
ترك برس
تناول مقال للكاتب والأكاديمي التركي أحمد أويصال، ظاهرة الشيخوخة في المجتمعات المعاصرة وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي، مسلطاً الضوء على ارتفاع متوسط العمر المتوقع وزيادة نسبة كبار السن نتيجة التقدم الطبي وتحسن الخدمات الصحية وتراجع معدلات الخصوبة.
يستعرض أويصال التحديات المترتبة على هذا التحول الديموغرافي، مثل الحاجة إلى رعاية صحية مستمرة، وتطوير سياسات التقاعد، وتأثير الشيخوخة على الأسرة وسوق العمل، مع التركيز على ظاهرة “جيل السندويتش” الذي يتحمل مسؤولية تربية الأطفال ورعاية الآباء المسنين.
كما يشير إلى الفرص التي يوفرها العمر الطويل في تعزيز التضامن بين الأجيال وتحفيز الاقتصاد الفضي والخدمات المخصصة لكبار السن. وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة الشرق القطرية:
مع أننا نتقدّم في العمر كل يوم قليلاً، إلا أن أحداً منا لا يرغب في الشيخوخة. فالإنسان بطبيعته يسعى للخلود في هذه الدنيا. وتروي الأساطير القديمة كيف كان الإنسان يسعى وراء “إكسير الحياة” من أجل نيل الخلود.
أما في مجتمعاتنا المعاصرة، فإن ظاهرة الشيخوخة تتزايد بشكل ملحوظ، وانتشرت المنتجات المضادة للتقدّم في العمر على نطاق واسع. وقد بلغت قيمة هذه المنتجات في الأسواق العالمية نحو 100 مليار دولار، بل إن هذا القطاع بات يُعرف باسم «الاقتصاد الفضي». لكن ما أسباب تزايد نسبة كبار السن في مجتمعاتنا؟ وما النتائج المترتبة على ذلك؟
باستثناء البلدان التي تعاني من الحروب والفقر، فإن متوسط العمر المتوقع يرتفع في جميع دول العالم، كما تزداد نسبة كبار السن في المجتمعات. فعلى سبيل المثال، شهد كل من تركيا وقطر خلال الخمسين عاماً الماضية زيادة كبيرة في متوسط العمر المتوقع؛ إذ كان هذا المتوسط في ستينيات القرن العشرين أقل من 60 عاماً، بينما وصل اليوم إلى نحو 80 عاماً. أي أن الناس يعيشون الآن ما يقارب جيلاً كاملاً أكثر من السابق. ويُعزى السبب في ذلك إلى التقدّم الكبير في المجال الصحي، بما في ذلك تطوير اللقاحات وتحسّن خدمات وتقنيات الرعاية الصحية، بالإضافة إلى النجاح في مكافحة الأمراض المعدية، الأمر الذي ساهم في إطالة عمر الإنسان.
ومن جانب آخر، أدى تراجع معدلات الخصوبة إلى انخفاض عدد الشباب في المجتمع. ومع التقدّم في مظاهر الحداثة، أصبح الناس يتبعون أنماط تغذية أكثر صحّة ووعياً، كما تراجعت نسب وفيات الأطفال والأمهات بشكل ملحوظ. إضافةً إلى ذلك، ساهم انتقال السكان من المناطق الريفية إلى المدن في استفادتهم بشكل أكبر من الخدمات الصحية المتطورة. هذا التحوّل الديموغرافي لا يقتصر على تغيير البنية السكانية للمجتمع، بل يترك تأثيراً عميقاً على الاقتصاد والسياسات العامة والحياة الاجتماعية. فبعد أن كانت السياسات موجّهة بشكل أساسي نحو الشباب، باتت الآن مضطرة إلى التركيز أيضاً على احتياجات كبار السن ومتطلباتهم.
إن ازدياد عدد كبار السن يفرض إعادة النظر في سياسات الرعاية الصحية، وأدوار الأسرة، وأنظمة التقاعد، كما يؤثر على مجالات أخرى مثل سوق العمل، مما يستدعي تبنّي مقاربات جديدة. وفي المجتمعات المسلمة التقليدية، يدفع هذا الارتفاع في أعداد كبار السن العائلات إلى العيش معاً ضمن أسر متعددة الأجيال تضم ثلاثة أو أربعة أجيال في منزل واحد. ونتيجة لذلك، يتحمّل البالغون في منتصف العمر مسؤوليتين في آن واحد: تربية أطفالهم ورعاية آبائهم أو أجدادهم المسنين. وقد أُطلق على هذه الفئة في الغرب اسم “جيل السندويتش”، نظراً لأنها تقع بين جيلين وتواجه ضغوطاً نفسية ومالية كبيرة نتيجة هذا الوضع.
لقد تحوّل تركيز الخدمات الصحية، التي كانت تركز في السابق على صحة الأم والطفل والولادة، إلى إعطاء اهتمام أكبر برعاية المسنين. فمع التقدم في العمر، تصبح الأمراض المزمنة مثل السكري، وهشاشة العظام، وأمراض القلب، والتهاب المفاصل، ومرض الزهايمر أكثر انتشاراً، مما يجعل الحاجة إلى الرعاية المستمرة والخدمات الطبية المتخصصة أكثر أهمية. ولمواكبة هذه التحولات، تعمل المؤسسات الصحية على توسيع خدماتها الخاصة بكبار السن، وتطوير مستشفيات صديقة للمسنين، والاستثمار في خدمات الرعاية المنزلية والرعاية الصحية عن بُعد.
تتزايد الخدمات المخصّصة لدعم الصحة النفسية للمسنين مع التراجع الجسدي وضعف القدرات الإدراكية الذي يصاحب التقدم في العمر، إذ يمكن للتقاعد وفقدان الشريك وصعوبات الحركة أن تقلل من فرص التفاعل الاجتماعي، مما يدفع إلى الاستثمار في بنى تحتية صديقة لكبار السن تشمل المساحات العامة المهيّأة ووسائل النقل الآمنة وتصميم المساكن الشامل. كما تسهم مراكز رعاية المسنين وبرامج التعلم مدى الحياة والمبادرات التطوعية في إبقاء كبار السن نشطين وفاعلين في المجتمع وتعزيز رفاههم العام. وعلى الصعيد السياسي، فإن تأثير كبار السن ليس جديداً، لكن المرحلة المقبلة قد تشهد حضوراً متزايداً لزعماء تجاوزوا الثمانين من أعمارهم.
إن ازدياد متوسط العمر يفرض الحاجة إلى مزيد من المرونة في تشغيل كبار السن، وإلى برامج إعادة تأهيل مهني، إضافة إلى تطوير سياسات تقاعد جديدة. ففترات التقاعد الطويلة تضع ميزانيات الدول، سواء في الغرب أو في تركيا، تحت ضغط مالي كبير، مما يهدد استدامتها على المدى الطويل. أما في العالم العربي والإسلامي، فإن تصاعد مطالب كبار السن، في وقت لم تُلبَّ فيه بعد احتياجات الشباب بشكل كافٍ، قد يجعل المشهد السياسي أكثر تعقيداً. ومع ذلك، فإن إطالة العمر قد تتيح فرصة للأحفاد لرؤية أجداد أجدادهم، مما يعزز روح التفاهم والتضامن بين الأجيال. وكما كان جدي يقول لي عندما كنت صغيراً: «يا حفيدي، قد لا أصبح مثلك، لكنك يوماً ما ستصبح مثلي».
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!