جلال سلمي - خاص ترك برس
جهاز الاستخبارات هو أهم الأجهزة الأمنية العاملة من أجل تأمين أمن واستقرار دولة ما، ولأهمية جهاز الاستخبارات لم يحرم القانون الدولي عمله ولم يتطرق إليه لحساسية أمره الشديدة لجميع الدول عبر العالم، تلك الدول التي تعتقد أن جهاز الاستخبارات العمود الفقري لها ولا تسمح لأي كان بالاقتراب منه.
لأن الدول بواسطة الاستخبارات تستطيع تعيين سياساتها المستقبلية الاستراتيجية بناءًا على تنبؤات قريبة جدًا للصحة والسلامة وبواسطة الاستخبارات تستطيع الدول حماية الخروقات الأمنية لأمنها واستقرارها وبواسطة الاستخبارات تُحدد الدول علاقتها مع الدول الأخرى.
ـ التشكيلات الخاصة:
بما أن تركيا دولة قومية ذات مصالح وحدود وعلاقات متنوعة مع الدول الأخرى فإن حاجاتها لجهاز الاستخبارات أمر طبيعي بمثابة احتياج الدول الأخرى له. وتعود جذور تأسيس جهاز الاستخبارات التركي إلى ما قبل تأسيس الجمهورية التركية بعدة سنوات إذ قامت بتأسيسها حكومة حزب الاتحاد والترقي التركي القومي، التي حكمت الدولة العثمانية في إطار كادر حكومي متصل مباشرة بالسلطان العثماني، عام 1909 بأمر من قادة الحكومة البارزين جمال وأنور وطلعت باشا.
وتأسس جهاز الاستخبارات في ذلك الحين تحت مُسمى "تشكيلات مخصوصة" أي الفرقة الخاصة، ولعبت التشكيلات المخصوصة دورًا كبيرًا في ممارسة حرب العصابات والتجسس والدعاية السياسية السوداء ضد الدول والجهات التي كانت تُرى بأنها تشكل خطر على الدول العثمانية وحكومة الاتحاد والترقي.
وكانت التشكيلات المخصوصة تستهدف في عملها شبكات الخيانة وحركات التمرد القومي ونشاطات الدول الأجنبية الأخرى المضادة لمصالح الدولة العثمانية، وكانت تعمل التشكيلات المخصوصة في جميع الجغرافيا التابعة للدولة العثمانية والممتدة ما بين بلاد الأناضول إلى بلاد القوقاز ومن ليبيا إلى السودان ومن الحبشة إلى الشام وكانت تُعتبر التشكيلات المخصوصة من أقوى الأجهزة الاستخباراتية في ذلك الوقت لكيانها الضخم وجغرافياتها الواسعة التي كانت تعمل على تغطيتها.
استمرت التشكيلات المخصوصة في نشاطها الاستخباراتي إلى عام 1918 إذ انهزمت الدولة العثمانية وفر قادة حكومة الاتحاد والترقي من إسطنبول إلى بلدان مختلفة وبالتالي تفككت التشكيلات المخصوصة التي كانت تتبع لهؤولاء القادة بشكل مباشر.
ـ قوات اليد السوداء "كاراكول":
وبتاريخ 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918 تم تأسيس جهاز استخبارات آخر يعمل لصالح المقاومة العثمانية ضد الاحتلال الإنجليزي الذي احتل إسطنبول في ذلك العهد وسُمى ذلك الجهاز باسم "كاراكول" أي "اليد السوداء"، وكان جهاز كاراكول جهاز استخبارات قوي وكان ينفذ عمليات الاغتيال للخائنين والمتعاونين مع الاحتلال إلى جانب عملياته الاستخباراتية.
كانت تهدف هذه الخلية إلى تخليص الدول العثمانية من استيلاء الدول المحتلة وجلب السلاح للمقاومين والمجاهدين الأتراك ضد دول الاحتلال المتعددة والمتنوعة، وأسست هذه الخلية مركزًا لها في مدينة إزميت المتوسطة لإسطنبول وبلاد الأناضول لتسهيل عمليات إمداد السلاح للمقاومين في إسطنبول وبلاد الأناضول.
وكانت هذه الخلية ذات عقيدة دينية قوية وكانت سرية لغاية وكان المنتمون إليها يحلفون على القرآن قبل الإنضمام إليها والعمل في صفوفها، استمر جهاز كاراكول في عمله الاستخباراتي إلى جانب مصطفى كمال باشا قائد حرب التحرير التركية إلى عام 1921 إذ بعد ذلك نجحت قوات الاحتلال الإنجليزي التغلغل داخل كيان الجهاز وشكلت بداخله خلية خاصة لقتل مصطفى كمال باشا.
ولكن نجحت خلايا كاراكول في كشف هذه الخلية والقضاء عليها، وبعد علم مصطفى كمال بتلك الحادثة رأى بأنه من اللازم إغلاق جهاز كاراكول الاستخباراتي بشكل كامل سعيًا في تشكيل جهاز استخباراتي آخر أكثر تنظيمًا.
ـ قوات الدفاع القومية المسلحة "ميم":
وبتاريخ 3 أيار/ مايو 1921 أسس مصطفى كمال أتاتورك تشكيلات مسلح مدافعة ميلية أي قوات الدفاع القومية المسلحة بشكل رسمي ومن خلال قرار برلماني صدر من قبل البرلمان الذي تم تأسيسه خلال حرب التحرير للإنفصال عن الدولة العثمانية في القرارات، وكان يهدف مصطفى كمال أتاتورك من خلال تأسيس هذا الجهاز إلى شمل جميع الأنشطة الأمنية والعسكرية به دون الحاجة إلى جهاز استخباراتي خاص.
ـ جهاز خدمة العمالة "ماه":
ولكن بعد فترة من الزمن تبين لمصطفى كمال أتاتورك والقادة الموجودين بجانبه أن هناك ضعفًا كبيرًا في المجال الاستخباراتي التركي خاصة بعد النجاح في تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 إذ بعد هذا العام أصبحت تركيا مسرحًا كبيرًا للأنشطة الاستخباراتية السوفييتية والأمريكية والألمانية والإيطالية ودعايتهم السياسية السوداء المضادة للجمهورية التركية ومصالحها.
لوحظ هذا الاختراق الصارخ من قبل قادة الجمهورية التركية فعمل فوزي تشاكمك رئيس الأركان العامة على تأسيس "خدمة العمالة الميلية" (ماه) أي "جهاز الاستخبارات القومي" عام 1926 وقام عام 1927 بربطه بوزارة الداخلية بشكل مباشر، حرص القادة الأتراك على جعل ماه من أقوى الأجهزة الاستخباراتية في المنطقة فعملوا على دعوة العديد من المحترفين الاستخباراتيين الغربيين لتدريب عناصر ماه باحترافية وبراعة ليتمكنوا من صد جميع الخروقات الأمنية التي تتعرض لها تركيا، وعُين الضابط شكري أوغال أول رئيس لماه.
على الرغم من قلة الإمكانيات التقنية والتكنولوجية التي كانت بحوزة ماه إلا أنه استطاع تنفيذ العديد من العمليات الاستخباراتية الناجحة مثل تثبيت تصنت الاستخبارات الأمريكية على اتصالات رئيس وزراء تركيا عام 1956 وقيامه بالقضاء على العديد من التنظيمات والتحركات المستهدفة لأمن واستقرار الجمهورية التركية مثل تجمع "تعالي" الأرمني الكردي الذي كان يسعى لتأسيس دولة أرمنية كردية منفصلة عن تركيا في شرق وجنوب شرق الأناضول.
ـ جهاز الاستخبارات القومية "ميت":
في عام 1965 رأى مصطفى عصمت إينونو رئيس الحكومة الائتلافية في ذلك العهد أنه لا بد من تغيير اسم ماه إلى "ميت". وميت تعني "ميلي استخبارات تشكيلاتي" أي "جهاز الاستخبارات القومية" وقام بعرض الموضوع على البرلمان وبتاريخ 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1983 تم تغيير اسم ماه إلى ميت بموجب القرار البرلماني 2937.
وما زال ميت إلى يومنا الحالي يعمل في مجال الأنشطة الاستخباراتية بنفس الإسم وبنفس الأهداف التي تأسس من أجلها ماه، ويعد اليوم ميت من أكبر وأنشط الأجهزة الاستخباراتية في المنطقة وله دور كبير في إعداد الكثير من الخطط التي تقوم تركيا على أساسها بناء سياستها الداخلية والخارجية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!