د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
في شهر جوان عام 1966م كانت أوّل مرّة يُسمح فيها لرئيس الشّؤون الدّينية في تركيا بإجراء زيارة خارج البلاد منذ عام 1924م، كان ذلك بدعوةٍ من الرّئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. اجتمع مجلس الوزراء التركي وتدارس هذا الموضوع الحسّاس، إذ كان يُمنع على صاحب هذه الوظيفة التي تذكر بوظيفة شيخ الإسلام في الدّولة العثمانية الخروج من البلاد بجبّته وعمامته حتى وإن كان ذلك لأداء فريضة الحجّ. فقد كان حكام تركيا في تلك الفترة يتوجّسون من التأثير الذي يمكن أن يتركه شيخ بذلك المقام على المناطق التي يزورها، ذلك أنّ مثل هذه الزيارة تحمل معاني كبيرة لدى المُسلمين، ومعلوم أنّ شعوب كثيرة في العالم الإسلامي في تلك الفترة ظلّت تدعو للسّلطان العثماني في المساجد، والحالُ أن الخلافة أُلغيت قبل ذلك بزمن طويل على يد مصطفى كمال أتاتورك.
صدر القرار من مجلس الوزراء التركي بأن يسافر الشيخ إبراهيم بدرالدّين إلمالي إلى تونس تلبية لدعوة من الرئيس التّونسي، وكان ينبغي أن ينتقل أولا إلى روما بإيطاليا ثمّ منها إلى تونس، إذ لم يكن الخط المباشر بين تركيا وتونس قد بدأ العمل به بعد. وسافر الشيخ إلى روما، ثم بدا للحُكومة التركية أن تتراجع عن هذا الإذن الذي مُنح للشيخ إلمالي بعد أن ثار نقاش حادّ وانتشرت في بعض الأوساط وفي الصّحف الحكوميّة مواقف رافضة بشدة لهذه الرّحلة، وأرسلت إليه الحكومة تطلب منه العُدول عن السفر والرّجوع فورًا إلى تركيا، ورأت أنّ الوقت ليس مناسبًا بعد للمضيّ في هذا الرّحلة.
غير أن الشّيخ إلمالي كان عازمًا على مُواصلة الرّحلة رغم رفض الحكومة، ويبدُو أنّه كان متشوّفًا لرؤية بلاد إسلاميّة ظلّت منارةً للإسلام وللعلم مدّة قرون، وكان متشوقًا لزيارة جامع الزّيتونة المعمور الذي سمع عنه ولم تره عيناه. ولتحقيق أمنيته أخبر الحكومة بأنّه سوف يمضي في رحلته على حسابه الخاص، وأنّه سوف يستخدم أيام إجازته السّنوية ليقضي بعض الأيام في البلاد التّونسيّة. وهذا ما حصل، وامتطى الطائرة ووصل إلى تونس.
ويذكر رئيس الشّؤون الدّينية السّابق محمد كورماز الذي شغل هذه الوظيفة ما بين عامي 2010 و 2017م أنّه اطّلع على بعض الصّحف التّونسية الصّادرة في تلك الفترة ورأى كيف احتفى التّونسيون بالشّيخ إبراهيم بدرالدين إلمالي وكيف استقبلوه في المطار بأعداد كبيرةٍ. وهذا يبين أن العلاقات بين تونس وتركيا لم تنقطع تمامًا رغم التّوجه العلماني الصارم الذي فرضه أتاتورك على الشّعب التّركي، كما أنّ الحنين إلى ماضي الإسلام ظلّ حيّا في وجدان التّونسيّين رغم سياسة التّغريب التي انتهجها الرّئيس بورقيبة.
مكث الشيخ التّركي في تونس لبعض الوقت ثم انتقل من هناك إلى بنغازي في ليبيا كي يلتقي بأهلها، ومن هناك يقفل راجعًا إلى بلاده. وما إن وصل إلى هناك حتّى جاءت التّعليمات من الحكومة التركيّة بضرورة قطع رحلته والرّجوع على جناح السّرعة إلى تركيا، وأعلمت الحُكومة التّركية السفارة في ليبيا بضرورة تنفيذ القرار حتّى لو تطلب الأمر استعمال القوّة. وبالفعل قطع إبراهيم بدرالدّين رحلته ورجع إلى بلاده. وبعد رجوعه مورست ضده ضغوط جمّة لدفعه للاستقالة من وظيفته، بيد أنه قاوم تلك الممارسات ولم يخضع. ثم اجتمع مجلس الوزراء وقرّر إحالة إلمالي على التّقاعد عقابًا له على عدم الانصياع لإرادة الحكومة.
والشيخ إبراهيم بدرالدّين ولد في منطقة إلمالي في أنطاليا. وبعد أن تلقى تعليمه الابتدائي هناك انتقل إلى اسطنبول ودخل مدرسة "دار الخلافة العليّة" لمواصلة تعليمه، ثم دخل كلية الإلهيات وتخرّج فيها عام 1928م. وعمل مؤذّنا براتبٍ في كلّ من جامع "حيدري حسين دده" وجامع "شيرمَرد شاووش" في اسطنبول. وشغل إبراهيم إلمالي أول وظيفة عام 1935م عندما عُيّن كاتبًا في دار الإفتاء باسطنبول، ثم شغل بعد ذلك موظفا في رئاسة للأرشيف في الإدارة العموميّة لأرشيف رئاسة الوزراء، واشتغل في دار الإفتاء في أسكدار من عام 1953 إلى عام 1961م، ثم في دار الإفتاء باسطنبول.
وفي 9 ديسمبر عام 1965 عُيّن رئيسًا للشّؤون الدّينية بقرار من مجلس الوزراء. وفي شهر جوان 1966م سافر إلى تونس ثم ليبيا، وعند عودته من هناك استقبل في المطار استقبالاً حافلاً من قبل الجماهير، ورافقته طوابير طويلة من السّيارات حتّى مقرّ رئاسة الشؤون الدينيّة. والظّاهر أنّ هذا التّفاعل الجماهيري أزعج السلطات المحليّة، فتمت إحالته على التّقاعد بعد فترة قصيرةٍ من رجوعه من رحلته تلك.
وانتخب بعد ذلك لفترتين نائبًا في البرلمان عن اسطنبول وأفيون. لم يتزوّج إبراهيم إلمالي، وتوفي بتاريخ 5 ديسمبر عام 1994م ودفن في منطقة "فينيقه" التي عاش فيها آخر سنوات حياته. ولم يترك هذا الشّيخ مؤلّفات علميّة، وكان إداريّا بامتياز، وعرف بخبرته في مجال عمله ونشاطه والتزامه في وظيفته. وكان يعرف العربيّة والفارسيّة، مُغرمًا بالوثائق الأرشيفية وبالآثار التاريخيّة. وقد أصيب، وهو في الثّلاثين من عمره بمرضٍ الشّيء الذي كان يمنعه من مزاولة وظيفته لبعض الشّهور، ويعتقد أن يكون ذلك أحد الأسباب التي حالت دونه ودون مزاولة النّشاط العلميّ.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس