د. مدى الفاتح - خاص ترك برس
قرأت واستمعت مثل غيري لعشرات التعليقات التي قدمها محللون عرب لمسار الانتخابات التركية التي يتفق الجميع على أهميتها وعظم تأثيراتها على المنطقة.
بنظري فإن هناك مشكلة تواجه الباحثين والمتعمقين العرب في مجال قراءة المشهد الانتخابي في تركيا وهي الخلفية التي ينطلق منها أولئك الباحثون، فهم، في غالبهم، إما ينحدرون من بلد لا يعترف أصلاً بالديمقراطية ولا بضرورة تمثيل الشعب ولا الاستماع لرأيه، أو ينحدرون من بلاد فيها مجرد ظل للديمقراطية أو شكل زائف من أشكال التمثيل.
هذا كله يفسّر صعوبة الدخول إلى عمق الحدث التركي عامة وعمق التجربة الديمقراطية هناك خاصة، فحزب التنمية والعدالة على سبيل المثال، وإن كان صاحب أغلبية، إلا أنه لم ولن يكون ضامناً للفوز الكاسح على طريقة الأحزاب الحاكمة في بلدان العالم الثالث، بل إن أداءه هو وحده من يضمن له إما البقاء في الصدارة أو التراجع أو حتى الهزيمة.
إن ما لدينا هنا هو ممارسة ديمقراطية حقيقية فيها مشاركة ومنافسة وليست مجرد مسرحية صورية. النصر هنا ليس حليف الثقل العشائري أو القبلي أو حتى الولاء التنظيمي، بل البرامج المقدمة للناخبين.
هذه النقطة التي هي بديهية في أي لعبة ديمقراطية تبدو وكأنها صعبة الفهم على البعض الذين مالوا إلى إنكار إحتمالية تراجع الحزب الذي يعتبر أردوغان أحد رموزه.
آخرون ذهبوا في المقابل إلى إعلان فرحهم بتراجع العدالة والتنمية الذي بدا لسنوات متقدماً على غيره ومنتصراً إلى الأبد وسرّهم أن يهزم هذا الحزب الذي يروّج له في المنطقة على أساس مرجعيته الإسلامية ومنهجه الذي يعود بتركيا لدولة الخلافة.
وهنا نقطة أخرى يجب التوقف عندها فيما يخص تلك التوصيفات ما بين "علماني" و"إسلامي"، فإذا كانت هذه الكلمات بشكل عام ذات مدلول فضفاض يحمل أكثر من معنى بحسب السياق التاريخي والجغرافي فإنها ومع الخصوصية التركية تحمل بلا شك روحاً مختلفة.
على سبيل المثال، فإن الإسلاميين في العالم العربي هم على صنفين:
الأول، هم المشغولون بالدعوة إلى التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية باعتبارها أولوية قصوى تحل ما عداها من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وهم مستعدون في سبيل ذلك للتضحية بكل شىء ومعاداة كل نظام يتلكؤ في مسايرتهم أو دعمهم.
أما الثاني، فهم ما يمكن أن نطلق عليهم لفظ "الإسلامويين" وهم مشغولون أيضاً بتدبيج العبارات التي تعلي من شأن الشريعة الإسلامية. لكن الفارق أن ذلك هو لمجرد المتاجرة السياسية الرابحة ولكسب تعاطف الناس الذين يؤمنون بأن قيام دولة إسلامية هو ما سيكفل لهم حياة أفضل وخيراً عميماً.
وسواء كان بذهننا الصنف الأول الذي هو جاد ومتسق مع أفكاره وبرنامجه أو الثاني الانتهازي الذي يعمد لاستغلال العاطفة من أجل تمرير وصوله للسلطة أو قمع معارضيه، في كلا الحالتين فإن تنزيل ذلك على الحالة التركية يعتبر خطأً منهجياً كبيراً.
الشريعة الإسلامية ليست قيمة مطروحة بحد ذاتها في السياق الانتخابي وكذلك الانتماء للإسلام، فتركيا تعتز بأنها بلد مسلم كبير وأصيل وأن الإسلام يمثل لها مرجعية حضارية وثقافية تميزها عن غيرها. هذا ينطبق على العدالة والتنمية، لكنه ينطبق أيضاً على غالب أحزاب المعارضة.
العدالة والتنمية نفسه ليس على عداء مع العلمانية ناهيك أن يكون على عداء مع الأحزاب الأخرى أو الشخصيات التي تعارضه لمجرد كونها "علمانية"، ثم إن الكلمة نفسها لا تحمل ذات الصدى الذي تحمله في العالم العربي فلا يوجد ذلك العداء المحتدم بين أنصار الإسلام السياسي وأولئك الليبراليين والعلمانيين كما لا توجد تلك الاتهامات المتبادلة التقليدية التي تتراوح بين التشكيك في الوطنية والتجريد من الإسلام.
الحقيقة أن العدالة والتنمية أقرب إلى العلمانية بشكلها الغربي، كما أن غيره من الأحزاب ذات العلمانية المفترضة كثيراً ما تقرّب إليها شخصيات متدينة أو مصنفة على أنها "إسلامية".
بالمقابل، هناك شبه نسبي فيما يتعلق بوجود نخبة من ما يمكن تسميته بـ"السلفية الفوضوية" والفوضوية هنا نسبة للترجمة العربية لاسم ذلك التيار الرافض لكل دولة وسلطة حتى أنه يسمى في بعض الترجمات بـ"اللاسلطوي".
هذا التيار الذي يرفض الحداثة الغربية جملة والديمرقراطية كوسيلة للحكم خاصة لا ترضيه بكل تأكيد الطريقة التي تسيّر بها الدولة التركية نفسها فهي بحسب التعريفات السلفية دولة ذات نظام غير إسلامي لا يستحق الدعم أو المؤازرة، هذا إن لم نقل أنه يستحق الكفاح من أجل تغييره سلماً أو بالقوة، وهو ما قد يقود لتحريم التصويت له بغض النظر عن نتيجة هذه الفتوى على المدى القصير أو الطويل.
لن يشغل السلفيون أنفسهم بما سيقود له الإحجام عن التصويت حتى وإن أدى لتغلب مجموعة أو فريق أشد مجاهرة بالعداء للإسلام الذين يغيرون عليه، فقاعدة "أخف الضررين" التي يتم تفعيلها ضمن نطاقات أخرى لا مكان لها هنا وهو ما حدث فعلاً في تجارب دول إسلامية مختلفة.
رغم ذلك فإن الخلاف الأكبر يبقى في السياسة الخارجية بين حزب أردوغان الذي تقوده روح التضامن التي لا تحدها حدود مع الدول العربية والإسلامية والأحزاب القومية الأخرى التي ترى أن التدخل في الشأن المصري والسوري على سبيل المثال يضر بالمصلحة الوطنية وأنه يجب إبعاد اللاجئين السوريين والتوقف عن انتقاد النظام المصري.
نعود بعد هذا للقول أن الحديث عن هزيمة العدالة والتنمية ليس دقيقاً فنحن أمام حزب، حتى في ظل نتائج الانتخابات الأخيرة، هو الأقوى والأكثر شعبية حتى مع عدم تمكنه من الوصول لأغلبية كاسحة تمكنه من تشكيل حكومة منفرداً، وهو ما أراده الحزب للمرور بتركيا نحو تشريعات خاصة وتغيير طريقة الحكم إلى رئاسية.
ربما يعود سبب هذا التراجع في الشعبية بالأساس إلى الهوية الإسلامو-علمانية الخاصة بالحزب التي أبعدت عنه أصواتاً تريد علمانية أوسع أو إسلاماً صريحاً. هذه الشريحة التي تأثرت لحد كبير بسجالات الشرق الأوسط وتحولاته الحادة وتناقضاته.
ثم إن إبعاد وتهميش شخصية كعبدالله جول على سبيل المثال قد أدت، بلا شك، لخسارة عدد من المؤيدين الذين كانوا ينظرون له كرمز مؤسس للحزب وأحد أبرز وجوهه "الإسلامية". القصد من الإبعاد كان التقرب ربما للناخب الذي يميل لليبرالية، لكن ما حدث كان خسارة غير متوقعة.
أيضاً فإن كثرة الحديث عن سعي أردوغان لزيادة صلاحياته عبر تحويل النظام إلى رئاسي ومزج ذلك بجدل الانتخابات قد أدى لسوء فهم كبير وصوّر حزب العدالة والتنمية كحزب يسعى لفرض رؤيته على الدولة واحتكار السلطة مما تسبب في إحجام ناخبين كثر عن التصويت لصالح الحزب، بل تصويتهم لصالح المنافس المشاغب حزب الديمقراطية الكردي من أجل تفويت هذه الفرصة.
ولأن الخير قد يكون في الشر فإنه قد يكون من مصلحة العدالة والتنمية في الوقت الحالي أن يشكّل حكومة أقلية أو إئتلاف لأن تمدده وحيداً في السلطة سيجعله، في الغالب، هدفاً للمؤامرات الداخلية، كما يمكن أن يجعله هدفاً للسهام الخارجية التي تريد أن تضبط تركيا ضمن موجة معينة لا تتجاوزها. هذه السهام قد تقود ليس فقط لهزيمة الحزب بل لتراجع الدولة نفسها.
أحد الجوانب الإيجابية هنا يتمثل في نجاح الأكراد في دخول البرلمان كأكراد وهو ما يعظّم حظوظ المصالحة الوطنية والاحساس بالشراكة الذي سوف يقود بدوره لادماج كامل لهم ضمن النسيج السياسي التركي مما سيبعد بكل تأكيد شبح الوصاية العسكرية التي سعت عبر تاريخها لضمان ذلك بالقوة.
في الأخير تبقى الانتخابات التركية شأناً داخلياً بالأساس ويبقى الأتراك هم أكثر من يعرف ما يقود لمصلحة وطنهم. هنا نقول فقط، من واقع متابعتنا للحدث التركي، أنه حتى وإن دخلت البلاد ضمن حالة من عدم اليقين في انتظار توافق صعب أو إئتلاف فإنه لن يصعب عليها تجاوز ذلك ومتابعة مسيرتها من جديد كما تابعتها بعد كل تحدٍ.
أما آخر من من حقه انتقاد مشهد الديمقراطية التركي فهم أولئك المنظرّون العرب الذين، كما قلت في بداية المقال، إما لا يعرفون الديمقراطية والانتخاب في بلدانهم أو يمكن لأي منا أن يخمّن نتيجة "انتخاباتهم" لعشر سنوات قادمة..!
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس