محمود عثمان - خاص ترك برس
للمرة الرابعة خلال أقل من عام يظهر الإرهاب مرة أخرى بوجهه القبيح ليستهدف قلب إسطنبول النابض شارع الاستقلال في منطقة التقسيم، رمز التنوع الثقافي، ومقصد السياح على اختلاف أوطانهم وأعراقهم وأجناسهم... ساعات قليلة ويعلن عن هوية منفذ التفجير الانتحاري – وقد يعلن عنه قبل نشر المقال -، الذي سينتمي بالضرورة إما إلى حزب العمال الكردستاني، أو إلى أحد فروعه وما أكثرها، أو إلى تنظيم "داعش" الذي غدا بقدرة قادر عالميا خلال فترة قياسية قصيرة، حيث مقاولات الإرهاب في تركيا باتت ترسو على أحد هذين التنظيمين تحديدًا.
سيقال الكثير عن هوية منفذ هذا التفجير الانتحاري وانتمائه الفكري والسياسي وخلفيته الاجتماعية، وسيكتب الكثير حول دوافع هذا العمل الإرهابي الذي يستهدف المدنيين الأبرياء ومن يقفون خلفه، حيث تركز التحليلات حول من هو المستفيد من هكذا عمليات إرهابية، وغالبًا ما تتجه أصابع الاتهام إلى أياد خارجية لا تريد الخير لتركيا، ولا تتمنى لها النمو والتقدم والازدهار... قد يكون جميع ما سبق أو جله صحيحًا يقارب الحقيقة بشكل أو بآخر . لكن يبقى السؤال قائما وملحًا:
لماذا لم يتحقق الإجماع السياسي ضد الإرهاب في تركيا؟
واضح للعيان أن ردة فعل الأحزاب والقوى السياسية التركية المعارضة على التفجيرات الأربعة الأخيرة التي أصابت تركيا في مقتل، لم ترق لمستوى الصوت الواحد والإجماع الوطني ضد الارهاب، كما رأينا في فرنسا عقب تفجيرات باريس، مما جعل انتظار الدعم الاصطفاف الدولي مع تركيا ضربا من التناقض، إذ كيف يقف العالم مع قضية ليست محل إجماع داخلي؟!.
صحيح أن جميع الأحزاب بما فيها حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) استنكرت وبشدة تلك العمليات الإرهابية، وشجبتها بأقسى العبارات , لكنها من جهة أخرى رفضت التوقيع على ميثاق شرف وطني ضد الإرهاب أيا كان مصدره ونوعه، كما رفضت جميع دعوات الحكومة لبلورة موقف وطني موحد ضد الإرهاب!...
ثمة مخاوف حقيقية عند أحزاب المعارضة من أن يتم قطف ثمار هذا الإجماع الوطني وتجييره لصالح الحزب الحاكم حزب العدالة والتنمية، وأن يؤدي إلى زيادة شعبية الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي ما زال يتصدر الساحة السياسية رغم الموانع الدستورية التي تنص على حياده حسب دستور البلاد الحالي...
مخاوف المعارضة هذه تبدو بريئة ومشروعة للوهلة الأولى، حيث من طبيعة العمل السياسي العمل على إضعاف الخصم، بل إبعاده عن سدة الحكم، والحلول مكانه في إدارة شؤون البلاد. لكن من غير الطبيعي ولا المعهود أن تصل الحال إلى محاولات الاستفادة – ولو بطريقة غير مباشرة – من حوادث الإرهاب وما تتركه من آثار سلبية على نفوس المواطنين، من خلال بث حالة من الهلع والذعر بغية إقناع المواطن، بأن حكومة حزب العدالة والتنمية عاجزة عن الإمساك بزمام أمور الحكم، وأن لا بأس من الرضوخ قليلا لمطالب بعض الجهات!، وأن الواقع يفرض تشكيل حكومة وطنية تشارك فيها جميع الأحزاب السياسية!... ولمَا لم يستجب حزب العدالة والتنمية لتلك الابتزازات ومحاولات الاصطياد في الماء العكر، تقوم تلك القوى السياسية بحجب دعمها، وتستنكف عن تحمل مسؤولياتها الوطنية.
لكن هذا كله لا يكفي لتفسير ظاهرة الاستنكاف تلك، التي تكلف أحزاب المعارضة أثمانًا سياسية باهظة، فيجعلها عرضة لانتقادات الشارع التي يتهمها بعدم النضح السياسي، وفقدان الأهلية والكفاءة على الممارسة السياسية الصحيحة، فكيف يثق بها في إدارة شؤون الحكومة والدولة؟.
أعتقد أن السبب الرئيسي الذي يؤرق كثيرا من القوى الخارجية والداخلية، هو عزم حكومة أحمد داوود أوغلو مع الرئيس أردوغان على تغيير دستور البلاد الحالي ليصبح شكل الحكم رئاسياً أو نصف رئاسي بدل النظام البرلماني الحالي، وهذا معناه - إضافة إلى استمرار سيطرة حزب العدالة والتنمية على مقاليد السلطة لفترة أطول – سد المنافذ وقطع الطريق على تدخل القوى الخارجية والداخلية من خارج المؤسسة السياسية، وجعل النظام السياسي في تركيا أكثر استقرارًا، وأشد حصانة ضد محاولات مهندسي السياسة اللعب خارج نطاق قواعد العملية السياسية، وتحصينه ليصبح أكثر مناعة ضد الانقلابات العسكرية، وتدخل القوى غير السياسية... لذلك لم يعتبر من غريب الصدف استضافة قناة تلفزيونية ناطقة باسم حزب العمال الكردستاني لنائب رئيس حزب الشعب الجمهوري لحظة وقوع التفجير الإرهابي الانتحاري في منطقة التقسيم البارحة!.
يبدو جليا أن الرسالة الأولى والهدف الأساس من زعزعة الأمن، وخلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، إنما هو للحيلولة دون تأسيس نظام سياسي مستقر منيع حصين في تركيا. ذاك الهدف الذي تلتف حوله قوى متعددة، سياسية وغير السياسية، داخل تركيا وخارجها.
إذا كانت هذه هي رسالة الإرهاب الموجهة للرئيس رجب طيب أردوغان، ولحزب العدالة والتنمية، ولحكومة أحمد داود أوغلو، فإن هوية منفذ الهجوم، ومشرب التنظيم/ الشركة المقاولة تبقى تفصيلات فرعية لا قيمة كبيرة لها بجانب المشهد الأساس.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس