صحيفة القبس
في عريضته المطوّلة، التي نشرها على صفحته في «الفيسبوك» مؤخراً، أعاد أحمد داوود أوغلو، رئيس وزراء تركيا الأسبق، تسليط الضوء على عدد من المشاكل والتحدّيات التي تواجه تركيا بشكل عام، وحزب العدالة والتنمية بشكل خاص. وإن لم تكن المواضيع التي أشار إليها جديدة أو طارئة، فإنّ توقيت طرحها وطريقته يحملان دلالات كبرى حول حجم المشاكل المتراكمة داخل حزب العدالة والتنمية، وكذلك حجم التحدّيات التي تواجه الحزب والدولة معاً.
من الواضح أنّ للتوقيت اعتباراته الخاصة؛ إذ سمح بالتراجع في شعبية الحزب للعناصر التي تمّ تهميشها داخله مؤخراً، وداوود أوغلو واحد منهم، في تأمين الشرعية اللازمة للانتقادات الكامنة، وتظهيرها في وقت يصعب معه انتقاد أصحابها كما كان عليه الامر من قبل، لا سيما مع الأداء السيئ للحزب والنتائج المتراجعة التي حققها في الانتخابات المحليّة. ويمكن الاستنتاج من خلال قراءة معمّقة لإدراج رئيس الوزراء الأسبق أنّ حزب العدالة والتنمية يعاني من تآكل داخلي غير مسبوق، لا سيما على مستوى القيادات.
وفي حقيقة الأمر، فإنّ الحزب الحالي لم يعد هو نفسه الحزب الذي كان قائماً عند إنشائه في الفترة بين ٢٠٠٢ و٢٠١٠، حيث فقد الكثير من عناصره الأصيلة المؤسّسة والمؤثّرة، لا سيما خلال السنوات القليلة الماضية. إضافة الى ذلك، فقد تغيّرت تشكيلة الحزب، حيث صعدت العناصر المحافظة والأقل خبرة داخله الى مناصب قيادية بالاستناد الى معايير الولاء والقرابة والانتماء الجغرافي وتمّ تهميش العناصر الأكثر ليبراليةً وكفاءة وتأثيراً، أو إجبارها على الابتعاد عن الأضواء وموقع صنع القرار، لا سيما تلك العناصر التي كانت تحظى بوجهة نظر مغايرة عن النواة الصلبة التي تمّ تشكيلها في يونيو ٢٠١٦ وتدور حول رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان.
وفي هذا السياق، يعيدنا داوود أوغلو بالذاكرة الى تلك الفترة التي كان يشغل فيها منصب رئيس حزب العدالة والتنمية (٢٠١٤ ـــ ٢٠١٦)، حيث نما الخلاف داخل الحزب بين الأقطاب المختلفة، وهو الخلاف الذي ظهر الى السطح بين داوود أوغلو وأردوغان مع الدعوة الى مؤتمر استثنائي في ٥ مايو ٢٠١٦، وهو المؤتمر الذي ترافق مع العمل بشكل سري على جمع تواقيع داخل اللجنة التنفيذية للإطاحة بداوود أوغلو والدفع ببنالي يلديريم الى واجهة القيادة، وذلك بدعم كامل من أردوغان.
خمس مشاكل أساسية
وركّز رئيس وزراء تركيا الأسبق على خمس مشاكل أساسية تتعلّق ببنية الحزب، منها على سبيل المثال: تقويض آليات الشورى والعمل المؤسّساتي والتفكير الجماعي المشترك، إمّا بسبب إقصائها بشكل تام، وإمّا بسبب احتكار المصادقة عليها من قبل رأي واحد ومعيّن. هذا يعني أنّ الأمور لم تعد تدار داخل الحزب بالتشاور، وإنما تقاد حيثما يريد شخص واحد او اتجاه واحد، وقد أدى ذلك الى تهميش الآراء المختلفة لعدد كبير من الشخصيات التي ساهمت في تأسيس الحزب، وكان لها فضل في تحقيق إنجازاته، لا سيما منذ عام ٢٠٠٢ وحتى عام ٢٠١٠.
وقد أشار داوود أوغلو الى الخلل الكبير الحاصل بين منظومة مبادئ الحزب من جهة، والخطاب والعمل من جهة أخرى، مشيراً الى الازدواجية التي باتت سائدة لدى شريحة من قيادي الحزب، الأمر الذي أدى الى تضرّر المنظومة القيميّة، حيث باتت الازدواجية هي السائدة وسط خطاب قائم على الشعارات، وسلوكٍ لا يعكس تمسّكاً بالقيم. ترافق ذلك مع تفشّي ظاهرة التعالي والتكبّر والأنانيّة وحب الظهور غير المنقطع، وتوسيع الهوة بين الوعود الخطابية وحقيقة الأوضاع القائمة، واستغلال أمور مقدّسة (نابعة من الدين) من أجل تحقيق مكاسب سياسية.
ولفت داوود أوغلو، كذلك، الى انتشار ظاهرة انعدام الوفاء لمن خدموا الحزب، والتخوين لكل من لا يوافق على التوجّه الحزبي القائم أو يدلي بآراء أو أفكار مختلفة عن الدائرة الضيقة التي تقود الحزب، منتقداً عمليات التجييش التي تجري واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومن يقومون كذلك بالترويج لافتراءات وتشويه أي منافس على الساحة. يعيدنا مثل هذا الكلام الى الحملة التي تمّ إطلاقها بعيد انتهاء فترة حكم الرئيس السابق عبد الله جول، حيث شُنّت حملات إعلامية هائلة ضدّه من قبل بعض الشرائح في حزب العدالة والتنمية لمجرّد تفكيره في ترؤّس الحزب، ولاحقاً في الترشحّ، ربما لرئاسة الجمهورية. كذلك الامر في ما يتعلق بأحمد داوود أوغلو نفسه.
شعبية الحزب تراجعت
وفي ما يتعلق بنتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، كان داوود أوغلو واضحاً تماماً إزاء تشخيص المشكلة وقراءة النتائج وتقديم الحلول. فبخلاف أولئك الذين اختاروا التركيز على أنّ الحزب ربح غالبية البلديات وحصل على أعلى نسبة من الأصوات في الانتخابات المحليّة الاخيرة مقارنة بالأحزاب الأخرى، فإنّ داوود أوغلو قال بشكل واضح لا لبس فيه إنّ شعبية الحزب تراجعت مع خسارته المزيد من تأييد الناس، وإنّ الحزب خسر المدن الكبرى التي بقي مسيطراً عليها لربع قرن، داعياً الى استخلاص الرسائل المهمّة من النتائج التي ظهرت والتغيّرات التي طرأت على توجهات قاعدة الحزب.
ويعزو رئيس الوزراء الأسبق بعض أسباب الخسارة في الانتخابات المحليّة الى ثلاثة أسباب رئيسة، ربما أول هذه الأسباب الانفصال عن الواقع، من خلال اتساع الهوّة القائمة بين القيادة الحزبية والقاعدة الشعبية من جهة، وبين الوعود وما يتحقق على الأرض من جهة ثانية. أمّا ثانيها فهو أنّ التحالف مع اليمين جعل النشاط السياسي الأساس ينحصر فقط في وسط الاناضول والبحر الأسود مبتعداً عن الأجواء الساحلية. وأخيراً، التضييق على صلاحيات الشخصيات المنتخبة مباشرة من الشعب في الانتخابات العامة والبلدية، لمصلحة لجان الحزب ومجالس البلديات، أو إجبارهم على ترك المنصب عبر الاتهامات والضغوط، وهو ما ألحق ضررًا بالمؤسسة السياسة، ووجّه ضربة قوية لمبدأ سلطة الإرادة الوطنية وارتباط حزبنا بالنسيج الاجتماعي.
في نهاية المطاف، انتقد داوود أغلو في إدراجه الفرديّة والشخصنة القائمة على النفوس المغرورة والحسابات الضيّقة، وبدا ذلك واضحاً في اكثر من مكان في الإدراج، لا سيما في ما يتعلق بما أسماه محاولة مصادرة سبب وجود ومستقبل الحزب من قبل شخص واحد أو مجموعة واحدة او جيل واحد، محذّراً من أنّه «إذا لم يتم استخلاص الرسائل المهمة من التغييرات التي ظهرت في توجهات الشعب، واتخاذ الخطوات الواجب القيام بها بحزم، فإن مرحلة صعبة تنتظرنا نحن كحزب العدالة والتنمية، وتنتظر بلدنا تركيا أيضاً».
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!