يحيى بوستان - يني شفق
إن الوضع الذي ستؤول إليه تركيا مهم جدًا بالنسبة للقوى التي تعمل على السيطرة على المنطقة، وتتم مراقبة كل خطوة تتخذها أنقرة بعناية من قبل كل من الحلفاء والمنافسين والمعارضين. ويتساءل المرء عما قد تتسبب به دبلوماسية الرفاهية المصطنعة حديثًا.
يمكننا القول إن الولايات المتحدة الأمريكية تراقب هذه المرحلة بدقة، وهناك إشارات إيجابية تأتي من واشنطن في أعقاب الانتخابات الرئاسية، كما تشير التحليلات الخاصة بتركيا المنشورة في وسائل الإعلام الأمريكية إلى احتمالية تعاون واشنطن مع أنقرة بسبب التطورات في روسيا وإفريقيا. ويستخدم البيت الأبيض أيضًا لغة مُنتقاة بشأن أنقرة ويقوم ببعض المبادرات، هناك من يقول إن كل هذا يعني "صفحة جديدة في العلاقات". دعونا نلقي نظرة على التطورات التي حدثت في الأيام القليلة الماضية لوضع النقاط على الحروف وفهم سبب اتخاذ الولايات المتحدة الأمريكية هذا الموقف.
في قمة مجموعة "بريكس" الـ 15 التي عقدت في جنوب إفريقيا تقرر دعوة ست دول للانضمام إلى المجموعة، كانت من بينها الإمارات العربية المتحدة وإيران ومصر والمملكة العربية السعودية. إنها لهزيمة كبيرة للدبلوماسية الأمريكية أن تجلس دول الخليج التي كانت أقرب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية حتى الأمس، على طاولة المفاوضات مع إيران وبوساطة الصين ثم تصبح فيما بعد أحد أعضاء مجموعة "بريكس"، إن خسارة الأسس الاستراتيجية في الخليج تزيد من القيمة الجيوسياسية لتركيا في نظر الولايات المتحدة الأمريكية. ومما لفت انتباه واشنطن أيضًا أن أنقرة -التي كانت تتخذ نهجًا إيجابيًا تجاه مجموعة "بريكس"- لم يكن لها دور فعال في القمة الأخيرة ولكن لا ينبغي للولايات المتحدة الأمريكية أن تعتقد أن تركيا تنأى بنفسها عن مجموعة "بريكس"، فمجموعة "بريكس" هي إحدى النقاط التي ستتطرق إليها أنقرة في رؤيتها الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وإن كانت أنقرة لا تضع هذه القضية على جدول أعمالها اليوم فهذا لا يعني أنها لن تفعل ذلك غداً.
ذهب وزير الخارجية "هاكان فيدان" إلى موسكو أمس بعد "كييف"، وتقوم أنقرة بنوع من "الوساطة" لحل أزمة الحبوب وعودة روسيا إلى طاولة المفاوضات. لقد وضحت سابقًا في مقال كتبته (سيناريوهات ممر الحبوب، 18 أغسطس) أن الهدف الرئيسي لتركيا هو ضمان استمرار ممر الحبوب في شكله الحالي، وأن الخطوات الأحادية الجانب التي ستتخذ دون معالجة مخاوف روسيا من شأنها أن تعرض أمن البحر الأسود للخطر. وبعد نتائج المحادثات التي سيجريها "فيدان" في موسكو سيلتقي الرئيس أردوغان مع نظيره الروسي بوتين في "سوتشي" يوم الإثنين وسيتم اتخاذ القرار النهائي بشأن ممر الحبوب في هذا الاجتماع.
إن أنقرة تدير دبلوماسية حساسة بين أوكرانيا وروسيا لفترة طويلة وتعتبر الوسيط الوحيد بينهما وهي أثناء قيامها بذلك كله تتخذ موقفًا محايدًا تجاه كل من روسيا وأوكرانيا، وهذا من شأنه أن يزيد من وزن تركيا واعتبارها في نظر الولايات المتحدة الأمريكية ويزيد من قيمتها الجيوسياسية.
قُتل "بريغوجين" زعيم متمردي مجوعة "فاغنر" في حادث تحطم طائرة مشتبه به بالقرب من موسكو، وهناك تحليلات وتوقعات تفيد بأن هذا التطور سيعرض الوجود الروسي في إفريقيا للخطر بل وينهي قدراتها العملياتية، وتشهد القارة صراعًا كبيرًا على السلطة حيث شهدت ثمانية انقلابات عسكرية في السنوات الثلاث الماضية، كما يتم طرد الفرنسيين الآن من البلدان التي استعمروها واحداً تلو الآخر (أعطت النيجر السفير الفرنسي مهلة لمغادرة البلاد لكن فرنسا لا تزال تحاول المقاومة)، وفي الوقت ذاته تحافظ أنقرة على اتصالات مباشرة مع الدول الأفريقية ويجري تعزيز أرضية العلاقات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، ومن الملفت للانتباه أن "غويتا" رئيس دولة "مالي" التقط صورة مع "بيرقدار تي بي 2" على مكتبه أثناء توقيع المرسوم الذي يقضي بأن اللغة الفرنسية لم تعد اللغة الرسمية، ويتم تداول تحليلات في الغرب حول النفوذ التركي المتزايد في إفريقيا وإمكانية تعاون الولايات المتحدة الأمريكية مع تركيا في هذا السياق.
كما تأثرت العلاقات العسكرية أيضًا بالتوترات الأخيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الأسبوع الماضي أجرى البلَدان أكبر مناورة عسكرية مشتركة بينهما منذ سبع سنوات (وقد تحدثت وسائل الإعلام الإيرانية عن هذا الخبر بلغة سلبية جدًا) وخلال التدريبات دعت الولايات المتحدة الأمريكية "سلجوق بيرقدار" رائد التطور التكنولوجي الوطني إلى الجلوس في مقعد الكابتن لأكبر حاملة طائرات في العالم "يو إس إس جيرالد آر فورد" ولا يعتبر هذا حدثًا عاديًا إذ لا تتم دعوة المدنيين إلى متن مثل هذه السفن وخاصة إلى مقعد الكابتن. باتت الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية للتواصل مع عبقري التكنولوجيا "سلجوق بيرقدار" واضحة للعلن، وبالنظر إلى شعبية "سلجوق بيرقدار" في تركيا فيمكن اعتبار هذا الوضع رسالة إيجابية للغاية إلى تركيا.
وبالنظر إلى هذه التطورات التي حدثت خلال الأيام القليلة يتبين أن الولايات المتحدة الأمريكية لديها رغبة في فتح صفحة جديدة مع تركيا، ولكن زهرة واحدة لا تصنع ربيعًا وكما قال مسؤول رفيع المستوى: "إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تغير سياستها المزعجة لتركيا في قضايا مثل تنظيم "واي بي جي" الإرهابي ومسألة اليونان"، وأضف على ذلك أن بعض أعضاء الناتو قاموا برفع العقوبات السرية خلال عملية عضوية السويد في الناتو لكن العقوبات الأمريكية مستمرة، ولفتح صفحة جديدة لا بد من التخلص من هذه العقبات أولًا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس