الامبراطورية العثمانية - ترك برس
يقول أهل التاريخ أن الشيخ آق شمس الدين هو الفاتح المعنوي للقسطنطينية، هذا الشيخ الذي علم الفاتح العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ وأساليب الحرب، وأعطى للفاتح درساً في صغره لم ينسه أبداً يدل على مدى فهم هذا الشيخ لمعنى تخريج وتربية قائد رباني، فلقد استدعى الفاتح يوماً ثم قام بضربه ضرباً شديداً بلا سبب.
بكى الفاتح بشدة وظل يتذكر تلك الواقعة، ولما تولى السلطنة أيام أبيه مراد استدعى شيخه آق شمس الدين وسأله بغضب شديد: "لماذا ضربتني يوم كذا ولم أكن قد فعلت ما أستحق عليه الضرب؟"، فقال له شيخه: "أردت أن أعلمك كيف يكون طعم الظلم وكيف ينام المظلوم، حتى إذا وليت الأمر لا تظلم أحداً"، فما كان من الفاتح إلا أن اعتذر لشيخه وقبل رأسه ويده.
عقلية عسكرية فذة
لم تكن عقلية الفاتح العسكرية الفذة محض صدفة على الإطلاق، فمنذ صباه كان شغوفا بتعلم أساليب الحرب، ودرس كتب الحيل الميكانيكية؛ فاخترع منجنيقا ضخما، واخترع أربعة أبراج متحركة، ويرجع إليه الفضل في اختراع أول مدفع هاون في التاريخ، وقد أشرف بنفسه على صناعة المدافع العملاقة التي خرقت أسوار القسطنطينية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل اهتم بدراسة التاريخ العسكري العالمي وفنون السياسة والمؤامرات المحلية والدولية، ودرس كتب الحروب الصليبية، كما قرأ نصوص أربعة عشر مشروعا أعدت من قبل الأوروبيين لتدمير الدول الإسلامية.
تطوير الأسلحة
بعد قراره فتح القسطنطينية، اعتنى السلطان محمد الفاتح بتطوير الأسلحة اللازمة لهذه العملية المقبلة، ومن أهمها المدافع، التي أخذت اهتمامًا خاصًّا منه؛ حيث أحضر مهندسًا مجريًّا يُدعى أوربان كان بارعًا في صناعة المدافع، فأحسن استقباله، ووفَّر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، وقد تمكن هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة، كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى عشرات الأطنان، وأنه يحتاج إلى عشرات الثيران القوية لتحريكه.
الاستعداد العسكري
ركز الفاتح على تطوير كتائب الجيش، وأعاد تنظيمها، ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من رواتبهم، وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر، وعمل على تطوير إدارة الأقاليم، وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم، وعزل من ظهر منه تقصير أو إهمال، وطوَّر البلاط السلطاني، وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة؛ مما أسهم في استقرار الدولة، والتقدم إلى الأمام.
الحصار
خلال الحصار الذي دام أربعة و خمسين يوما من 6 أبريل 1453 و حتى 29 مايو 1453 شن الجيش العثماني هجمات من البحر أيضا و ليس فقط من البر. وقد كان خليج القرن الذهبي مغلقا بسبب السلاسل الممدودة عبر مصبه لمنع السفن من الدخول إلى هذا المدخل من البوسفور، غير أن البيزنطيين لم يتوقعوا خطة السلطان الشاب الذي رأى أن أن يجري نقل السفن الحربية العثمانية عبر البر على زلاجات مدهونة بمادة دهنية إلى الشاطئ الشمالي للقرن الذهبي لتجنب السلاسل وكذلك القلاع التي تسد المدينة.
عبقرية الفاتح
يذكر المؤرخ البيزنطي المعاصر لفتح القسطنطينية "ميخائيل دوكاس" - وهو واحد من أربعة مؤرخين بيزنطيين عاصروا فتح المدينة، ومن أشد كارهي العُثمانيين والمسلمين بشكل عام- عن حادثة نقل جيش الفتح للسفن العثمانية من على اليابسة إلى داخل المضيق الذي أغلقته السلاسل البيزنطية: "لم ير أحد أو يسمع حركة كهذه، وكان ملك الفرس "كيخسرو" قد أنشأ جسرًا فوق مياه البحر، وعبر بجنوده إلى الشاطئ المقابل وكأنه يسير على اليابسة، وأما السلطان مُحمد، الإسكندر الجديد أو أعظم سلاطين زمانه في رأيي، فقد حول اليابسة إلى بحر، واستطاع تسيير السفن من على تلال الجبال بدلًا من الأمواج، وعليه فإن هذا السلطان العثماني تفوق حتى على كيخسرو، ودمّر حصون البيزنطيين، واستطاع السيطرة على القسطنطينية ملكة مدن العالم، والتي كانت تلمع كالذهب الحقيقي".
حرب نفسية
أثناء حصار مدينة القسطنطينية لجأ العثمانيون إلى طريقة عجيبة في محاولة منهم لدخول المدينة، حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفة إلى داخل المدينة، وسمع سكانها ضربات شديدة تحت الأرض فأسرع الإمبراطور البيزنطي بنفسه ومعه قواده ومستشاروه إلى ناحية الصوت، وأدركوا أن العثمانيين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض للوصول إلى داخل المدينة، فقرر المدافعون عن المدينة حفر أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين.
عندما وصل العثمانيون إلى الأنفاق التي أعدت لهم ظنوا أنهم وصلوا إلى سراديب سرية تؤدي إلى داخل المدينة، وأثناء فرحهم بذلك يباغتهم البيزنطيون بصب ألسنة النيران والنفط المحروق والمواد الملتهبة عليهم، وقد أدى هذا إلى اختناق كثير منهم واحتراق بعضهم وعودة الناجين من حيث أتوا؛ إلا أن هذا الفشل لم يفت في عضد العثمانيين فسرعان ما عاودوا حفر أنفاق أخرى في أماكن مختلفة، وقد أصاب أهل القسطنطينية من جراء ذلك خوف عظيم وفزع لا يوصف حتى صاروا يتوهمون أن أصوات أقدامهم ما هي إلا صدى الصوت الناتج عن حفر العثمانيين.
الحرب خدعة
لجأ العثمانيون إلى استخدام حيلة جديدة في محاولة اقتحام القسطنطينية وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من أسوار المدينة، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وملئت بالرجال في كل دور من أدوارها. وكان الدور العلوي يحتوي على الرماة الذين كانوا يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار.
وقد تمكن العثمانيون من لصقها بالأسوار ودار بين من فيها وبين البيزنطيين المتواجدين على الأسوار قتال شديد، واستطاع بعض المسلمين ممن في القلعة تسلق الأسوار. وكثف المدافعون عن المدينة من قذف القلاع الخشبية بالنيران حتى تمكنت منها فاحترقت إلا أنها وقعت على الأبراج البيزنطية المجاورة لها فقتلت من فيها من المدافعين. وكان الفاتح يشجع جنوده حتى لا يصيبهم الإحباط عندما سقطت القلعة قائلا: "غدًا نصنع أربعةً أخرى".
الإمبراطور يطلب الدعم
لما رأى الإمبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان محمد الفاتح وإصراره على فتح القسطنطينية، عمد إلى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوروبية وعلى رأسها البابا زعيم المذهب الكاثوليكي، في الوقت الذي كانت فيه القسطنطينية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية وكان بين الكنيستين عداء شديد، إلا أن الإمبراطور اضطر لمجاملة البابا وأظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيسة الأرثوذكسية لتصبح تابعة له.
قام البابا الكاثوليكي من ناحيته بإرسال مندوب إلى القسطنطينية ليخطب في آيا صوفيا، ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين، مما أغضب جمهور الأرثوذكس في القسطنطينية ليقوموا بحركة مضادة لهذا الاتحاد الإمبراطوري الكاثوليكي؛ حتى قال بعض زعماء الأرثوذكس: "من الأفضل لنا مشاهدة عمائم الترك في ديار البيزنط على مشاهدة القلنسوة اللاتينية".
وما النصر إلا من عند الله
أثناء محاصرة الجيش العثماني للقسطنطينية، وصلت رسالة إلى مركز القيادة العثمانية تفيد بأن سفنًا جنوية تعبر مضيق الدردنيل حاملة على متنها الجنود والذخيرة والمؤن لدعم البيزنطيين، وقد استطاعت هذه السفن هزيمة السفن العثمانية التي اشتبكت معها، مما أدى إلى شعور جيش الفاتح باليأس، واقترح كثير من القادة عليه أن يفك الحصار عن المدينة، ويقبل بالجزية بدلًا عنها.
علم مربي السلطان بالأمر وأرسل له رسالة كان فيها: "اشحذوا همتكم حتى لا تؤول عاقبتُنا إلى خيبة الأمل والخذلان، واعلموا أننا سنسعد وننتصر بحول الله ومدده، بيد أن الأمر كله بيد الله ويأتي منه، ولكن علينا أن نعمل ما بوسعنا وألا نتوانى، فهذا طريق رسول الله - عليه الصلاة والسلام - وصحابته الكرام... فأرجو أن تأخذوا كلامي هذا بعين الاعتبار لأنه نابع من صميم حبي لكم".
ليلة الفتح
في مساء الثامن والعشرين من أيار/ مايو 1453 كانت الاستعدادات العثمانية على أشدها والمدافع ترمي البيزنطيين بنيرانها، والسلطان يدور بنفسه على المواقع العسكرية المختلفة متفقداً وموجهاً ومذكراً بالإخلاص والدعاء والتضحية والجهاد. وبعد أن عاد الفاتح إلى خيمته، دعا إليه كبار رجال جيشه وأصدر إليهم التعليمات الأخيرة، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية:
"إذا تم لنا بمشيئة الله فتح القسطنطينية، تحقق فينا حديث من أحاديث رسول الله ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير، فأبلغوا أبناءنا الجنود فرداً فرداً، أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينيه، فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى وليتركوا القسس والضعفاء والعجزة وكل الذين لا يقاتلون في أمان".
فتح مبين
"وانتهت القصة هنا، لقد فتحت القسطنطينية، وصليت في آيا صوفيا وانقلبت أكبر كنائسها إلى أروع مساجدها.
ولكني ظللت أحب الصلاة في مسجد أبي أيوب الأنصاري، أتبارك بأعتاب الصحابة وتبلل دموعي لحيتي وأنا أرسل الصلاة والسلام للمصطفى الهادي ممن حظي بشرف أن يأتي ذكره على لسانه الشريف قبل أن يرى النور، وبشر به وأنعم عليه بالرضا من الله، عسى الله أن يقبل صالح أعمالي ويتجاوز عن خاطئ اجتهادي".
من مذكرات السلطان الغازي محمد الثاني الفاتح، سابع سلاطين الدولة العثمانية
#القسطنطينية_قلب_العالم
#ذكرى_فتح_القسطنطينية
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!