خورشيد دلي - الجزيرة نت
رغم الصمت الغربي إزاء خطة تركيا إقامة منطقة عازلة على حدودها مع سوريا والعراق، والرفض الروسي-الإيراني المسبق لها، تسير الأمور في أنقرة على قدم وساق لإخراجها إلى حيز الواقع، فمنذ إعلان الرئيس رجب طيب أردوغان قبل فترة أن بلاده تدرس إقامة هذه المنطقة، تعمل رئاسة الأركان التركية بالتعاون مع المؤسسات المعنية على إعدادها من النواحي اللوجستية والعسكرية والقانونية والأماكن التي ستقام عليها دون الإفصاح عن التفاصيل.
في الأساس، خطة تركيا لإقامة منطقة عازلة ليست بجديدة، إذ سبق أن اقترحتها رسميا قبل أكثر من سنتين في مجلس الأمن، وقوبلت بالرفض الأميركي وقتها، فيما تعود تركيا اليوم لتطرح الخطة من جديد، تزامنا مع تشكيل واشنطن التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والتردد التركي بالمشاركة فيه، حيث لسان حال أنقرة يقول إن لها رؤيتها الخاصة للأزمة ككل.
تركيا والمنطقة العازلة
تنطلق تركيا لإقامة منطقة عازلة من فرضيات تقوم على تحقيق هدفين:
الأول إنساني استباقي: ويتعلق بقضية إيجاد مكان آمن لإيواء مئات آلاف اللاجئين السوريين الهاربين من جحيم المعارك والقصف، إذ ترى تركيا أنها لم تعد قادرة على تحمل أعباء تدفق الأعداد الكبيرة لهؤلاء اللاجئين إليها بعد أن تجاوز عددهم 1.2 مليون لاجئ، وهي ترجح زيادة هذ العدد إلى أربعة ملايين مع تصاعد وتيرة العمليات العسكرية للتحالف ضد داعش في سوريا والعراق، لذا فإن الهدف الأساسي من إقامة هذه المنطقة هو حصر وتجميع هؤلاء اللاجئين في مناطق آمنة داخل بلدانهم مع توفير كل مستلزمات الحياة. فيما تؤمن هذه المنطقة الحماية للأراضي التركية من مخاطر أمنية محتملة.
الثاني عسكري: إقامة منطقة عازلة يعني بالتأكيد حظر حركة الطيران السوري فوقها، وبالتالي خلق وضع عسكري جديد على الحدود التركية السورية التي باتت تحت سيطرة المعارضة السورية بالكامل تقريبا، وفي الإجمال يعني إقامة مثل هذه المنطقة تحييد القوة الفاعلة للنظام أي (الطيران) والإفساح في المجال أمام المجموعات المسلحة لتنظيم وتشكيل جيش حقيقي يحظى بدعم دولي وإقليمي عسكريا وسياسيا، بما يعني كسر المعادلة التي تقول إنه لا أحد (النظام والمعارضة) قادر على الانتصار في هذه الحرب، وفتح المجال أمام الحل، سواء عبر تسوية سياسية أو من خلال التصعيد العسكري، اعتمادا على المنطقة العازلة وتسليح المعارضة.
ومع وضوح أهداف هذه الخطة، تتعلق الأسئلة في تركيا بالأماكن التي ستقام عليها المنطقة العازلة؟ وهل ستكون منطقة واحدة أم أكثر؟ وما عمقها؟ وماذا عن الجوانب القانونية؟ وكيف لتركيا أن تجعل من قرارها قرارا دوليا؟
هذه الأسئلة وغيرها تطرح بقوة في أروقة الحكومة والمؤسسة العسكرية التركيتين، وبانتظار قرار البرلمان التركي المنتظر بشأن تفويض الجيش التركي للقيام بعمليات عسكرية في الخارج وتحديدا في سوريا والعراق والذي يمكن منه معرفة ملامح خطة المنطقة العازلة، تركز تركيا في إقامة هذه المنطقة على دراسة البعدين الجغرافي والديمغرافي للمناطق، بحيث لا تكون واقعة تحت تأثير النظام والمكون الكردي، وهو ما يعني أن منطقتين حدوديتين، (محافظة أدلب مع تركيا والثانية منطقة جرابلس بين حلب والرقة) ستكونان الأنسب، فيما المنطقة الكردية في محافظة الحسكة بحاجة إلى اتفاق مع إقليم كردستان العراق رغم صعوبة ذلك بسبب وقوع المنطقة تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الحليف لحزب العمال الكردستاني.
الحرب ضد داعش
بعيدا عن الاعتراضات والمخاوف التركية من المشاركة في التحالف الدولي ضد داعش، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل من علاقة بين قرار تركيا إقامة منطقة أمنية عازلة والمشاركة في التحالف الدولي؟
لا يتحدث المسؤولون الأتراك صراحة عن هذا، لكن الواضح أنه يصب في الرؤية التركية التي تقول إن داعش هي نتيجة لا سبب، وإن الهدف النهائي ينبغي أن يكون السبب وليس الاكتفاء بالنتيجة، بتعبير آخر تريد ربط إستراتيجية الحرب ضد داعش بوضع نهاية للأزمة السورية. وعليه يأخذ الدور التركي الحالي المتردد في الحرب ضد داعش شكل البحث عن الدور اللاحق لجهة المشاركة في الحرب ضد النظام السوري.
الرؤية التركية هذه لا تتطابق حتى الآن مع الرؤية الأميركية التي تتعمد الغموض، خاصة أن الإستراتيجية الأميركية تتحدث عن حرب ضد داعش قد تطول سنوات، كما أنها تتحدث عن حل سياسي للأزمة السورية دون رؤية واضحة لكيفية هذا الحل وشكله وآليات تحقيقه.
الثابت أيضا أن حسابات تركيا من الحرب ضد داعش تتجاوز القضاء على الأخيرة إلى قضية أساسية وجوهرية للسياسة التركية، وهي: كيف ستكون نتائج هذه الحرب على صعيد القضية الكردية؟ فهي تخشى في العمق من أن يكون الأكراد في العراق وسوريا هم المستفيد الأكبر من هذه الحرب، سواء في حصولهم على أسلحة متطورة أو أن تؤدي الأحداث إلى ولادة إقليم كردي في سوريا بات يتواصل جغرافيا مع أكراد العراق وتركيا، وهو ما ترى أنقرة أنه سينعكس على قضيتها الكردية في الداخل، خاصة بعد إعلان حزب العمال الكردستاني عن وقف عملية السلام الكردية-التركية، وكذلك إعلانه رفض إقامة المنطقة العازلة التي تخطط لها تركيا على الحدود السورية-العراقية.
إستراتيجيا أيضا، ترى تركيا أن التحالف ضد داعش دون وجود خطة واضحة لإسقاط النظام السوري سيؤدي إلى تعزيز قدرات النظام ونفوذ طهران حليفة النظام السوري، وأن النتيجة الطبيعة لمثل هذا الأمر هو إضعاف تركيا وأدوات قوتها الناعمة، وهي في العمق تحس بأن دورها في التحالف المذكور ليس كما ينبغي.
فهي تعتقد أن موقعها الجغرافي المجاور لسوريا والعراق وعضويتها في الحلف الأطلسي ينبغي أن يضمنا لها دورا مؤثرا يحفظان لها الكثير من الامتيازات في هذه الحرب ونتائجها، في حين ترى أن مثل هذا الدور أعطي للسعودية بعد استضافتها مؤتمر جدة. وعليه ربما ترى في إقامة منطقة عازلة تأكيدا لدورها المؤثر في المرحلة المقبلة.
بين أنقرة وواشنطن
في الواقع، من الواضح أن تركيا ترى أن التحالف الدولي ضد داعش يجب أن يكون مزدوجا لجهة الأهداف، أي أن تشمل إضافة للحرب على داعش خطة واضحة تفضي إلى وضع نهاية للنظام السوري. وهذا هو السبب الرئيسي في الجدل الأميركي-التركي المتواصل بخصوص مشاركة تركيا في التحالف الدولي.
ويبدو أن هدف هذا الجدل هو التوصل إلى صفقة بين الجانبين، جوهرها لتركيا: المشاركة الفاعلة في التحالف الدولي ضد داعش مقابل تبني واشنطن خطة إقامة منطقة عازلة وفقا للاقتراح التركي. إذ تحس أنقرة في العمق بأن إقامة هذه المنطقة غير ممكنة، خاصة لجهة تحقيق الأهداف دون دعم واشنطن وتبنيها لها في الأمم المتحدة، وبالتالي إصدار قرار دولي بهذا الخصوص، ولا سيما في ظل تدفق آلاف اللاجئين الكرد السوريين إلى تركيا مع تواصل هجوم داعش على عين العرب-كوباني الكردية في الشمال السوري واحتمال تكرار هذا المشهد في مناطق أخرى.
وعلى المستوى العملي تطرح إقامة مثل هذه المنطقة أسئلة عن الجهة أو الجهات التي ستقوم بمنع الطيران السوري من التحليق فوقها أو قصفها. وفي جميع الأحوال لن تقوم تركيا وحدها بمثل هذه المهمة الصعبة والمكلفة التي قد تؤدي إلى حرب إقليمية.
مقابل الحديث التركي عن أن الطيران التركي لن يتولى وحده القيام بهذه المهمة، ثمة صمت أميركي مطبق وزيارات أميركية علنية وسرية إلى أنقرة ومحادثات مكثفة بين الجانبين، في إشارة إلى أن ثمة أمرا ما تحت الطاولة بين الجانبين إزاء المرحلة المقبلة.
ربما تعتقد تركيا المجاورة لسوريا والعراق أن الحرب ضد داعش لن تكون مضمونة النتائج دون مشاركتها، وأن الولايات المتحدة ستدرك هذا الأمر في لحظة ما، وهي اللحظة التي ستوافق فيها على خطة تركيا إقامة منطقة عازلة، التي ستكون بالنسبة لها جسرا لتطوير الحرب ضد داعش إلى حرب مشتركة مع الولايات المتحدة ضد النظام السوري، لطالما رسمت بوصلة سياستها الإقليمية على هذا النحو.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس