د. سمير صالحة - أساس ميديا
هناك قاعدة معروفة وما زالت سارية المفعول حتى اليوم في الأوساط الإعلامية: "الصورة تغني عن الكثير من القراءات والتحليلات والاستنتاجات في نقل وتقديم المعلومة".
ينطبق الأمر هنا على مشهد الصورة التذكارية التي تمّ التقاطها في الدوحة للقيادات الخليجية خلال قمّة المجلس الأعلى في الدورة الـ 44 بحضور الرئيس التركي رجب طيب إردوغان كضيف شرف.
عاد إردوغان منشرح الصدر. طبعاً ليس لأنّه حرم المعارضة التركية من ورقة التصعيد ضدّه في سياسات تركيا الإقليمية، بل لأنّ أجواء وجدول أعمال الطاولة المستديرة كانا مغايرين تماماً هذه المرّة، بالمقارنة مع طاولات رباعية وخماسية وسداسية كان الموضوع التركي وعلاقات الخليج بأنقرة يناقشان خلالها بطريقة مغايرة تماماً لما جرى قبل أيام.
وصلت الأمور اليوم، كما ورد في البيان الختامي للقمّة الخليجية، إلى نقطة "ترحيب المجلس الخليجي الأعلى بمشاركة إردوغان، ضيفاً كريماً، لبحث قضايا الاهتمام المشترك، وتنفيذ خطة العمل الموحّدة وتوسعة نطاقها والانطلاق بالشراكة التي تجمع الجانبين إلى آفاق أرحب".
سيكون هناك في الكواليس أكثر من تقرير وتحليل وتقدير موقف حول القمّة الخليجية ومشاركة إردوغان فيها والملفّات التي تمّ التطرّق إليها. لكنّ الصورة بحدّ ذاتها تعبّر عن الكثير. فمن عليه أن يقلق وهو يتابع مشهد الرئيس التركي واقفاً وسط قيادات الخليج مبتسماً بعد سنوات القطيعة والتصعيد والمواجهة؟ وما هي أبرز العوامل والدوافع التي سهّلت التقاط مثل هذه الصورة؟ وكيف ستسير الأمور بعد الآن بين تركيا ومنظومة الدول الخليجية؟
ضيف شرف.... لدى قطر
للتوضيح كان إردوغان في الدوحة قادماً من الإمارات بعد مشاركته في مؤتمر المناخ كوب 28 العالمي. هو هناك لحضور اجتماع اللجنة الاستراتيجية العليا التركية القطرية، وللمشاركة في القمّة الرابعة والأربعين لمجلس التعاون الخليجي كضيف شرف بدعوة من الشيخ تميم.
التوقيت مهمّ حتماً وسط الأجواء العاصفة في المنطقة ومواصلة إسرائيل لاعتداءاتها على الشعب الفلسطيني في غزة، وضرورة تنسيق المواقف في مواجهة ما يرتكب من جرائم وحرب إبادة هناك.
تسبّب أكثر من ملفّ خلاف وتوتّر بين أنقرة والمنظومة الخليجية منذ عام 2010 وارتدادات ما سمّي بالربيع العربي في توسيع الفجوة بين الطرفين. وتفاقمت الأمور وتشعّبت بعد التباعد التركي المصري وانفجار الأزمة القطرية الخليجية.
يعود حزب العدالة والتنمية في حراكه الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي باتجاه الخليج إلى السياسة الكلاسيكية المعتمدة قبل عقود والتي تقوم على مطلب الوقوف على مسافة واحدة من العواصم الخليجية لحماية العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنيّة التركية في المنطقة. وتدخل تركيا بذلك في سياسة انفتاحية واسعة تجاه دول الخليج تقوم على عملية أعادت هيكلة أنظمتها الاقتصادية والماليّة للخروج من أزماتها الراهنة وتفعيل التنسيق السياسي والأمني ورفعه إلى مستويات أعلى.
سياسة تركيّة جديدة
هناك سياسة تركية إقليمية جديدة تحت عنوان إعادة التموضع في التعامل مع الملفّات التي وتّرت علاقات أنقرة بدول الجوار، وبعدما جاءت ارتدادات خطوات القطيعة مكلفة على الجانبين وأعطت العديد من الدول فرصة استغلال هذا التباعد وتجييره إلى جملة من المكاسب السياسية والاقتصادية.
هناك أيضاً حقيقة وجود قراءة خليجية واقعية ترى أنّ إردوغان وحزبه هما في الحكم لحقبة جديدة بعد فوزهما في الانتخابات البرلمانية والرئاسية قبل 7 أشهر، ويحتمل أن يفوزا في الانتخابات المحلية المنتظرة في شباط المقبل، وهو ما يستدعي الاستعداد باكراً لهذا السيناريو خليجياً.
لكنّ هناك مسألة تفاقم النزاعات الإقليمية التي تزايدت ارتداداتها على دول المنطقة. وهناك السياسة الأميركية المتذبذبة في الشرق الأوسط، والتي تتعارض مع الكثير من حسابات ومصالح تركيا ودول الخليج. والانحياز الغربي الواضح إلى الجانب الإسرائيلي في الملفّ الفلسطيني في مقدَّم أسباب هذا التقارب والانفتاح السريع في العلاقات التركية الخليجية.
أسباب التقارب: إيران... وإسرائيل
كانت إيران وسياستها الإقليمية على رأس أسباب وأهداف التقارب التركي الخليجي. يأتي اليوم اللاعب الإسرائيلي بعد الاعتداءت على قطاع غزة والدعم الغربي لتل أبيب، ليأخذ مكانه بين الأسباب الإضافية الواجب الحديث عنها خلال بحث أسباب التقارب التركي الخليجي بشقّها السياسي والأمنيّ أيضاً.
هدف أنقرة الاستراتيجي في تسريع الانفتاح والتقارب مع الخليج هو رفع حجم التبادل التجاري الذي سيتجاوز 30 مليار دولار إلى 50 ملياراً خلال السنوات الثلاث الآتية. لكنّ هناك جملة من الحقائق لا بدّ من قبولها خلال الحديث عن التقارب التركي الخليجي وما سيوفّره للطرفين من مكاسب:
1- لعب العامل الاقتصادي الإيجابي دوراً أساسياً في توفير المزيد من الفرص الاستثمارية الواعدة بينهما، إذ يرى الخليج في تركيا بوابة صناعية زراعية استثمارية وطريقاً نحو أوروبا وفرصةً لأسواق جديدة، وترى تركيا في الخليج مركز ثقل تجاري واستثماري بكلّ ما يحمل من أوراق قوة اقتصادية وماليّة ونفطية. أرقام التبادل التجاري التي تضاعفت 4 مرّات في العقد الأخير بين مؤشّرات أهمية وفوائد هذين التنسيق والتعاون.
2- تعكس عقود بيع المسيّرات التركية للسعودية والكويت بعد قطر في صفقات ضخمة، واتفاقيات التعاون العسكري والاهتمام الإماراتي المتزايد بالاستثمار المشترك في مجالات التصنيع الدفاعي، مدى حجم الانتقال بالعلاقات بين الجانبين خلال فترة زمنية قصيرة. أنقرة التي كانت تردّد في السابق أنّ أمن الخليج هو من أمنها اختارت لنفسها مساراً جديداً نحو الخليج كما يبدو، يقوم على تفعيل الشراكات الاقتصادية ومشاريع الاستثمار وتقديم نفسها كشريك يمكن الاعتماد عليه في مجالات التصنيع الحربي المشترك. أرقام مبيعات الأسلحة التركية للخليج ومشاريع التعاون في هذا القطاع تظهر أيضاً مدى جدّية الطرفين في لعب دور إقليمي مؤثّر ووازن على طريق الاستقرار.
مصر كانت حاضرة...
3- لم تكن مصر حاضرة برئيسها في الدوحة، لكنّ طيفها كان موجوداً في قاعة الاجتماعات. فالانطلاقة الجديدة في العلاقات التركية الخليجية سبقتها عودة العلاقات الخليجية الخليجية إلى سابق عهدها أوّلاً، وتوفّرت قوة دفع ثلاثي تركي مصري خليجي بهدف إنهاء الخلافات التركية المصرية وعلى رأسها ملفّ الإخوان الواجب حسمه ثانياً، ثمّ جرى تسريع الحوار بين أنقرة والقاهرة لحلحلة مسائل إقليمية تعنيهما مباشرة في إفريقيا وشرق المتوسط ثالثاً، وهناك الربيع العربي ومواقف أنقرة حيال ما جرى في مصر الذي وضع تركيا ودول الخليج في اختبار، سرعان ما تحوّل إلى مواجهة سياسية واقتصادية صعبة، وها هو اليوم قد تراجع وانتهى في ضوء التصريحات والمواقف الصادرة عن قيادات المثلّث التركي المصري الخليجي.
4- تجاوزت تركيا ودول الخليج مرحلة الأسئلة الروتينية حول أسباب ودوافع عودة العلاقات إلى سابق عهدها وفرص نجاحها والأهداف المنتظرة من خلال هذه الانطلاقة الجديدة، كما قيل على لسان أكثر من مسؤول عربي وتركي. وأدركت أنقرة أنّه لا بدّ من إقامة علاقات جديدة مع دول المنطقة، لا سيما الدول الخليجية، على أساس نهج يحقّق الفائدة للجميع وتطبيق فعليّ للشعار الذي ترفعه وتردّده باستمرار: "زيادة عدد الأصدقاء وتقليص عدد الخصوم".
غزّة أيضاً:
سيكون حتماً للجغرافيا السياسية الإقليمية، في ضوء التحوّلات التي تعيشها المنطقة وما يجري في قطاع غزة، تأثيره على تفعيل وتسريع المسار الإيجابي في العلاقات التركية الخليجية.
نجحت القيادات في تركيا والخليج في رفع مستوى العلاقات من التطبيع إلى الشراكة الاستراتيجية. وإنّ حجم التنسيق السياسي في الملفّات الإقليمية، كما كان المشهد في قمّة الرياض وقمّة الدوحة الخليجية، وعشرات العقود المشتركة بقيمة مليارات الدولارات خير مؤشّر إلى وضع العلاقات في المسار الصحيح، بما يخدم مصالح الأطراف والمحيط الإقليمي. بالمقابل هناك حقيقة أخرى تقول إنّ دول الخليج قد توافق على وضع خلافاتها مع تركيا وراء ظهرها، لكنّ تحقيق إنجازات في المسائل الأمنية يحتاج قبل ذلك إلى توافق خليجي خليجي يأخذ بعين الاعتبار ديناميكيات الوضع الإقليمي وسيناريوهاته في الكثير من الجوانب.
بدأت العلاقات التركية الخليجية تستردّ عافيتها وتعود إلى ما كانت عليه قبل عقد. سياسات الأعوام الأخيرة سبّبت للجانبين وجع رأس كانا بغنى عنه بسبب الأضرار التي ألحقتها بمصالحهما.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس