ترك برس
قال السياسي والأكاديمي التركي ياسين أقطاي، إن افتقار المسلمين إلى مركز سياسي مبادر، يُعدّ من أهم العوامل التي حددت واقعهم اليوم.
جاء ذلك في مقال له بعنوان "القرن الأطول في العالم الإسلامي"، نشره موقع "الجزيرة نت"، تزامناً مع ذكرى مرور مائة عام على إلغاء الخلافة الإسلامية.
أقطاي أضاف أن "غياب الخلافة، وبالتالي افتقار المسلمين إلى مركز سياسي مبادر، يُعدّ من أهم العوامل التي حددت واقع المسلمين اليوم. لقد تمّ إلغاء الخلافة داخل حدود تركيا، لكن نتائج هذا الإلغاء امتدت لتشمل جميع المسلمين".
وأشار إلى أنه "كان لإلغاء الخلافة تأثيرٌ صادم على وعي وإدراك الجيل الأول من الإسلاميين في الجمهورية. فبعد هذا الحدث، يمكن وصف واقع العالم الإسلامي بأكمله بأنه مرحلة ما بعد الخلافة."
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
فلأول مرة في التاريخ الإسلامي، أصبح المسلمون يفتقرون إلى كيان سياسي يمثلهم، ويجسد مُثلهم العليا، وينفذ خطط الإسلام، ويطبق أحكامه، ويمثل وجودًا سياسيًا باسم الإسلام. وهذا الأمر له بعدان مترابطان يجب التطرق إليهما:
البعد الأول: غياب سابقة فقهية، فلم يُعرف في الفقه الإسلامي سابقًا وضعٌ مشابه لما بعد إلغاء الخلافة. فقد عاش المسلمون سابقًا في حالات كانوا فيها أقلية مع شعوبٍ أخرى، لكنهم كانوا يشعرون بالانتماء إلى كيان سياسي آخر يمثلهم ويحدد مكانتهم وموقعهم.
البعد الثاني: تقييم الخلافة قبل إلغائها، يشير هذا البعد إلى حقيقة مهمة، وهي أن الخلافة في الفترة التي سبقت إلغاءها كانت بعيدةً كل البعد عن تلبية توقعات واحتياجات المسلمين في العالم. فقد أصبحت عرضةً لتلاعبات النظام العالمي ومتاحةً أمامه، وفقدت قدرتها على الدفاع عن مصالح المسلمين. كما كان هناك شعور بالاستياء من عدم تطبيق مبدأ الشورى في الخلافة، واستخدامها أحيانًا كأداة لخدمة مصالح الحكّام السياسيين.
انتقد العديد من المفكرين الإسلاميين في ذلك الوقت، الذين عارضوا لاحقًا إلغاء الخلافة، طريقة استخدام منصب الخلافة.
من سعيد النورسي إلى محمد حمدي يازر، ومن محمد عاكف إلى محمد عاطف خوجة الإسكليپي، انتقد جميع المفكرين وعلماء الدين الإسلامي تقريبًا، الأشخاصَ الذين احتلوا منصب الخليفة أو طريقةَ استخدام وإدارة منصب الخليفة، ويُظهر محتوى أطروحة الشيخ علي عبد الرازق حول الخلافة، والتي أصبحت جزءًا من الأدب الإسلامي في مصر، هذه الانتقادات بوضوح.
ولم يكن من المستبعد أن يشارك المثقفون الإسلاميون في الدولة العثمانية خيار إلغاء الخلافة حتى لو لم يكن مطروحًا، ومن المعروف أن عمر رضا دوغرول صهر محمد عاكف أرسوي قد قام بترجمة هذه الأطروحة إلى اللغة التركية عام 1927، وفي هذه الأطروحة، أكد عبد الرازق أن الخلافة مؤسسة سياسية وليست دينية. وأوضح أن انتقالها إلى سلاطين الدولة العثمانية لم يمنحهم سلطة دينية. كما أكد أنه يجوز للمسلمين إظهار وجودهم السياسي من خلال مؤسسات أخرى في ظل ظروف مختلفة.
وعندما نشر هذا العمل لم تكن الخلافة في تركيا قد ألغيت بشكل كامل، ولكن جميع وظائفها وخصائصها كانت قد تم دمجها في الشخصية المعنوية للبرلمان التركي، وهذا يدل على أنه إذا كان هناك ثقة كافية في كوادر الجمهورية، فإن مثل هذا الحل كان موجودًا بالفعل في الأفق السياسي للمفكرين الإسلاميين في ذلك الوقت.
وحتى الخطاب الطويل الذي ألقاه سيد بك في البرلمان التركي خلال مناقشات إلغاء الخلافة استند إلى نفس النقد الإسلامي للخلافة، بالإضافة إلى هذا فإن أهم مصدر استقى منه مصطفى كمال حججه في خطاباته التي ألقاها في مناسبات مختلفة لتبرير إلغاء الخلافة، واستشهد فيها بحقائق تاريخية عن الخلافة في الإسلام، كان يستقي من ذات التراكم النقدي الموجه ضد الخلافة.
ورغم ذلك، لم يكن أيٌّ من الإسلاميين الذين انتقدوا الخلافة يطالب بإلغائها. وبات واضحًا من مواقفهم اللاحقة أنّهم لم يكونوا مستعدين لمثل هذه الخطوة. فأولًا وقبل كل شيء أدى إلغاء الخلافة إلى خلق فراغ قانوني وفقهي كبير جعل تطبيق الفقه الإسلامي أمرًا مستحيلًا.
فلم يتناول الفقه الإسلامي بشكل كافٍ كيفية تطبيق أحكام الإسلام أو حتى كيفية ممارسة الوجود الإسلامي في ظلّ غياب مؤسسة تقود العالم الإسلامي. لقد افترضت تعاليم القرآن وجود المسلمين في منظمة سياسية وخاطبتهم على هذا الأساس.
وفي غياب هذه المنظمة أو الكيان، تصبح الغالبية العظمى من الأحكام الشرعية ملغاة. وهذا يشمل مجموعة واسعة من التطبيقات، بدءًا من إدارة الشؤون المدنية اليومية إلى الأنظمة الاجتماعية على نطاق أوسع. وفي غياب هذا الكيان أيضًا، يكون المخاطب في آيات قرآنية كثيرة غير موجود.
ويمكن القول إن انتماء الفرد إلى دولة تعبر عن قيمه الدينية هو شرط أساسي ليعيش حياة مسلمة. وقد كانت الدولة التي تطبق أحكام الله تمنح المسلمين شعورًا قويًا بالانتماء والترابط، حيث يُنظر إليها كجسد واحد يطاع لتحقيق أهداف مشتركة. وقد شكلت هذه الدولة – التي تربط عادة بالمذهب السني- الخلفية السياسية والفكرية للإسلاميين في تركيا.
وبالتالي، يمكن وصف الحالة الجديدة التي نشأت بعد إلغاء الخلافة، بتحول المسلمين إلى أعضاء بدون جسم.. بعد إلغاء الجسم السياسي القديم الذي أحياه الإسلام، واستبداله بجسم اجتماعي وسياسي جديد، يحكم نفس الأعضاء (جمهور الرعية). كان الجسم الجديد يدعي الحق في الموارد البشرية وفي السطوة على المؤسسات التي منحت الحياة للجسم القديم. وكان أحد أهم أسباب الإصرار على تغيير المظهر الخارجي هو محاولة إلباس الأفراد الذين اعتبروا أنفسهم جزءًا من الروح السياسية القديمة، ملابس جديدة تلائم الروح السياسية الجديدة لجعلهم جزءًا منها.
وبالطبع، كان لهذا الشكل من الاستيلاء الجسدي بعدٌ مرتبط بالحداثة.
كان يُنظر إلى خضوع الناس لنمط من الثياب لا يعبر عن رمزيّة ما يؤمنون به، ويمثل جسدًا سياسيًا لا يعتقدون فيه، على أنه أمر كافٍ في البداية. وظهر الأمر كما لو أن الحداثة لا تمثل تحديًا للإيمان والعقيدة، ما دام أن الناس التزموا بهذه الأعمال (الظاهرية).
ولكن الصورة لم تبدُ كذلك للناس الذين واجهوا حقيقة غياب الخلافة، فقد بدا التكامل بين ما تؤمن به وما تعمله أمرًا مهمًا، و(ثورة القبعات) التي واجهوها مثلت تحديدًا حقيقيًا للإيمان كما للعمل، بما مثلته من إيحاءات لإنعاش أجساد سياسية بديلة للإسلام، ولذلك تحولت ردود الفعل الأولى على الخلافة الغائبة إلى تراجيديا حقيقية.
لذلك، بدأت عملية إلغاء الخلافة بشكل عام بصدمة وعي خطيرة للمسلمين في العديد من أنحاء العالم، خاصة للمسلمين الأتراك. وبعد التأثيرات الأولى لهذه الصدمة، لم يتقبل المفكرون الإسلاميون -الذين حاولوا فهم ما كان يحدث- هذا الوضع كحالة قابلة للاستمرار للمسلمين.
ففي ظل الظروف الجديدة حرمت الحياة الإسلامية من جميع أنواع العلاقات. وأصبح فقه "الحالات المؤقتة" أحد أبرز أدبيات النصوص الإسلامية الأولى في فترة ما بعد الخلافة. ومع استمرار هذا الوضع المؤقت (أو حالة غياب الخلافة) تبلورت ردود أفعال ونتائج وتطلعات مختلفة لدى الإسلاميين. وهذا جانب يستحق التركيز والتفكير به بعناية لفهم أوضاع المسلمين اليوم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!