوقت الذي يسعى فيه ترامب إلى تطبيق رؤيته الخاصة للسياسة الخارجية، بات من الواضح أن واشنطن تمضي في طريق يؤدي إلى إبعاد حلفائها الغربيين عنها.

ورغم أن الولايات المتحدة لم تتخلَ بعد عن موقعها القيادي في النظام العالمي، إلا أن نيتها في تحميل الآخرين كلفة هذا الدور باتت جلية.

الدول التي لم تعتد بعد على تخيّل أمن إقليمي – سواء في أوروبا أو الشرق الأوسط – من دون أمريكا، ستحتاج إلى وقت طويل لتأقلم سياساتها مع هذا الواقع الجديد.

وفي مشهد استراتيجي باتت المبادرات الإقليمية فيه أكثر أهمية من أي وقت مضى، سيصبح دور تركيا أكثر مركزية ولا غنى عنه.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!