ترك برس

في سياق الأحداث السياسية المتلاحقة، تُعتبر وفاة فتح الله غولن، نقطة تحول حاسمة في تاريخ التنظيم الذي أسسه والمصنف في قائمة الإرهاب لدى تركيا، وأيضًا في العلاقات التركية - الأمريكية.

ويرى الكاتب والخبير التركي قدير أوستون أن حادثة وفاة الإرهابي فتح الله غولن ستُسجَّل كأحد أبرز محطات التحوّل في التاريخ السياسي التركي؛ "فقد استغل الإرهابي غولن على مدى سنوات طويلة الثغرات في النظام التعليمي التركي وحوّلها إلى أداة استراتيجية لتعزيز بنية التنظيم الذي أنشأه بهدف الاستيلاء على الدولة".

ومن خلال مراكزه التعليمية الخاصة، التي وعدت الطلاب بالنجاح في امتحانات الجامعات، تمكن تنظيم غولن من استقطاب الطلاب الذين استثمرت الدولة في تعليمهم خلال المراحل الابتدائية والثانوية. وفقا لمقال كتبه أوستون لصحيفة يني شفق التركية.

وأضاف الكاتب: "ركز التنظيم جهوده على التسلل إلى المؤسسات الحيوية في الدولة، وبدلاً من مخاطبة الشعب عبر السياسة الشرعية، عمل تنظيم غولن الإرهابي على بناء قوته خلف الكواليس عبر البيروقراطية، مما خلق واحدة من أكبر التحديات في التاريخ السياسي التركي".

وتابع المقال:

لقد كشفت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز بشكل لا لبس فيه خيانة تنظيم غولن الإرهابي للديمقراطية التركية. أما وفاة زعيمه في بنسلفانيا فكانت رمزًا لانفصاله عن تركيا، وأظهرت إلى أي مدى أصبح التنظيم غريباً عن وطنه.

تحول تنظيم غولن الإرهابي إلى منظمة تسعى للانقلاب والإرهاب في البلاد هو قصة تستدعي دراسة أعمق في التاريخ السياسي التركي، لأنها تقدم دروساً مهمة أيضًا للسياسة الخارجية التركية. يبرز هذا بشكل خاص في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، حيث تمكن التنظيم الإرهابي من لعب دورٍ مؤثر في بعض الأوقات. موت زعيم تنظيم غولن الإرهابي يحمل أهمية كبيرة لمستقبل العلاقات التركية-الأمريكية.

كان الكونغرس الأمريكي دائمًا يشكل عقبة في العلاقات الثنائية، ولذلك كانت أنقرة تحافظ على تأثيرها في واشنطن عبر العلاقات القوية التي تربطها بحلف الناتو وقطاع الدفاع. خلال فترة 28 فبراير، شهدت العلاقات تقاربًا مع إسرائيل، ما جعل اللوبي الإسرائيلي يدعم مصالح تركيا. بعد انتقال الإرهابي غولن إلى الولايات المتحدة عام 1999، تمكن من تسويق أتباعه كلوبيين طبيعيين لتركيا، مما منحه تأثيرًا سياسيًا في كل من واشنطن وأنقرة.

تحرك أنصار تنظيم غولن الإرهابي في واشنطن كما لو كانوا يمثلون لوبي تركيا الفخري، حيث نظموا أنفسهم في المناطق الريفية الأمريكية وسعوا للتواصل مع أعضاء الكونغرس في مراحلهم السياسية المبكرة. من خلال المدارس التعاقدية والحملات السياسية المحلية، قاموا بتعميق شبكات نفوذهم بين السياسيين، مما منحهم تأثيرًا في السياسة الأمريكية.

وعلى الرغم من أن هذا النفوذ بدا لبعض الوقت وكأنه يخدم مصالح تركيا، إلا أنهم في الواقع استغلوه لتعزيز قوة وتأثير تنظيمهم. يتضح ذلك من خلال تنظيمهم رحلات للسياسيين والصحفيين الأمريكيين وأعضاء مراكز الفكر إلى تركيا، مع التركيز فقط على مؤسساتهم، متجاهلين زيارة مؤسسات أخرى. كما سعوا ليصبحوا الوجهة الوحيدة للساسة والعلماء ورجال الأعمال القادمين من تركيا إلى الولايات المتحدة، محاولين بناء شبكة نفوذ ثنائية الاتجاه تتعزز مع مرور الوقت.

مصلحة البلاد أم مصلحة التنظيم؟

شهدنا في العقد الأول من الألفية الثانية تحول تنظيم غولن الإرهابي من كونه حركة دولية مركزها تركيا إلى تنظيم دولي له فرع في تركيا. أبرز مثال على ذلك هو تصريح الإرهابي غولن بعد أزمة "مافي مرمرة"، حيث قال إنه كان ينبغي على منظمي المساعدات إلى غزة "الامتثال للسلطات (الإسرائيلية)". بهذا التصريح، دافع الإرهابي غولن عن العملية الإسرائيلية، معلناً بذلك أن تنظيمه لم يعد حركة تركز على مصالح تركيا، بل أصبح تنظيماً تتعارض فيه مصالحه الدولية مع مصالح البلاد، ويتصرف بناءً على ذلك. وفي العقد الثاني من الألفية، مع كشف الأنشطة الاستخباراتية داخل تركيا، أصبح واضحاً أن هذا الكيان الموازي بات غير مفهوم من حيث من يخدم وعلى أي مستوى دولي يعمل.

 

مع بداية الربيع العربي، أبدى عناصر تنظيم غولن الإرهابي استياءهم من الدور المتنامي الذي بدأت تركيا تلعبه في المنطقة، ولم يترددوا في استغلال الديناميكية الإيجابية التي نشأت عقب إعلان إدارة أوباما تركيا "شريكًا نموذجيًا" لصالحهم. ومع تصاعد التوترات بين واشنطن وأنقرة على خلفية أحداث "غيزي" والسياسة التركية تجاه سوريا، تحرك التنظيم لمعارضة الحكومة واستهداف الرئيس أردوغان بشكل مباشر. لم يكتفِ التنظيم بإثارة أزمات أدت إلى أزمة أمنية داخلية عميقة استمرت لسنوات، بل انتقل سريعًا من لعب دور اللوبي الفخري للعلاقات التركية-الأمريكية إلى العمل بشكل فعال ضد مصالح تركيا.

وتمكن عناصر التنظيم الإرهابي إلى حد ما من تقديم الأزمة الأمنية التي خلقوها في الداخل التركي لأعضاء الكونغرس الأمريكي على أنها "استبداد أردوغان"، ونجحوا في دفع بعض السياسيين الأمريكيين للإدلاء بتصريحات معادية لتركيا، مما ساهم في تفاقم الأزمات في العلاقات بين البلدين.

بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز، وعدم استجابة الولايات المتحدة بشكل ملموس لطلب تركيا بتسليم الإرهابي فتح الله غولن، ازدادت حدة انعدام الثقة بين الدولتين الحليفتين في الناتو. ورغم أن تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أظهرت تفهمًا لموقف تركيا، إلا أنه واجه صعوبة في السيطرة على بيروقراطية بلاده، مما أعاق وزارة العدل عن التعامل بجدية كافية مع قضية التسليم.

نجاح تركيا في مكافحة تنظيم غولن الإرهابي داخل البلاد، إلى جانب عملياتها العسكرية الناجحة في سوريا، أسهم بشكل كبير في تقليل تأثير التنظيم على العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة. وفي تلك الأثناء، شن أعضاء الكونغرس المعارضون لترامب حملة إعلامية مكثفة، معتقدين أن الرئيس أردوغان يسعى لإقناع ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا. إلا أن معارضة القيادة المركزية الأمريكية "سنتكوم" حالت دون تنفيذ الانسحاب. خلال تلك الفترة، لم تكن جهود تنظيم غولن الإرهابي في الحملة المناهضة لتركيا خافية على أحد. ومع ذلك، فإن تراجع نفوذ التنظيم في تركيا انعكس بطبيعة الحال على تأثيره في الولايات المتحدة، وبرزت بين الحين والآخر خلافات داخلية في التنظيم. ورغم استمرار تأثيرهم على بعض السياسيين الأمريكيين، تضاءلت قدرتهم على استغلال هذا التأثير بشكل حاسم ضد تركيا.

ومن الخطأ الاعتقاد بأن قضية تنظيم غولن الإرهابي، التي عمقت أزمة الثقة المتبادلة في العلاقات التركية-الأمريكية لفترة طويلة، ستنتهي بمجرد وفاة زعيم التنظيم. من المرجح أن يستمر التنظيم كحركة معارضة في الولايات المتحدة، وإن كان ذلك على نطاق محدود، وذلك بناءً على الاستراتيجية التي سيتبعها الزعيم الجديد وأعضاؤه. öليس مستبعدًا أن يستمر التنظيم في اتباع نهج الإرهابي غولن، مستغلًا قوته لتحقيق مصالحه الدولية بعيدًا عن كونه حركة تتمحور حول تركيا.

هذا التنظيم، الذي أصبح مكروهًا من جميع الأطياف السياسية في تركيا، لن يُمحى بسهولة من الذاكرة، نظرًا لما تسبب به من خسائر في الموارد البشرية وأزمات أمنية. ورغم أن التنظيم فقد جذوره في تركيا، من غير المتوقع أن يكون له تأثير استراتيجي كبير على العلاقات التركية-الأمريكية في المستقبل القريب. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن لديهم قاعدة بشرية قادرة على نشر تصورات سلبية عن تركيا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!