جلال سلمي - خاص ترك برس
التطورات السياسية نهر متدفق لا يعرف للركود معنًى أو سبيلًا، نهر يجري بسرعة فائقة وجرف ممتد ومنبسط يُحدث العديد من التغيرات الشاملة لكافة المجالات والمساحات في وقت قصير جدا ً.
قبل برهة قصيرة من الزمن، وبالتحديد خلال قمة العشرين التي عُقدت في مدينة أنطاليا التركية ما بين 10 و16 تشرين الثاني/ نوفمبر، أوضحت وسائل الإعلام بأن "الأطراف المُجتمعة اتفقت على عملية انتقالية للسلطة، في سوريا، لا تشمل الأسد"، ولكن اليوم، بعد مرور أقل من عشرة أيام تنقلب الأوراق وتتغير سمات المرحلة، بمقدار 180 درجة، عقب إسقاط تركيا للطائرة الروسية "المُخترقة لأجوائها السيادية".
تنقالت وسائل الإعلام وأكد بعض الخبراء أن الرئيس بوتين توعد تركيا وهددها، وأن يده حديدية وستوجع تركيا بصفعتها المؤلمة التي ستشمل عددًا من الإجراءات المضادة لخط سير المصالح المشتركة بين الطرفين، أي تركيا وروسيا.
لا يمكن المزايدة على رأي أحد من الخبراء، فجميع الخبراء، في مجال الأحداث الإنسانية، يتوقعون ولا يجزمون، وذلك لأن التوقعات الخاصة بالأحداث والتطورات الإنسانية تختلف عن الأحداث والتجارب العلمية التي تجري تحت قواعد علمية مُستحكمة، أما التطورات الإنسانية فليس لها قواعد تحكم وسيطرة لذا لا يمكن الجزم في الأحداث الإنسانية بل يمكن التوقع فقط.
وفي ظل وجود التوقع والتوقع الآخر، يمكن طرح فرضية عدم وجود المجال الكافي لروسيا الذي يمكنها من التمادي في تهديداتها ضد تركيا، وسؤال الفرضية التلقائي هو: لماذا لا تستطيع روسيا التمادي في تهديداتها ضد تركيا؟
الإجابة على هذا السؤال يمكن تناولها في إطار نظرية "الاعتماد الاقتصادي أو التجاري المتبادل" أو بمصطلحها الآخر "النظرية الوظيفية" الليبرالية الجديدة التي يطرحها المُفكر السياسي والمختص في مجال العلاقات الدولية ديفيد ميتراني، ويمكن توضيح خلاصة أسس نظرية ميتراني على النحو الآتي "لا توجد أي دولة وطنية فوق الكرة الأرضية قادرة على توفير جميع متطلباتها الحياتية والاقتصادية دون إجراء تبادل تجاري مع الدول الأخرى، لذا تقوم الدول الوطنية، في بادئ الأمر، بتوفير مستلزماتها الاقتصادية الناقصة من خلال إجراء اتفاقية اقتصادية جزئية تشمل قطاعًا أو قطاعين تجاريين، وبعد تحصيل الدولتان لربح وفير ومتبادل، تسعيان إلى توسيع القطاعات التجارية المتبادلة بينها، وبعد اتساع القطاعات التجارية، ترى هاتان الدولتان أن من الجيد إجراء اتفاقية تجارة حرة بينهما، تجارة حرة تعني عدم وجود ضرائب جمركية، وبتوقيع الاتفاقية يُصبح هناك ترابط اقتصادي واعتماد تجاري ضخم بين الدولتين، بفعل هذا الترابط يُصبح هناك اتحاد تجاري كبير بين الدولتين وبالتالي لا تتمكن أي منهما من الإضرار بالأخرى، لأن إضرار دولة بأخرى يعني الإضرار بمصلحة الطرفين، وفي إطار هذا النوع من الترابط الاقتصادي يصبح هناك حذر ودقة في التحركات المتبادلة بين الطرفين".
في ضوء هذه النظرية التي تؤكد ضرورة وجود ترابط اقتصادي واعتماد تجاري وثيقين لكي تكون التحركات المتبادلة بين الطرفين حذرة ودقيقة، يمكن الإطلاع على المؤاشرات الاقتصادية التجارية الرابطة للطرفين، حسب تقارير وزارة الاقتصاد التركية؛ تتجلى العلاقات التركية الروسية الاقتصادية بالشكل التالي:
ـ حجم التبادل التجاري 19 مليار دولار.
ـ حجم الوارادت التركية من روسيا 16 مليار دولار، بينما حجم الصادرات يتراوح ما بين 2 إلى 3 مليار دولار.
وتُعد تركيا الشريك التجاري الثاني لروسيا بعد ألمانيا، وهي كذلك المستورد الأكبر والأول للغاز الروسي إذ تستورد سنويًا 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي الروسي أي ما نسبته 55% من إجمالي صادرات الغاز الروسي، بعد المقاطعة الاقتصادية الأوروبية للغاز الروسي أصبحت تركيا شريكًا حتميًا ومصيريًا لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة لروسيا.
ـ وصل حجم الاستثمار التركي في روسيا إلى مليار دولار
ـ يحتل السياح الروس المرتبة الثانية بعد ألمانيا من بين السياح الأكثر زيارةً لتركيا، إذ يأتي إلى تركيا سنويًا ما متوسطه 4.2 مليون سائح روسي، كما أصبح العديد من المواطنين الروس أصحاب عقارات عديدة في تركيا.
ـ بلغ حجم الاستثمار التركي في روسيا 3.9 مليار دولار.
من المؤاشرات والمعطيات المذكورة أعلاه يتضح بأنه في حال حدوث خلل في الميزان التجاري ما بين تركيا وروسيا، فإن الأخيرة هي التي ستضرر بشكل أكبر. هذا ويُذكر بأن روسيا تعاني اليوم من بعض الأزمات الاقتصادية بسبب العقوبات والمقاطعة المفروضة عليها من قبل الاتحاد الأوروبي، وانخفاض أسعار الغاز والنفط عالميًا.
وبالتالي بعد الاعتماد الوثيق لروسيا على تركيا التي تستورد منها ما نسبته 55% من الحجم الإجمالي للغاز الطبيعي الروسي والتي تُعتبر أيضا ً الطريق الممهدة لها لنقل غازها الطبيعي إلى أوروبا الشرقية بعد فرض عقوبات ومقاطعة غربية عليها نتيجة تدخلها العسكري في أوكرانيا، وبعد ازدياد حجم الأزمات الاقتصادية المُنهارة عليها، يبدو بأنها عاجزة عن التمادي في تهديداتها ضد تركيا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس