علي حسين باكير - مركز الجزيرة للدراسات
تبحث هذه الورقة موقع العراق في الحسابات الاستراتيجية التركيَّة؛ انطلاقًا من ثوابت السياسة الخارجية التركية تجاه العراق، وتتطرَّق إلى العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية بين البلدين، وأسباب التدهور في العلاقات الثنائية خلال السنوات القليلة الماضية، وتأثير صعود تنظيم الدولة "داعش" على المصالح التركية في العراق، ومدى إمكانية الدفع بالعلاقات الثنائية إلى مستوى جديد مع مجيء حكومة العبادي خلفًا للمالكي، والعوامل التي قد تؤثِّر مستقبلاً على مستوى واتجاهات العلاقة بين تركيا والعراق.
- ثوابت السياسة التركية تجاه العراق
- الخلافات التركية-العراقية في عهد المالكي
- مفارقة السياسة والاقتصاد في العلاقات التركية-العراقية
- انعكاسات صعود "داعش" على المصالح التركية في العراق
- حكومة العبادي والتوقعات المستقبلية
- ثوابت السياسة التركية تجاه العراق
تقوم السياسة الخارجية التركية تجاه العراق على ركيزتين أساسيَّتين، هما: الأمن الجيوسياسي، والأمن الاقتصادي؛ ومنذ غزو العراق في عام 2003 وحتى اليوم دأبت تركيا على التأكيد دومًا على هذه الثوابت في أي استحقاق يتعلق بالعراق؛ وهي(1):
1- وحدة العراق (الأمن الجيوسياسي): تَعتبر الحكومةُ التركية الحفاظ على وحدة العراق ثابتًا من ثوابت الأمن القومي للبلاد؛ وذلك على اعتبار أنَّ تقسيمه من الممكن أن يفتح الباب واسعًا أمام تقسيمات أخرى في المنطقة قد لا تستثني تركيا نفسها؛ خاصة إذا ما تمَّ رسم هذا الانقسام على طول الخط الكردي في المنطقة (بالإضافة إلى مصير كركوك والعنصر التركماني)(2).
2- الاستقرار في العراق (الأمن الاقتصادي): استقرار العراق بالنسبة إلى أنقرة مكسب استراتيجي على الصعيد السياسي والاقتصادي، وعلى صعيد الاستثمار وأمن الطاقة؛ وذلك نظرًا إلى ما يملكه الطرفان من مقوِّمات تساعد على تحقيق التكامل الاقتصادي بين البلدين؛ فالعراق بحاجة إلى عمل هائل في البنية التحتية بعشرات مليارات الدولارات، وتركيا تمتلك قطاع مقاولات ضخمًا، وتحتلُّ المرتبة الثانية في العالم بعد الصين بالنسبة إلى قطاع الإنشاءات(3)، ناهيك عن قطاع خاص حيوي يمكنه أن يُسهم بشكل فعَّال في مساعدة العراق بما يعود بالنفع على تركيا أيضًا.
كما أن عِراقًا مستقرًّا ومزدهرًا يعني الإسهام في تحقيق أمن الطاقة التركي، وارتفاعًا في دخل الفرد العراقي؛ مما يعني بدوره المزيد من الاستهلاك للبلد الذي يُشَكِّل -في وضعه الحالي غير المستقر- ثاني أكبر سوق للصادرات التركية بعد ألمانيا؛ مما يُؤَهِّل العراق لأن يصبح أكبر شريك تجاري لأنقرة مستقبلاً، وأن يتضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين بسهولة مرتين أو ثلاثًا خلال عشر سنوات.
الخلافات التركية-العراقية في عهد المالكي
1) السياسة الطائفية للحكومة العراقية
في عام 2010 مثَّل إياد علاوي بارقة أمل في استعادة العراق للحمته الوطنية ودوره الإقليمي، وقد أيَّدته عدَّة دول إقليمية آنذاك من بينها تركيا، وعلى الرغم من أن قائمته فازت بالانتخابات؛ حيث كان من المفترض أن يكون رئيسًا للوزراء؛ فإن صفقة أميركية-إيرانية حالت دون ذلك، وجاءت بالمالكي إلى رئاسة الوزراء(4). مع وصول المالكي إلى سدَّة رئاسة الوزراء بدأت السياسات الحكومية الطائفية تزداد في العراق بشكل ملحوظ، واحتكر المالكي سلطات رئيس الوزراء والقائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع ووزير الداخلية والأمن الوطني، وعدد آخر من الأجهزة الأمنية؛ ناهيك عن تأثيره المباشر على سلطات سيادية أخرى كالقضاء. ومع رحيل القوات الأميركية من العراق بدأ المالكي سياسة تصفية طائفية للسياسيين السُّنَّة؛ فأصدر أوامر باعتقال ومحاكمة نائب رئيس الجمهورية طائق الهاشمي بتهمة تشكيل تنظيم إرهابي، وكذلك فعل مع نائبه صالح المطلق؛ حيث طالب بإقالته من منصبه بعد حجب الثقة عنه، وكذلك وزير المالية السني رافع العيساوي، الذي طالب المالكي باعتقاله(5).
أمام هذه التطورات أثار الموقف التركي الداعي إلى ضرورة ابتعاد المالكي عن الطائفية لتجنيب العراق الأسوأ -بالإضافة إلى استضافة أنقرة للهاشمي الذي صدر بحقه قرار بالإعدام- غضبَ المالكي، وانعكس ذلك بشكل سلبي على العلاقات الثنائية بين البلدين وسط اتهامات متبادلة(6).
2) الموقف من سوريا
في مارس/آذار من عام 2011 اندلعت الثورة السورية. وعلى الرغم من أن الجانب التركي حاول طوال عدَّة أشهر إقناع الأسد بأنَّ تفادي تداعيات انفجار الثورة لا يزال ممكنًا؛ وذلك من خلال عملية إصلاح عاجلة وشاملة، فإن الأسد رفض النصائح التركية، وعندها تدهورت العلاقة بين الجانبين وأعلنت تركيا عن دعمها للثورة السورية، ورفضها لسياسات القتل التي يمارسها. ومع توجه الأسد أكثر فأكثر إلى الاعتماد الكلي على الدعم الإيراني(7)، دفعت الأخيرة باتجاه إنشاء تكتُّل إقليمي، كان عدد كبير من المحللين العرب والأجانب يُنكرون وجوده، وبدا "الهلال الشيعي" واضحًا أكثر من أي وقت مضى، وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على سلوك المالكي أيضًا؛ فبعد أن كان يتهم الأسد بتصدير الإرهابيين إلى العراق مهدِّدًا برفع شكوى ضده في الأمم المتحدة(8)، أصبح المالكي يدافع عن الأسد(9)، كما أنه رأى في الموقف التركي من الوضع السوري تهديدًا لموقعه ولسياساته؛ التي يتماثل فيها مع سياسات الأسد، حيث كان رئيس الوزراء التركي يدعو المالكي إلى تفادي السياسية الطائفية، وتهميش السُّنَّة على الدوام(10).
3) العلاقة مع كردستان العراق
أدَّت السياسة الطائفية لرئيس الحكومة المالكي إلى انعكاسات سلبية خطيرة داخل العراق وفي المحيط الإقليمي، وقد انعكس ذلك -أيضًا- على شركائه السابقين في العملية السياسية؛ إذ دفعت سياسة المالكي حكومة إقليم شمال العراق إلى سياسات أكثر استقلالية، وقد أجبرها وضعها الجغرافي على الانفتاح على تركيا بشكل كبير؛ لكونها الشريان الحيوي للإقليم، والمنفذ الوحيد له إلى العالم الخارجي، على الجانب التركي كانت هذه الخطوة بمثابة فرصة لتطبيع العلاقات مع الأكراد سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، وأصلحت العلاقات الاقتصادية ما أفسدته السياسة، لكنَّ المالكي رأى في التعاون التركي-الكردي خطرًا كبيرًا على موقع ونفوذ حكومته المركزية(11).
مفارقة السياسة والاقتصاد في العلاقات التركية-العراقية
المفارقة أنَّه في الوقت الذي كانت فيه العلاقات السياسية بين البلدين تتدهور؛ فإن العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين البلدين بلغت أوْجَها؛ علمًا بأن الجانب الأكبر منها كان يتمُّ بين تركيا وإقليم شمال العراق.
1) العلاقات التجارية
ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا والعراق من عام 2003 وحتى عام 2012 بشكل هائل، وبقفزات متتالية من مجرد 900 مليون دولار إلى حوالي 11 مليار دولار، وقد عوَّضت هذه القفزة معظم التراجعات التي قد تكون تركيا شهدتها في علاقاتها التجارية مع البلدان العربية الأخرى نتيجة اندلاع الثورات العربية، أو التوتر السياسي، أو حالة عدم الاستقرار التي تسود المنطقة.
ويُعتبر العراق منذ عام 2011 ثاني أكبر مستوعب للصادرات التركيَّة بعد ألمانيا؛ حيث بلغت قيمة الصادرات التركية إليه حوالي 12 مليار دولار عام 2013(12)، استوعبت الجزء الأكبر منها منطقة شمال العراق؛ التي تديرها حكومة إقليم كردستان العراق (حوالي 75%)(13)، وأتت مواد مثل: الحديد، والمعدات الإلكترونية، والمعادن، والفواكه على رأس قائمة السلع المصدَّرة؛ علمًا بأن الأرقام العائدة للسنوات من 2009 وحتى 2013 تُشير إلى امتلاك العراق ما يُؤَهِّله لأن يحتلَّ المركز الأول كأكبر مستوعب للصادرات التركيَّة بدلاً من ألمانيا؛ التي بلغ حجم الصادرات التركية إليها عام 2013 حوالي 13.7 مليار دولار.
وتحقق التجارة التركيَّة مع العراق فائضًا يتجاوز الـ10 مليارات دولار لصالح أنقرة، وهو ما يُعَدُّ مكسبا مهمًّا لها؛ وذلك في ظلِّ تراجع حجم الفائض الذي تحققه أنقرة مع عدد من الدول الإقليمية جراء حالة عدم الاستقرار التي تعيشها المنطقة مؤخَّرًا.
2) الاستثمارات
على الصعيد الاستثماري نمت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين شيئًا فشيئًا بعد عام 2003؛ لاسيما مع مرحلة إعادة بناء العراق، التي أعقبت الغزو الأميركي، وتحوَّل العراق بعدها إلى واحد من الأسواق المفضَّلة لدى المستثمرين الأتراك، وقد استفادت الشركات التركية بمختلف اختصاصاتها القطاعية من هذا الانفتاح؛ ففتحت أفرعًا لها في العراق، أو ارتبطت بشركات عراقية بعقود طويلة الأجل، أو نفَّذت مشاريع ضخمة، أو أضافت الأسواق العراقية إلى قائمة أسواقها المستهدفة بالصادرات؛ ونتيجة لذلك وصل عدد الشركات التركية العاملة أو المرتبطة بالسوق العراقية إلى حوالي 1500 شركة(14)، غالبيتها شركات مرتبطة بقاطع الإنشاءات والمقاولات؛ التي قامت حتى نهاية عام 2013 بتنفيذ حوالي 824 مشروعًا في العراق بقيمة إجمالية تبلغ حوالي 19.5 مليار دولار(15).
3) الطاقة
على مستوى الطاقة تستورد تركيا أكثر من 70% من حاجاتها من الطاقة من الخارج(16)؛ (99% من الغاز، وأكثر من 90% من النفط الخام)، وهي تعتمد في جزء كبير منها على بلدين فقط، هما: إيران، وروسيا، بنسبة 74% من الغاز، و45% من النفط وفقًا لأرقام عام 2012(17)، وهو ما يترك تأثيره على سياسة أمن الطاقة في البلاد، ويُقَيِّد كذلك من مروحة الخيارات في سياسات تركيا سياسية.
ومن هذا المنطلق تنظر تركيا إلى العراق كرافد مهمٍّ من روافد سياسة تنويع واردات الطاقة التركيَّة؛ وذلك على اعتبار أنَّه يمتلك أكبر خامس احتياطي مؤكد من النفط في العالم، ويحتلُّ منذ عام 2012 موقع ثاني أكبر منتج للنفط في أوبك، ناهيك عن أهميته في تفعيل دور أنقرة مستقبلاً كمحطة لنقل الطاقة إلى أوروبا على اعتبار أنَّ تركيا تعتبر المنفذ الأقرب لتصدير النفط العراقي إلى الأسواق العالمية.
لقد استثمرت شركة النفط الحكومية التركية (تباو) حوالي 6 مليارات دولار في بئرين للنفط وبئرين للغاز في العراق، وهناك طلبات لأعمال في 24 حقلاً للنفط من قبل شركة أخرى(18)، وقد دخل إقليم كردستان العراق إلى هذه المعادلة التركية بشكل فعال العام الماضي مع إنشائه خط أنابيب لتصدير نفط شمال العراق بشكل مستقل عن خط النفط العراقي الفيدرالي(19).
انعكاسات صعود "داعش" على المصالح التركية في العراق
1) على العلاقات التجارية التركية-العراقية
مع انهيار سيطرة الحكومة العراقيَّة على الموصل -ثاني أكبر المدن العراقية بعد العاصمة بغداد- وعلى مناطق واسعة -أيضًا- خلال ساعات قليلة في يونيو/حزيران 2014(20)، توقفت تجارة نقل البضائع التركية إلى ما بعد المنطقة الشمالية. ويُقَدَّر عدد شاحنات الترانزيت التركية التي تذهب يوميًّا إلى العراق بحوالي 70 ألف شاحنة شهريًّا (2300 تقريبًا يوميًّا)(21).
وبسبب سيطرة الدولة الإسلامية على مناطق واسعة، فإن الشاحنات التي تتعدَّى شمال العراق لم يَعُدْ باستطاعتها الذهاب إلى الجنوب، وقد انخفض عدد الشاحنات التركية نتيجة لذلك إلى حوالي 1550 شاحنة، ومن المتوقَّع أن ينخفض أكثر مع ارتفاع التكاليف على الشركات والمخاطر الأمنية على السائقين؛ هذه التعقيدات في النقل البري دفعت الجانب التركي إلى التفكير بخيارات أخرى؛ قد يكون من بينها خط تركيا/إيران ومنه إلى جنوب العراق، أو خط أربيل/إيران ومنه إلى جنوب العراق مرة أخرى؛ لكن تبَّين أن التكاليف مرتفعة للغاية، وغير مجدية في الغالب(22).
ووفقًا لجمعية المصدِّرين الأتراك فإن حجم الصادرات التركية إلى العراق انخفض بنسبة 21% في شهر يونيو/حزيران 2014 مقارنة بالعام الذي سبقه؛ الأمر الذي دفع ترتيب العراق إلى التراجع إلى المرتبة الثالثة في قائمة أكبر مستوعبي الصادرات التركية، ثم تراجعت الصادرات التركية إليه مرة أخرى بنسبة 46% في يوليو/تموز لتتراجع مرتبة العراق -أيضًا- إلى الخامسة، وفي أغسطس/آب تراجعت الصادرات التركية على أساس سنوي بنسبة 21%(23)، وقدَّر وزير الاقتصاد التركي حجم الخسائر التركية الناجمة عن انخفاض الصادرات إلى العراق بحوالي 3 مليارات دولار(24). وذلك في حين قدَّر مجلس الأعمال التركي-العراقي في مجلس إدارة العلاقات الاقتصادية الخارجية (DEIK) أن استمرار الوضع على ما هو عليه قد يؤدي إلى خسائر تركيَّة بقيمة 9 مليارات دولار(25).
2) على الاستثمارات التركيَّة في العراق
أدَّت سيطرة "داعش" السريعة والواسعة على مساحة كبيرة من الأراضي في العراق، إضافة إلى ارتفاع منسوب التهديد الأمني، إلى خسائر مباشرة في الاستثمارات التركية في العراق؛ حيث يعمل حوالي 1500 شركة تركية في إقليم شمال العراق وحده، وتُشَكِّل ما نسبته حوالي 65% من حجم الأعمال العادية للشركات الأجنبية في الإقليم. وبسبب الأوضاع السائدة وحالة عدد الاستقرار، فقد تمَّ إيقاف أو تأجيل العديد من مشاريع البنى التحتيَّة؛ التي كان قد تمَّ البدء فيها، أو التي يتمُّ الشروع فيها الآن، ولاشكَّ أن ذلك قد ترتبت عليه خسائر ماليَّة لم يتم احتساب إجماليُّها حتى الآن، كما تأثَّر العديد من الشركات التركيَّة العاملة في العراق، أو التي تُصَدِّر إلى السوق العراقي بتدهور الأوضاع الأمنيَّة هناك؛ خاصة الشركات التي تعمل في قطاعات الطاقة والأغذية والمشروبات والإلكترونيات.
3) على فاتورة الطاقة التركيَّة
خلال فترة أسبوعين من سيطرة الدولة الإسلامية على مناطق واسعة في العراق في يونيو/حزيران 2014، واستيلاء التنظيم على مصفاة بيجي النفطية؛ وهي أكبر مصفاة في العراق وتتعامل مع حوالي 35% من طاقة المصافي الإجمالية في البلاد، ارتفعت أسعار النفط حوالي 5%(26)، كما قامت شركة النفط الحكومية التركية (تباو) بإيقاف أعمالها وسحب موظفيها من العراق؛ وذلك نظرًا إلى المخاطر الأمنيَّة في المناطق غير المستقرة التي تعمل بها(27). وهو ما انعكس سلبًا على تركيا؛ حيث تشير التقديرات إلى أن كل ارتفاع بمقدار 10 دولارات في أسعار النفط يكلِّف تركيا ما بين 300 إلى 450 مليار دولار، إضافة إلى ارتفاع في حجم التضخُّم في البلاد بنسبة 0.5%، وانخفاض في حجم النمو بنسبة 0.3%(28).
حكومة العبادي والتوقعات المستقبلية
مع مجيء العبادي رئيسًا للحكومة خلفًا للمالكي في بداية الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر/أيلول الماضي، أرسلت تركيا رسائل إيجابية إلى الجانب العراقي؛ تأمل فيها أن يتم تجاوز السياسات السابقة، التي أوصلت العراق إلى وضعه الحالي، وكانت أنقرة أوَّل مَنْ قام بتهنئة رئيس الوزراء الجديد؛ مبدية استعدادها للوقوف إلى جانب العراق، وتقديم كل العون اللازم للحكومة العراقية الجديدة(29)، وجاءت زيارة الجعفري -وزير الخارجية العراقي الجديد- إلى تركيا بعد ذلك في 8 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لتكسر الجليد بين الطرفين، وقد كانت مناسبة لإعادة وصل ما انقطع في العلاقات الثنائية على قاعدة المصالح المشتركة والحاجة المتبادلة(30).
بالنسبة إلى تركيا فإن مجيء العبادي بدلاً من المالكي يُعَدُّ فرصة لإعادة فتح صفحة جديدة، وتجاوز الخلافات بين الطرفين من جهة، وبين حكومة بغداد وأربيل من جهة أخرى، ولم تُخْفِ أنقرة أملها في أن تُصَحِّحَ هذه الحكومة أخطاء المالكي، وتعمل على استيعاب السُّنَّة في العملية السياسية؛ وبذلك تكون أنقرة منسجمة مع ثوابت سياساتها الاستراتيجية تجاه العراق من جهة، وتأمل أن يؤدي تحسين العلاقات إلى تخفيف تبعية الحكومة العراقية لكل من واشنطن وطهران.
بالنسبة إلى الجانب العراقي فإن الحكومة المركزية في حاجة إلى كل المساعدة الممكنة من كل الأطراف فيما يتعلق بمواجهة تنظيم الدولة، أضف إلى ذلك أن علاقات جيدة مع تركيا ستساعدها على تجاوز المصاعب فيما يتعلق بالخلافات مع إقليم شمال العراق؛ الذي يعتمد بشكل كبير على الجانب التركي.
لقد مهَّدت هذه المعطيات لقيام رئيس الوزراء التركي أحمد داود أغلو بالذهاب إلى العراق في 20 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي؛ وهي الزيارة الأولى من نوعها لرئيس وزراء تركي إلى بغداد منذ حوالي أربع سنوات، وخلال الزيارة تم الاتفاق على(31):
- مناقشة كل الملفات مثار الإشكال بين البلدين، وكذلك الملفات التي لا تزال عالقة بينهما.
- فتح صفحة جديدة من العلاقات الثنائية.
- تعزيز التعاون الأمني، وتبادل للمعلومات بخصوص مكافحة الإرهاب.
- اقتراح إقامة تعاون عسكري.
- اقتراح مساعدة العراق في النهوض الاقتصادي من خلال استغلال موارده وثرواته بشكل أفضل.
- زيارة العبادي لتركيا في الفترة ما بين 24 إلى 26 من ديسمبر/كانون الأول.
كما من المتوقَّع أن يستأنف الطرفان التركي والعراقي مع زيارة العبادي لتركيا نهاية الشهر الحالي جلسات المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بين البلدين؛ الذي تمَّ تشكيله في عام 2008(32)، والمتوقِّف عن الانعقاد منذ سنوات.
وبموازاة هذه النقلة النوعية في العلاقات توصَّلت حكومة بغداد وحكومة إقليم شمال العراق لأول مرة منذ سنوات إلى اتفاق بخصوص عائدات النفط؛ وهو الأمر الذي طالما شجعت أنقرة الطرفين عليه(33). وبموجب هذا الاتفاق وافقت حكومة بغداد على تحويل 500 مليون دولار لإقليم شمال العراق عن شهر نوفمبر/تشرين الثاني لإقليم شمال العراق، فيما وافق الأخير على تخصيص 150 ألف برميل نفط يوميًّا للحكومة العراقية في شهر ديسمبر/كانون الأول(34)، على أن يُستكمل تطبيق الاتفاق بباقي تفاصيله بداية العام الجديد(35).
وعلى الرغم من هذه التطوُّرات السريعة والمتبادلة فإنَّه ما زال من المبكر جدًّا الحكم على مستقبل العلاقات التركية-العراقية في ضوء المتغيرات الحالية؛ التي صاحبت تشكيل الحكومة العراقية الجديدة؛ لكن باستطاعتنا القول: إن هناك عنصرين رئيسين من شأنهما أن يُحَدِّدا طبيعة العلاقة المستقبلية بين كلٍّ من تركيا والعراق، أو يُؤَثِّرا عليها لاحقًا؛ وهما:
1- اللاعب الرئيس في بغداد: خلفية وتوجهات رئيس الحكومة العراقية تُؤَدِّي دورًا في تحديد شكل وطبيعة العلاقة مع تركيا؛ فكلَّما كان أكثر استقلالية أصبحت إمكانية تطوير العلاقات التركية-العراقية على أساس المصالح المشتركة أكبر، كما أن نجاحه في ملفات العلاقة مع إقليم شمال العراق واحتواء السُّنَّة في العملية السياسية، والموقف من نظام الأسد عناصر ستؤدي دورًا خلال المرحلة القادمة في تحديد حجم الانفتاح بين البلدين. حتى الآن نجح العبادي في استيعاب العنصر الأول؛ لكن لا يبدو أن هناك مؤشرات قوية -حتى الآن- تدل على أنه تجاوز مشكلة استيعاب السُّنَّة في العملية السياسية، والموقف من النظام السوري يبدو حتى الآن محايدًا في العلاقة بين تركيا والعراق.
2- النفوذ الإيراني والأميركي: لإيران والولايات المتَّحدة النفوذ الأوسع والتأثير الأكبر على سياسات العراق الداخلية والخارجية؛ وذلك لمعطيات كثيرة لسنا في وارد التطرُّق إليها؛ لكن هذا النوع من النفوذ والتأثير يُؤَدِّي دورًا مهمًّا من دون شك في تحديد نوعية وطبيعة علاقات حكومة بغداد مع أطراف ثالثة؛ سواء مع تركيا أو غيرها من الدول، وإذا ما استمرَّ هذا النوع من النفوذ والتأثير، فهذا يعني أنَّ العلاقة بين تركيا وبغداد ستتأثر مستقبلاً بنوعية العلاقة بين تركيا وإيران، وتركيا والولايات المتحدة.
حتى الآن يبدو أن هناك مصلحة لدى كلٍّ من واشنطن وطهران في تقارب الحكومة العراقية مع أنقرة؛ فالأولى تُريد أن تدخل تركيا بقوَّة في التحالف ضد تنظيم الدولة، وقد يكون العراق مدخلاً مهمًّا لجرٍّ أنقرة بالنسبة إليها، وأمَّا طهران فهي تُريد احتواء أنقرة في الموضوع السوري، وإبعادها عن التجمُّع الخليجي؛ لذلك من المستبعد أن يكون الانفتاح العراقي على تركيا قد حصل فيما لو كان هناك "فيتو" عليه من قبل طهران، وسنُضطر إلى الانتظار قبل أن نرى كيف ستؤثِّر هذه المعطيات على شكل العلاقة التركية-العراقية خلال المرحلة القادمة.
الهوامش والمصادر
1- انظر: العلاقات التركية-العراقية في موقع وزارة الخارجية التركية، كما يمكن مراجعة بيانات وزارة الخارجية التركية منذ عام 2003 حتى اليوم للتأكيد على هذا التوجه،
http://www.mfa.gov.tr/relations-between-turkey-and-iraq.en.mfa
2- في أواخر عهد المالكي نشأ توجُّه لدى بعض النخب التركية؛ مفاده أنَّه إذا أصبح انفصال شمال العراق أمرًا واقعًا وخارجًا عن إرادة تركيا بسبب الولايات المتحدة وإيران والمالكي، ولم تستطع أنقرة إيقاف الانفصال؛ فالأفضل التعامل مع هذه الحقيقة على أن تتم مقاومتها؛ لأنها ستكون مقاومة عبثية، لاسيما في ظل تزايد المشاكل مع حكومة المالكي من جهة، والتهديدات الأمنية التي يفرضها "داعش" في مقابل تزايد المصالح مع حكومة إقليم شمال العراق. ولكن باستثناء بعض النخب المحدودة -كما ذكرنا- وبعض المسؤولين في حزب العدالة والتنمية من أصول كرديَّة أشاروا إلى تقبُّل هذه الفكرة، فإن الموقف العام كان الرفض، وقد عبَّر عنه بولنت أرينج في حينه، وبقي الاجتهاد الأول هامشيًّا ومحدودًا جدًّا.
3- انظر:
TURKISH CONTRACTING IN THE INTERNATIONAL MARKET, 2014:
http://www.tmb.org.tr/doc/file/2014_Turk_Yurtdisi_Muteahhitlik_Hizmetler...
4- انظر:
Mehmet Yegin and Hasan Selim Özertem, Turkey-Iraq Relations: From Close Partners to Adversaries, GMF, 7 Jan. 2013:
http://www.gmfus.org/wp-content/blogs.dir/1/files_mf/1357578164Ozertem_Y...
5- انظر: المالكي يواجه انتقادات حادة بسبب توجهاته الشمولية، الاقتصادية، 9 من مايو/أيار 2012:
http://www.aleqt.com/2012/05/09/article_654989.html
6- انظر:
Semih Idiz, Erdogan Rebuilds Ties to Iraq, al-monitor, 29-10-2013:
http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2013/10/erdogan-maliki-ties-re...
7- للمزيد من التفاصيل انظر: علي حسين باكير، محددات الموقف التركي من الأزمة السورية: الأبعاد الآنية والانعكاسات المستقبلية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، يونيو/حزيران 2011:
http://www.dohainstitute.org/file/Get/ed258304-4bb2-4a2d-b345-39275252f9...
8- انظر: الأسد يعتبر اتهامات العراق "لا أخلاقية"، والمالكي يؤكد: معظم الإرهابيين يأتون من سوريا، الرياض، 1 من سبتمبر/أيلول 2009:
http://www.alriyadh.com/456383
9- للاستزادة انظر: علي حسين باكير، الثورة السورية في المعادلة الإيرانية-التركية: المأزق الحالي والسيناريوهات المتوقعة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، يناير/كانون الثاني 2012:
http://www.dohainstitute.org/file/Get/78e668c5-4dfa-40ea-adae-f0d30d0049...
10- انظر:
Turkey-Iraq Relations Deteriorate With Accusations of Sectarianism, Henri Barkey, al-monitor, 8-2-2013:
http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2012/al-monitor/turkey-iraq-ti...
11- محمت يجين، مرجع سابق.
12- انظر:
Semih Idiz, Ankara, Baghdad turn over new leaf in relationship, al-monitor, 25-11-2014:
http://www.al-monitor.com/pulse/en/originals/2014/11/turkey-iraq-new-pag...
13- انظر:
raq Crisis Weighs on Turkey's Economy, voa, 7-7-2014:
http://www.voanews.com/content/iraq-crisis-weighs-on-turkey-economy/1952...
14- انظر:
Erdinç Çelikkan, Unrest in Iraq stirs worries over Turkish business links, Hurriyet Daily news, 12-6-2014:
http://www.hurriyetdailynews.com/unrest-in-iraq-stirs-worries-over-turki...
15- انظر MUSTAFA SÖNMEZ, Cost of Iraq on Turkey’s economy raises concerns, Hurriyet Daily news, 23-6-2013:
http://www.hurriyetdailynews.com/cost-of-iraq-on-turkeys-economy-raises-...
16- انظر:
TURKEY'S ENERGY IMPORT COSTS $50 BILLION PER YEAR, ON AVERAGE, Daily Sabah, 2-10-2014:
http://www.dailysabah.com/energy/2014/10/02/turkeys-energy-import-costs-...
17- انظر:
Turkey Energy Profile in EIA:
http://www.eia.gov/countries/cab.cfm?fips=tu
18- انظر:
Turkish Petroleum Corporation invests $6 billion in Iraq, Hurriyet Daily News, 11-11-2014:
http://www.hurriyetdailynews.com/turkish-petroleum-corporation-invests-6...
19- انظر:
http://www.al-monitor.com/pulse/en/originals/2013/11/iraqi-kurdish-pipel...
https://ca.finance.yahoo.com/news/exclusive-capacity-double-iraqi-kurdis...
20- انظر: داعش تسيطر على الموصل، العربي الجديد، 10 من يونيو/حزيران 2014:
http://www.alaraby.co.uk/politics/3dab7aa7-5d06-4275-847f-7dae55338d53
21- انظر:
Taylan Bilgic,Turkey Exporters to Iraq Hit as Roads Remain Shut for Trucks, Bloomberg, 18-6-2014:
http://www.bloomberg.com/news/2014-06-18/turkey-exporters-to-iraq-hit-as...
22- انظر:
Fehim Ta?tekin, Turkish truckers try to get on the road again, al-monitor, 7-7-2014:
http://www.al-monitor.com/pulse/en/originals/2014/07/tastekin-iraq-syria...
23- انظر:
IRAQI CRISIS AFFECTS BUSINESS IN ISTANBUl, Daily Sabah, 9-9-2014:
http://www.dailysabah.com/economy/2014/09/09/iraqi-crisis-affects-busine...
24- انظر:
Turkey fears $3 bln loss in exports as Iraq crisis deepens, Today's Zaman, 3-8-2014:
http://www.todayszaman.com/mobile_detailHeadline.action?newsId=354508
25- انظر:
http://www.hurriyetdailynews.com/unrest-in-iraq-stirs-worries-over-turki...
26- انظر:
Developments in Iraq and Implications for Oil Prices, Hazar , 3-7-2014:
http://www.hazar.org/blogdetail/blog/developments_in_iraq_and_implicatio...
27- انظر:
Enerji IQ, 14-8-2014:
http://www.ceenenerji.com/sayfa/while-energy-activities-continue-in-shii...
28- انظر: علي باكير، أخبار جيدة للاقتصاد التركي، صحيفة العرب القطرية، 9 من ديسمبر/كانون الأول 2014.
Sulyman Yasar, ISIS attacks deal blow to Turkish economy, Al-monitor, 13-6-2014:
http://www.al-monitor.com/pulse/business/2014/06/turkey-iraq-isis-attack...
29- انظر:
Davutoglu first to congratulate iraq's new PM abadi, Hurriyet Daily News, 9-9-2014:
http://www.hurriyetdailynews.com/davutoglu-first-to-congratulate-iraqs-n...
30- انظر:
Turkey and Iraq open new page with Jaafari visit, Today's Zaman, 8-11-2014:
http://www.todayszaman.com/national_turkey-and-iraq-open-new-page-with-j...
http://www.alaraby.co.uk/english/news/f932be6f-7b9f-44e3-8afe-a2c92164fb0d
31- انظر:
Turkey, Iraq refresh vows to mend ties, Hurriyet Daily News, 20-11-2014:
http://www.hurriyetdailynews.com/turkey-iraq-refresh-vows-to-mend-ties.a...
http://www.dailysabah.com/politics/2014/11/21/turkey-iraq-to-fix-chilly-...
32- انظر: نص اتفاق إنشاء المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي عام 2008:
http://www.mfa.gov.tr/data/DISPOLITIKA/Bolgeler/ortadogu/irak/Ortak%20Si...
33- شاهد: علي باكير، قناة الجزيرة، 29 من نوفمبر/تشرين الثاني 2013:
http://www.youtube.com/watch?v=eg0MMj5U3v8
34- انظر:
Sena Alkan, TURKEY, IRAQ TO FIX CHILLY TIES, PM’S VISIT MARKS NEW ERA IN RELATIONS, Daily Sabah, 21-11-2014:
http://www.dailysabah.com/politics/2014/11/21/turkey-iraq-to-fix-chilly-...
35- انظر تفاصيل الاتفاق:
http://goo.gl/ZC2XI9
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس