محمد حسن القدّو - خاص ترك برس
عند بداية عقد السبعينات أصبحت تركيا على حافة الانهيار السياسي والأمني والاقتصادي بشكل كامل، وقد لعبت التيارات السياسية والأحزاب بمختلف اتجاهاتها دورا رئيسيا في إيصالها إلى المستوى التي وصلت إليه قبل انقلاب 1980، وأسوأ ما في الأمر أن بعضا من الذين أرادوا إغراقها وساهموا في إيصال تركيا إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب كانوا مدركين لما يقومون به، وإن لم يكن باستطاعتنا أن نقول إنهم كانوا يحملون أجندة خارجية، ولكن باستطاعتنا أن نقول إن أصحاب الأجندة من الدول وإن لم تكن قد ساهمت في الأمر، إلا أنها أصبحت تراقب الأحداث الجارية عن كثب خصوصا في ظل استمرار الحرب الباردة بين المعسكرين بالإضافة إلى المستجدات على الساحة الإقليمية كالاحتلال السوفيتي لأفغانستان وتغيير نظام الشاه الإيراني.
وأدى الأمر بعد هذه الأعمال إلى شل حركة الدولة سياسيا واقتصاديا وفقد المواطن التركي ثقته بالحكومات المتعاقبة التي أصبحت عبارة عن حكومات تصريف أعمال في أحسن أحوالها وغالب ما تراعي مصالحها دون الالتفات إلى مصالح الشعب، وفي ظل هذه الأوضاع المتردية بدأ الغليان الشعبي، وبدأت قيادات الجيش بالتعبير عن امتعاضها من هذا الوضع وبدأت بإصدار إنذاراتها الواحدة تلوى الأخرى. ولغرض الاطلاع على حقيقة الوضع التركي قبل الانقلاب نورد بعض الأحداث الهامة والتي كانت حجة للقادة العسكرين للقيام بانقلابهم.
الوضع السياسي الداخلي/ الصراع والعنف بين اليمين واليسار
تميزت الفترة بين 1973-1980 بإفلاس سياسي بطيء أدى إلى انفجار الدولة والمجتمع لأن الحياة السياسية مرت بأزمة عدم ثقة عميقة بين الدولة والمجتمع ومنذ سنة 1973 صارت التشكيلات الحكومية غير مستقرة. وبالإضافة إلى العوامل الداخلية والتي كانت وسط ظروف ذات أبعاد إقليمية حيث التمرد الكردي في جنوب البلاد بالإضافة إلى صعود القوى اليسارية في الوقت نفسه شهد تطورًا إقليميًا بسبب تداعيات الثورة الإيرانية وكذلك الاحتلال السوفيتي لأفغانستان. أما بالنسبة للأوضاع السياسية غير المستقرة وخصوصًا بعد تشكيل حكومة سليمان ديميرل المدعومة من حزب الخلاص الوطني وحزب الحركة القومية والتي واجهت الكثير من الأزمات والتي على أثرها قام الجنرال كنعان إيفرين رئيس الأركان العامة بتوجيه إنذار إلى رئيس الجمهورية طلب فيه أن تبحث الأحزاب التي تستلهم الأفكار الأتاتوركية والقومية عن إجراءات جماعية وضمن الإطار الدستوري البرلماني للقضاء على الفوضى والنزاعات الانفصالية.
وفي تصريح آخر لرئيس الأركان كنعان إيفرين أعلن عن امتعاضه من وجود جماعات يسيئون استخدام الحريات الواسعة والتي يمنحها الدستور ويقصد به الأحزاب الشيوعية والذي يقول عنهم بأنهم يتغنون بالنشيد الشيوعي بدلًا من النشيد القومي. إلاّ أنّ كثيرا من الباحثين الأتراك يرون أنّ الجيش كان أكثر قلقًا نحو الأحزاب والجماعات الدينية التي كانت قد ازدادت نشاطاتها في الفترة التي سبقت الانقلاب وأن دليل قلق المؤسسة العسكرية من نمو التيار الديني وزيادة نشاطه أنه تم بعد الانقلاب القيام بحركة تصفية وسط المتدينين وقد كشفت عن خلايا إسلامية داخل المؤسسة العسكرية. ثم فتحت تحقيقات واسعة في معاهد وأكاديميات تدريب الضباط شمل العشرات منهم بتهم الانتماء لجماعات دينية إسلامية سرية.
واليسار التركي الذي كان قد تلقى الدعم وازدادت شعبيته بعد حكم أجاويد وقيامه بالإنزال العسكري في شمال قبرص والذي على أثره قامت الولايات المتحدة بمعاقبة تركيا اقتصاديًا ومنع الدعم المالي عنه.
وجرى الالتفاف المتزايد مع اليسار التركي بعد هذه الأزمة وأصبح للمؤازرين من الحركات اليسارية وخصوصًا اتحاد نقابات العمال اليسارية Disk القوة في تحدي قرارات الحكومة.
فقد دعا اتحاد نقابات العمال اليسارية في أيار/ مايو عام 1977 إلى تجمع عمالي ضخم في ميدان التقسيم (شارع الاستقلال) في إسطنبول للاحتفال بعيد العمال العالمي. إلاّ أنّ السلطات الحكومية في حكومة سليمان ديميريل رفضت الترخيص للتجمع.
إلاّ أنّ اللجنة المنظمة للتجمع رفضت قرار المنع. وحضر التجمع حوالي 150 ألف شخص في الزمان والمكان المحددين. ومن ناحية أخرى دعا اليسار التركي إلى إنشاء (جبهة وحدة اليسار) ووصف هذه الجبهة بأنها خطوة تاريخية ومنعطف جديد للحركة الوطنية وغرض إنشاء الجبهة هو لدحر المؤسسة السياسية المدعومة من الفاشية العسكرية حسب وصفهم.
ومنذ بداية عام 1975 وحتى الانقلاب العسكري في عام 1980 عاشت تركيا في الواقع جحيمًا حقيقيًا فقد أوقع العنف السياسي 5713 قتيلًا وأكثر من ثمانية عشر ألف جريح.
(والجدير بالذكر أن خسائر تركيا من الضحايا في حرب الاستقلال كانت أقل من ضحايا العنف السياسي التي اجتاحت تركيا في سبعينات القرن الماضي).
وقد تميزت الفترة التي سبقت انقلاب 1980 بإفلاس سياسي بطيء أدى إلى انفجار الدولة والمجتمع، فبالإضافة إلى التشكيلات الحكومية غير المستقرة والأزمات الرئاسية المتتابعة والحظر الأمريكي على مساعدة تركيا عسكريًا وماديًا أدى بالاقتصاد التركي إلى الإفلاس وحل في تركيا (رعب أعمى) وتصاعدت تحت ضغط الأحداث المطالب الدينية والشيوعية والقومية والإثنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وفي ظل حكومة أجاويد شهدت تركيا موجة من العنف السياسي لم يسبق لها مثيل فقد أوقع أقصى اليمين (اليمين المتطرف) بدأ من شباط/ فبراير 1978 اعتداءات مسلحة من أجل زعزعة الائتلاف الحكومي الذي كان يترأسه والذي كان يتسم أصلا بتنافره الشديد.
و بدا واضحًا في عام 1979- 1980 أن العنف قد اخذ منحنى مختلفًا بالتحول من الاقتتال بين اليمين واليسار إلى تصفية القيادات الحزبية ففي أيار/ مايو من عام 1980 اغتيل نائب رئيس حزب الحركة الوطنية. وفي تموز/ يوليو من نفس العام اغتيل نهاد أريم رئيس الوزراء السابق كما اغتيل كمال توكلر رئيس اتحاد نقابات العمال اليسارية.
أزمة الرئاسة التركية
مع اقتراب ولاية الرئيس جودت صوناي 1966-1973 من نهايتها في آذار/ مارس عام 1973 دخلت الأحزاب السياسية مع الجيش في حالة من صراع الإرادات والتوجهات.
فالعسكر كانوا في أوج قوتهم وخصوصًا بعد انقلاب عام 1971 وكان لهم مرشحهم وهو فاروق غولير وهو ضابط سابق وكان يشغل منصب قائد القوة البرية ثم أصبح عضوًا في مجلس الشيوخ.
أما الأحزاب السياسية المتمثلة في المجلس الوطني التركي الكبير فكان لهم مرشحين آخرين فلحزب العدالة مرشح وللحزب الديمقراطي الجديد مرشح آخر بيد أن حزب الشعب الجمهوري فقد امتنع عن حضور جلسات المجلس الوطني الخاصة بالاقتراع على انتخابات رئيس الجمهورية. إلاّ أنّ العسكر المهيمن على الحياة السياسية قام باقتراح يقضي بتعديل الدستور لتحديد ولاية جودت صوناي لكن الاقتراح رفض من قبل الأحزاب المتمثلة في البرلمان التركي. وانتهت الأزمة الرئاسية عندما وافقت الأحزاب المشتركة في المجلس الوطني على انتخاب مرشح العسكر الأدميرال المتقاعد فخري قورتوك كحل وسط.
والجدير بالذكر أنّ دستور 1960 لا يجيز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لولاية أخرى وبعد أن انتهت هذه الأزمة بدأ أزمة رئاسية أخرى عندما اقترب ولاية قورتورك من نهايتها في نيسان/ أبريل عام 1980 ووسط دوامة من العنف السياسي والوضع الاقتصادي المتردي وتفاقم وزيادة المتطرفين من الأحزاب اليمينية واليسارية بعد عودة رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة التركية من اجتماعات حلف شمال الأطلسي في 13 أيار/ مايو 1980 أصر على ضرورة توصل البرلمانيين إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد وذلك من خلال تصريحه لوسائل الإعلام التركية. ثم أرسل إلى الجيش التركي في 30 آب/ أغسطس أعلن انه ليس بالإمكان تأمين النظام والهدوء بواسطة حكام الولايات.
لكن الأحزاب التركية لم تتقدم خطوة واحدة نحو الحل بسبب عدم توافق الآراء والمعالجات وتباين الإيديولوجيات وإصرارهم على تقديم مرشحيهم الذين بلغ عددهم اثني عشر مرشحًا.
فحزب الشعب الجمهوري قدم ثلاثة مرشحين. وحزب العدالة قدم مرشحين اثنين. العسكر أيضًا كان لهم مرشحان اثنان.
وبسبب عدم حصول الموافقة على أي مرشح من المرشحين فقد وجه الجنرال كنعان إيفرين رئيس أركان الجيش إلى توجيه إنذار في تموز عام 1980 دعا فيه المجلس الوطني ومن خلاله الأحزاب التركية المتمثلة فيه أن تنظر بجدية وبشكل سريع في حل أزمة الرئاسة. وإزاء ذلك توصل المجلس الوطني إلى قرار يقضي بتعيين إحسان صبري رئيسًا للجمهورية وكالة (وكان يشغل منصب رئيس مجلس الشيوخ) لحين التوصل إلى قرارها في هذا الصدد.
أزمة الحكومات الائتلافية
بعد انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973 والذي جرت في مشهد سياسي لم تشهده الساحة التركية من قبل. فقد كان حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال وكان يقوده بعد وفاته عصمت أينونو والذي أدت خلافاته مع بولند أجاويد إلى ترك عصمت إينونو زعامة الحزب في عام 1971 وأستلام اجاويد زعامة الحزب.
أظهر أجاويد مع شعار (الأمل) الشعار الجديد لحزبه في نفسه زعيمًا شعبيًا ومن اليسار المصدوم من النظام العسكري بل أن جزءًا كبيرًا من سكان المدن أيضًا قد اصطف معه، الأمر الذي أدى به إلى تحدي حزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل. في هذه الأثناء تأسس حزب جديد سمي بحزب السلامة الوطنية ذو التوجه الإسلامي والمؤسس من قبل نجم الدين أربكان في 11 تشرين الأول 1972 وتمكن هذا الحزب من حشد تحالف مزيج من الناخبين يمتد من الذين يأسوا من شعارات حزب العدالة إلى أعضاء الطرق الدينية الصوفية ومن البرجوازية الريفية إلى القيادات المحافظة في المدن الكبيرة.
وجرت انتخابات عام 1973 والأحزاب المهيمنة على الساحة السياسية ذات إيديولوجيات متناقضة مع بعضها.
فاز في الانتخابات حزب الشعب بزعامة بولند أجاويد بـ 158 مقعدًا وفاز حزب العدالة برئاسة ديميريل بـ 149 مقعدًا وحزب السلامة الوطني بزعامة نجم الدين اربكان بـ 48 مقعدًا والحزب الديمقراطي بـ 45 مقعدًا.
شكل رئيس حزب الشعب الفائز بأعلى المقاعد بولند أجاويد حكومة ائتلافية بالاشتراك مع حزب السلامة (النشئ الجديد) بزعامة البروفيسور نجم الدين أربكان في كانون الثاني/ يناير عام 1974. وبعد مضي فتره على تشكيل الحكومة الائتلافية، قاد نيكرس سامسون انقلابًا في قبرص في 15 تموز 1974 بتحريض من أثينا قررت حكومة أجاويد التدخل عسكريًا بذريعة رسمية هي منع ارتكاب مجزرة ضد الأتراك القبارصة فأنزلت قواتها في العشرين من تموز 1974 في شمال الجزيرة.
على أثر ذلك حاول حزب الشعب الحاكم استغلال الإنزال التركي في قبرص محاولًا إظهار قائده كأنه بطل قومي وعلى إثر قطع المساعدات الأمريكية عن تركيا اصطف اليسار التركي كله مع أجاويد. فنظم قائمة كانت تظم كل المعادين للإمبريالية وعلى اثر هذا التنظيم الواسع لمؤازريه اراد استغلال هذه الفرصه لصالحه فقدم استقالة حكومته في 18 أيلول/ سبتمبر 1974 بغية إجراء انتخابات مبكرة كان واثقًا من الفوز فيها بأغلبيه نيابيه تساعده على تشكيل حكومة تظم ائتلافه فقط.
ودخلت تركيا أزمة وزارية استمرت إلى أن تم تشكيل حكومة ائتلافية باسم حكومة الجبهة القومية برئاسة سليمان ديميريل في 31 آذار/ مارس 1975 تضم كل من بالإضافة إلى سليمان ديميريل ألب ارسلان توركيش زعيم القوميين وكان لحزبه ثلاث نواب فقط في البرلمان، وتورهان فيضي أوغلو الذي كان زعيم حزب (الاطمئنان الوطني) ويعد حزبه من الأحزاب الكمالية بالإضافة إلى حزب السلامة الوطني بقيادة أربكان واستمرت هذه الحكومة حتى انتخابات حزيران/ يونيو 1977 والذي فاز فيها تيار الجبهة القومية وضمت ائتلاف الجبهة القومية.
وقامت الحكومة الثانية للجبهة القومية 21 تموز/ يوليو 1977 بعد أن شكل أجاويد حكومة لم تنل الثقة . استمرت هذه الحكومة حتى 5 كانون الثاني/ يناير عام 1978 أمام تفاقم الأزمة الاقتصادية والأزمة السياسية المرتبطة بظاهرة العنف المتسعة استقال بعض نواب الائتلاف في عام 1979 من حزب العدالة بقيادة ديميريل لقاء مناصب وزارية فسمحوا لبولند أجاويد بتشكيل حكومة بهدف أحداث بعض الاستقرار إلاّ أنّ هذا التحالف لم يصمد فاستقالت في تشرين الثاني 1979.
ألف سليمان ديميريل حكومة أقلية في 12 تشرين/ الثاني 1979 سميت حكومة طوارئ مهمتها معالجة الأزمة القائمة غير أنها في حقيقة الأمر كانت عاجزة عن ذلك لذا تُرك المجال مفتوحًا للجيش للتدخل مرة ثالثة في الحياة السياسية التركية في أيلول عام 1980.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس