د. محمد الصغير - الجزيرة مباشر

يوم السابع من أكتوبر 2023م أصبح علامة فارقة في التاريخ الحديث.

وأصبح العالم قبل 7 أكتوبر غير العالم بعده، لاسيما عند جبهتي القتال، حيث رأت المقاومة الفلسطينية أنه بداية مشروع التحرير، الذي يتطلب مزيدًا من البذل والتضحية ومضاعفة الجهد كما يحدث في نهاية أي سباق، بينما اعتبرها «نتن ياهو» وحكومته الفرصة المواتية للقضاء على حماس واستئصال فصائل المقاومة، والانتقال إلى ما أسماه الأمل الروحي والتاريخي لإقامة إسرائيل الكبرى، والتي قرروا أن تتمدد على حساب ثماني دول في المنطقة.

والمتابع لجرائم جيش الاحتلال يدرك أنه خلال حرب الإبادة على غزة، قام بالعدوان على سبع دول إسلامية، بما يؤكد أن قضيتهم ليست غزة وحدها ولا حتى فلسطين كلها، وإنما هي سياسة المراحل المتتابعة نحو الحلم الأكبر.

لا شك أن طوفان الأقصى غيّر كثيرًا من القناعات والمفاهيم، واستطاع أن يؤكد حق الشعب الفلسطيني في أرضه. كما أزاح التراب الذي أُهيل عمدًا على السردية الفلسطينية، وكشف حقيقة الاحتلال وضحالة روايته وتهافت حجته.

وأصبح الشارع الغربي – في غالبه- معبرًا عن فلسطين ومنددًا بإبادة غزة، وبالأخص شعوب الدول التي تقف حكومتها مع جيش الاحتلال، أو من يدعمون حكومة «نتن ياهو» المارقة.

مع تطور الأحداث بدأت تتوالى الاعترافات بدولة فلسطين الرسمية، المتمثلة في سلطة محمود عباس في رام الله، وعاد التنادي بقوة إلى حل الدولتين، حتى عقدوا لها أمس مؤتمرًا في نيويورك على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقبل التفصيل في فكرة حل الدولتين أشير إلى أمرين:

الأول: أن وزراء حكومة الاحتلال والمسؤولين بشتى مستوياتهم ركلوا حل الدولتين ورفضوه، بل وتحدث كبيرهم الذي علّمهم القتل عن حلم إسرائيل الكبرى، وكلهم في ذلك على قلب فاجر واحد.

الثاني: سلطة رام الله منزوعة الدسم والصلاحية، لم يُسمح لأحد فيها بالسفر إلى نيويورك، ومشاركة عباس كانت عن بُعد، ولم يُسمح له بالحضور مع أنه المعني ظاهريًا بهذا الحل.
وكل هذه الاعترافات تصب في مصلحته!

في البداية اعتبرت اعترافات بعض الدول بدولة فلسطين مبعثه التعاطف مع قضيتها العادلة، ونوعًا من الرفض السياسي لمجازر الاحتلال التي تقع في غزة، لاسيما اعترافات الدول ذات المواقف الثابتة من جرائم الصهاينة السابقة، كدول أمريكا اللاتينية ومثيلاتها.

لكن مع دخول فرنسا على الخط، وإعلان ماكرون عن قرب اعتراف بلاده بفلسطين ساورني الشك.

ثم تحولت من الشك إلى اليقين بعد اعتراف بريطانيا، لأن القاصي والداني يعلمان أن جيش الاحتلال الصهيوني هو كتيبة متقدمة للغرب الصليبي، وأن بنيامين نتن ياهو هو القفاز القذر الذي يغطي يد الغدر الغربية.

فرنسا وبريطانيا تعترفان بفلسطين، وهما تشاركان في حرب الإبادة الجماعية.

وقد ناقش برلمان فرنسا استجوابًا من أحد النواب عن سبب وجود الجنود الفرنسيين في غزة!

ومعلوم أن طائرات التجسس والاستطلاع البريطانية هي التي تولت هذه المهمة من بداية الحرب على القطاع المحاصر!

فرنسا وبريطانيا هما «سايكس وبيكو»، أصحاب وثيقة 16 أيار/مايو 1916 باقتسام مناطق النفوذ بينهما في الولايات العربية التابعة للحكم العثماني.

وعُرفت باسم «اتفاقية سايكس – بيكو»، وجاءت نتيجة مباحثات دارت بين ممثل بريطانيا «مارك سايكس» وممثل فرنسا «جورج بيكو».

وبعدها بعام في 1917م أصدرت بريطانيا وعد بلفور لتكون فلسطين وطنًا لليهود، ورعت العهد ونفذت الوعد، وأعطى من لا يملك من لا يستحق.

وبعد أربع سنوات من الاتفاقية، في يوليو عام 1920م، وقف هنري غورو، قائد قوات الاحتلال الفرنسي في سوريا ولبنان، أمام قبر الناصر صلاح الدين الأيوبي وقال:

«يا صلاح الدين، لقد قلت لنا في أيام حروبك: إنكم خرجتم ولن تعودوا.. وها نحن عدنا يا صلاح الدين!»

إن التعجيل بحل الدولتين هو طوق نجاة جديد، وقبلة حياة يقدمها الرعاة لجيشهم المأزوم في فلسطين.

وفي الوقت نفسه أحبولة تجددت ودوامة فُعلت، ليدخل في دولابها دول عربية وإسلامية بعد استنفاد ملهاة المفاوضات وانتهاء ماراثون الاتفاقيات، التي أفضت إلى سراب خادع.

وسلطة انحصر دورها في التنسيق الأمني مع المحتل، وهو من يملك إذن سفر أعضائها أو منعهم.

في مؤتمر حل الدولتين ظهر المقصود وانكشف المستور. فهو يؤسس لدولة فلسطينية منزوعة السلاح، منقوصة السيادة، والمقاومة فيها مجرّمة، في مقابل اعتراف العالم بدولة الاحتلال بترسانتها النووية وقوتها الغاشمة، ومكافأتها على جرائمها الماضية.

حل الدولتين هو توسيع نموذج السلطة الفلسطينية للسيطرة على غزة وكل بؤر المقاومة، وهو ما صرح به محمود عباس في كلمته للمؤتمر.

وكما ركلوا اتفاقيات السلام السابقة، ومخرجات أوسلو وأخواتها، سيفعلون الأمر نفسه مع أي اتفاق جديد لأنها جينات تجري في الدم:

«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)» (سورة الأنفال).

تصريحات حلفاء المحتل في مؤتمر الحل كانت واضحة ومحددة، حيث قال الرئيس الفرنسي: إننا نريد فلسطين بدون سلاح.

وخلاصة الأمر وزبدته جاءت على لسان ‏رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، في تصريح لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، بأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية لن يشكل خطرًا على إسرائيل، بل هو في مصلحتها العليا، لأنها في كل الأحوال ستكون دولة شكلية وافتراضية وثمنها جلب العرب للتطبيع.

إذن حل الدولتين هو دولة افتراضية في مقابل الاعتراف الكامل «بإسرائيل» وتقديم غطاء ناعم يسمح للجميع بالتطبيع في ظل هذا الانتصار الموهوم.

وهذا ما ظهر جليًا في كلمة رئيس إندونيسيا برابواو سوبيانتو حيث قال في المؤتمر:

«إنه بمجرد اعتراف إسرائيل باستقلال فلسطين وقيام دولة فلسطين، ستعترف إندونيسيا فورًا بدولة إسرائيل، وسندعم جميع الضمانات لأمن إسرائيل».

وكعادة الرئيس الأمريكي ترامب في الصراحة المفرطة وفضح أصدقائه، علّق على الأمر برمته بقوله:

«الاعتراف بالدولة الفلسطينية هي أقوال أكثر من أفعال، من قبل حلفائنا وشركائنا».

وشهادتي أضعها بين أيديكم وللتاريخ، فإن الهرولة إلى حل الدولتين الآن، هو سعي للقضاء على المقاومة التي عجز نتن ياهو وعصابته عن هزيمتها، وهو حفظ لماء وجه من أراد ركوب قطار التطبيع الذي اصطدم بطوفان الأقصى، وانحياز جديد للمحتل، انخدع به بعض أصحاب النوايا الحسنة أو النفس القصير.

أما شعب فلسطين فقد ضبط بوصلته تجاه تحرير أرضه واستعادة مجده، ولن يتنازل عن كل شبر روته دماء الشهداء، أو يقبل الانتقاص من مسرى خاتم الأنبياء، ويرى سبيله إلى ذلك بالمقاومة التي فرضها الشرع وكفلها القانون. فالأيام دول، والدول أيام.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس