جلال سلمي - جيرون
لا يفتأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يُهدد بشن عملية عسكرية واسعة “تجتث وجود المنظمات الإرهابية” الفاعلة في منطقة شرق الفرات، قاصدًا بذلك (وحدات حماية الشعب) المُنبثقة من حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يُعدّ العمود الفقري لـ (قوات سورية الديمقراطية/ قسد) و(مجلس سوريا الديمقراطي/ مسد).
في طور الاستعدادات الأميركية للانسحاب، وفي ظل علاقات تركية – أميركية تشهد تحسنًا نسبيًا في مسارها، وفي ضوء توجّه أنقرة إلى التنسيق مع موسكو وطهران وبغداد، في مسارات مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي؛ بات التساؤل الأكثر طرحًا يدور حول ماهية الدور التركي في شرق الفرات بعد الانسحاب الأميركي.
يتّضح أساس الدور التركي في إجراء عملية عسكرية جزئية، في منبج وقره قوزاق وتل أبيض. أما منبج فكانت ضمن خطة أنقرة، عندما أجرت عملية (درع الفرات)، غير أن الانتشار الروسي الأميركي السوري (ممثلًا بالنظام السوري) المُشترك في منبج، حال دون تقدّمها صوبها. وتناور أنقرة اليوم، دبلوماسيًا وعسكريًا، من أجل السيطرة على هذه المدينة، جزئيًا أو كليًا؛ لما تُشكّله هذه المدينة من أهمية استراتيجية بالنسبة إليها، حيث يمكن، من خلال الوجود المباشر فيها، الحيلولة دون تحرّك (وحدات الحماية) نحو غرب الفرات على صعيد استراتيجي، وتشكيل “جيوب” تتحرك ضد (وحدات الحماية)، في حال خرجت عن الإطار المرسوم لها، وهمّت بإلحاق الضرر بالمصالح التركية في سورية والإقليم على حدٍ سواء.
تملك تركيا حقًا سياديًا، حول ضريح الشاه سليمان (جد مؤسس الدولة العثمانية) في منطقة قره قوزاق، لذا تحاول إعادة الأمر لما كان عليه قبل نقل ضريح الشاه سليمان في شباط/ فبراير 2015، إلى قرية (أشمة) في سورية، في عملية أُطلق عليها، حينذاك، اسم “شاه فرات”.
في ما يتعلق بتل أبيض، فإنها تعدّ ذات كثافة عربية، وتحتضن تركيا عددًا كبيرًا من أبناء المدينة الذين هُجروا قسرًا، بحسب تقارير لمنظمتي العفو الدولية و(هيومن رايتس ووتش)؛ ما يمنحها ذريعة شرعية، تحت مبدأ “مسؤولية الحماية”، لدخول المدينة، عبر دعم فصائل ومجالس إدارية يعود أصلها إلى هذه المدينة.
في المقابل، تقوم الخطة الأميركية، في الغالب، على خطة الانسحاب “الجزئي” الذي يعتمد استراتيجية “الانتشار التشاركي” أو “التحالف التكاملي”، حيث يتم سحب القوات الأميركية إلى القواعد الحدودية، كقاعدتي (التنف) و(الزكف) على الحدود العراقية – السورية، وقاعدة “الأسد” الواقعة في الأراضي العراقية والقريبة من الحدود السورية، و”مواقع المراقبة” التي قامت القوات الأميركية، في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، بإنشائها على امتداد أجزاء من الحدود السورية – التركية، ويبدو أن القوات التركية قد تنتشر بالقرب من هذه المواقع التي أشار وزير الدفاع الأميركي المُقال جيمس ماتيس، إلى أنها تأتي في إطار موازنة تحرك العناصر الفاعلة على الحدود السورية – التركية، أي مراقبة تحركات (وحدات الحماية) وتحركات تركيا، بما لا يؤثر سلبًا على مصالح الطرفين.
تُركّز الخطة على حاجة الولايات المتحدة الماسة إلى تركيا والعراق، في تحقيق “الانتشار التكاملي” الذي يمنح دولًا وعناصر “ما دون الدولة” دورًا مُتوازنًا، يخدم مصالحها ومصالح الولايات المتحدة قدر الإمكان، ويوفر على الولايات المتحدة تكاليف مادية وعسكرية وبشرية، في ما يتعلق بهدفها القائم على منع ظهور مُسببات جديدة لنشوء تنظيم (داعش)، والإبقاء على نفوذها في شرق الفرات، وبالتالي التحكم في مسارات مواجهة النفوذ الإيراني.
إن انتشار القوات التركية بالتنسيق مع القوات الأميركية، وانتشار قوات البيشمركة التابعة لـ (المجلس الوطني الكردي) ذي العلاقات الجيدة مع أنقرة، وتلميح واشنطن بالانسحاب من سورية مقابل البقاء في محيطها، يوحي باحتمال انتشارها في قاعدة “إنجيرليك” التركية، يتضمن بعض تفاصيل الدور التركي الحيوي في منطقة شرق الفرات، في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي.
لعل أهم ما يدل على توجّه واشنطن نحو تطبيق الخطة المذكورة أعلاه، وبالتالي اضطلاع أنقرة بدور حيوي في شرق الفرات ما بعد انسحابها، تحسّنُ علاقاتها نسبيًا مع أنقرة، وميلها إلى استيعاب بيشمركة (المجلس الوطني الكردي) المُنافس لـ (وحدات حماية الشعب)، إضافة إلى منح الحركات العربية والتركمانية والسريانية داخل قوات (قسد) فرصة لتأسيس مجالس إدارية، وإنشاء قواعد على طول الحدود مع تركيا، لضمان عدم تعرض الأمن القومي التركي للخطر، من خلال الانتشار الجزئي أو النسبي على طول الحدود التركية – السورية، وإعلان ترامب الصريح ببدء قواته الانسحاب الفعلي، وتصريح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بأن واشنطن تبذل جهودًا لضمان “ألا يقتل الأتراك الأكراد”؛ أي ألا تُجري أنقرة عملية عسكرية شاملة تقضي على دور وحدات الحماية المُستقبلي بالكامل، وتبقى على انتشار جزئي يُساند الخطة الأميركية للانسحاب. أيضًا، يبدو أن زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، لأنقرة، الثلاثاء 8 كانون الثاني/ يناير 2019، تأتي في إطار رسم جوانب التنسيق المذكورة.
وانطلاقًا من هذه النقطة؛ يتضح أن الدور التركي الأساسي والاستراتيجي في منطقة شرق الفرات يكمن في توفير الدعم اللوجستي للقوات الأميركية المنتشرة جزئيًا، من خلال القواعد والمطارات العسكرية، وبعض التجهيزات العسكرية والقوات العسكرية، بهدف الانتشار على طول الحدود مع سورية.
لا ريب في أن أنقرة قد تتجه نحو مواكبة مسارات الخطة الأميركية، رغبةً في حماية مصالحها قدر الإمكان، وتعزيز دورها على النحو الذي يرفع من أهميتها في القاموس الأميركي، وكسب هامش مناورة لتعزيز ميزان قوتها أمام موسكو في مسار التسوية، وأمام فرنسا والدول الأوروبية الأخرى التي تحاول إقناع واشنطن بتغيير خطتها، وأمام بعض الدول الخليجية والعربية التي تُحاول توفير القدرات المالية والإمكانات البشرية والعسكرية التي تأخذ واشنطن نحو تخفيف مستوى تنسيقها مع أنقرة.
في الختام، تفقه أنقرة أنّ دورها في منطقة شرق الفرات يُحدد وفقًا لخُطط البيت الأبيض التي يبدو أنها قائمة على انسحاب جزئي، يُشرك الدول الإقليمية وعناصر “ما دون الدولة” الفاعلة محليًا، في لعب دورٍ سياسي وعسكري نسبي “تشاركي” يخدم مصالح كل منهم على حدة. وتُدرك أنقرة أنها بحاجة إلى مواكبة سير الخطط الأميركية، كي تستطيع -من خلال ذلك- مقارعة التحديات الدولية والإقليمية التي تواجهها، نتيجة التنافس المُحتدم بينها وبين عدة فواعل أخرى. وفي ضوء هذه الخطة، قد يكون من الصائب توقع حياد أنقرة جزئيًا عن الخطة الأميركية، من خلال تعزيز تعاونها مع العراق وكردستان العراق، وربما إيران، والإبقاء على تنسيق حيوي مع روسيا، لضمان عدم منح واشنطن لـ (وحدات حماية الشعب)، وعدد من الدول الخليجية والعربية، دورًا سياسيًا وعسكريًا واسعًا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس