محمد زاهد جول - أورينت
يخطىء من يظن أن هناك صراعا تركيا كردياً، سواء في تركيا أو في سوريا أو غيرهما، فالموجود هو صراع بين مشاريع سياسية دولية وحضارية، تحاول المستكبرة الغربية منها أن تهزم الحضارات الأخرى بكل الوسائل والطرق، ولذلك تعبث بأمن المنطقة الإسلامية واستقرارها لإبقائها تحت الهيمنة الخارجية أولاً، وإبقائها ضعيفة ثانياً، وحرمانها من التحرر وأخذ حقها بالحرية والاستقلال والعيش الكريم ظلماً وعدواناً وستكباراً ثالثاً، ولكن الشعوب الحرة ترفض الاستعمار ، مهما كانت حجته وقيمه وأفكاره، حتى لو كان استعمارا محلياً مثل الأحزاب المستبدة والرؤساء الدكتاتوريين، الذين وريثوا الاستعمار الأجنبي في الحكم، فهؤلاء مثل دول الاحتلال الاستعمارية تحرم الشعوب من حقوقها لصالح حفنة من العسكر أو أسر متكبرة على الشعب، ولذلك فإن الشعوب ترفض مثل هذه الأسر المستبدة بالسلطة والثروة، وتسعى لإقامة دولها المستقلة، وتنتخب برلماناتها الحرة والديمقراطية التي تمثلها بصدق، وتنتخب حكوماتها ورؤسائها الذين يحفظون حريتها وأمنها واستقرارها واستقلالها كما يحفظون لها غذاءها ومساكنها وصحتها وتعليم أبنائها وعيشها باحترام وأمن وامان.
ومنذ أن اختار الشعب التركي حكومة حزب العدالة والتنمية لقيادة مسيرة الشعب التركي عام 2002، كان مدركا أن هذا الاختيار هو الأول في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة الذي يمثل الشعب تمثيلا حقيقياً، وأصبحت حكومة العدالة والتنمية مسؤولة عن كل الشعب التركي وليس عن جزء منه، ولا طائفة منه ولا قومية دون قومية إطلاقاً، فحكومة حزب العدالة والتنمية الأولى، ولو صح القول لقلنا إن برلمان حزب العدالة والتنمية الأول الذي انتخب في عام 2002 كان برلمان كل الشعب التركي، الأتراك والأكراد والأذريين والعرب والشركس واللازيين وغيرهم من أبناء الشعب التركي، وعلى سبيل المثال كان فيه أكثر من ثمانين نائبا كرديا، كانوا من المؤسسين لحزب العدالة والتنمية، والمشاركين الرئيسيين في صناعة مسيرة نجاح حزب العدالة والتنمية في السنوات الماضية، وكان منهم الوزراء والمدراء في كبرى مؤسسات الدولة التركية، وقد ترشح زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديمرطاش في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2014 على أعلى منصب سياسي في الجمهورية التركية.
هذا يثبت أن تركيا دولة دستورية وديمقراطية وحرة ومستقلة في إدارة قراراها الداخلي والخارجي، ويثبت أيضاً أن كل مكونات الشعب التركي القومية والعرقية والطائفية والاثنية بما فيهم الأكراد كانوا ولا يزالون جزءا رئيسيا من مسيرة الحرية والديمقراطية والاصلاح في حزب العدالة والتنمية وحكومته الأولى عام 2002 وحتى عام 2015، فكل الانتخابات والبرلمانات التي فاز فيها حزب العدالة والتنمية السابقة شارك فيها الأكراد في صياغة التشريعات الديمقراطية، قبل تمثيل أنفسهم مباشرة في حزب سياسي وبعدها، بل وهم في حزب سياسي مستقل كان نواب المناطق الكردية يمثلون في الأحزاب الأخرى، وبالأخص في حزب العدالة والتنمية، لأن حزب العدالة والتنمية لم يؤسس على أساس قومي مغلق، ولا على أساس طائفي متشدد، وإنما تأسس ليكون من كل الشعب التركي، ولكل الشعب التركي، بما فيهم المسيحيون والعلويون والعرب والشركس والأكراد وغيرهم، وتلك البرلمانات والحكومات هي التي هيأت الأجواء الداخلية للاصلاحات، وهي التي شرعت الحزم الديمقراطية التي صنعت أرضية المصالحة الداخلية، وأسست لما أطلق علية عملية السلام الوطني أو الداخلي، وقد بدأ بها أردوغان وهو رئيس للوزراء عام 2005، بالرغم مما كانت تحمله تلك المبادرة الأردوغانية من مخاطرة على حياته وأمنه الشخصي، فقد كان الموقف القومي التركي المتشدد معارضاً لهذه المصالحة، ولا يزال حزب الحركة القومية ضد عملية السلام الداخلي ويعتبرها خيانة للدولة التركية.
بينما وجد فيها زعيم حزب العمال الكردستاني التاريخي عبدالله أوجلان فرصة حقيقية وصحيحة نحو تحقيق مطالب الشعب الكردي، وقد كان هذا الموقف من اوجلان مفاجئا للشعب التركي ولعناصر حزب العمال الكردستاني ومؤيديه معاً، فهو من قاد العمليات الارهابية طوال ثلاثة عقود ضد تركيا، وكان ينادي بتحرير الأراضي الكردية وإقامة دولة كردستان، فكيف تغير موقفه وأصبح مؤيدا بل مشاركا في صناعة عملية السلام الوطني والمصالحة الداخلية، فهل بسبب وجوده في السجن منذ عام 1999 في تركيا، ام بسبب قناعته بان الخط الإرهابي والانفصالي كان خاطئا ولن يؤدي إلى نتيجة صحيحة، قد يكون الجواب كلا الرأيين، ولكن رسائل عبدالله أوجلان إلى الشعب الكردي والتركي في أعياد النيروز عامي 2013 و2014 كانت تشير إلى تغير في قناعات الزعيم عبدالله أوجلان، وان الاستراتيجية الجديدة لعبدالله أوجلان أصبحت هي المصالحة الوطنية في ظل اصلاح دستوري يبني دولة تركيا الديمقراطية الحديثة.
ولكن هذه القناعات الأوجلانية الكردية المستقلة لم تنعكس على آداء ومواقف حزب العمال الكردستاني الذي أصبح تحت قيادة جميل باييك في جبال قنديل في العراق، وتحت هيمنة الحرس الثوري الإيراني، وكذلك لم تنعكس على سياسات ومواقف حزب الشعوب الديمقراطي التركي، لأن دكتاتورية قيادة قنديل لا تتيح للجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني في تركيا وزعيمه صلاح الدين ديمرطاش حرية الرأي ولا حرية الحركة، فقد بقيت مواقف صلاح الدين ديمرطاش وامثاله من نواب حزب الشعوب الديمقراطي رهينة مواقف جبال قنديل، ولا تستجيب لجهود الحكومة بضرورة وقف الأعمال الارهابية، ورفض منهج العنف في تحقيق المطالب الشعبية، ولكن رفض زعماء حزب الشعوب الديمقراطي التنديد بالعمليات الارهابية أفقدهم تأييد الشعب التركي والكردي لهم، وجعل الشعب يطالب الدولة التركية باتخاذ الاجراءات التي تحول دون امن وسلامة المواطنين في كل انحاء تركيا بما فيها مناطق الجنوب شرق تركيا حيث تقطن نسبة عالية من السكان الأكراد فيها.
لقد تمكن الأكراد في تركيا من تحقيق مطالبهم كلها في السنوات الماضية، وبقي ان يتم إقرار ذلك بصيغة قوانين ودستور جديد وأن يتم تشريعه في البرلمان التركي، ولكن القوى الخارجية المعادية لتركيا رفضت أن يتمكن الشعب التركي من حل مشاكله بنفسه ودون وصاية خارجية، وقد عملت على منع الأكراد من توقيع معاهدة سلام داخلي، وضغطت على الأحزاب الكردية لمعاداة تركيا بحجة معاداة حكومة حزب العدالة والتنمية وحزبها، الذي كان اول حكومة تركية تساعدهم في نيل حقوقهم الوطنية كاملة، وقد ساعد تلك القوى الخارجية في تحريض الأكراد على تركيا توتر اوضاع المنطقة السياسية والعسكرية وبالأخص في سوريا، وقد اخذت تلك القوى الدولية ترسم مخططات التقسيم مرة أخرى للمنطقة، بعد مرور مائة عام على تقسيمهم للمنطقة في المرة الأولى في اعقاب الحرب العالمية الأولى وإسقاط الدولة العلية العثمانية، فعودة هذه المشاريع في تقسيم المنطقة رفعت من حاجة القوى الاستعمارية للأحزاب والفصائل الكردية، ولذلك كانت العودة بأدوات دولية وإقليمية ومحلية أخرى، ولكن أسبابها متشابهة من حيث البواعث والأهداف.
لقد رسمت بريطانيا وفرنسا خريطة التقسيم في اتفاقية سايكس بيكو وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا عام 1916، وقد بقيت هذه الاتفاقية سرية في ذلك العام حتى كشفها وزير الخارجية السوفيتي في ذلك الوقت، وكانت أسباب إخفاء الاتفاقية البريطانية الفرنسية لتقسيم الدول العربية هو ان البريطانيين كانوا قد استخدموا بعض الأطراف العربية في الحجاز ولدى بعض القومجيين العرب أدوات سياسية وعسكرية في عملية التقسيم، بذريعة وحجة مقاومة عمليات التتريك التي قامت بها حكومة الاتحاد والترقي في الدولة العثمانية في ذلك الوقت، فكان العنصر العربي نفسه أهم اداة من ادوات التقسيم الاستعمارية، ولكن للأسف دون ان يتمكن العرب من تحقيق مطالبهم المشروعة في الحرية والاستقلال، لأن الدول الاستعمارية كان تسعى للتقسيم لتحقيق اهدافها هي وليس لإقامة خلافة عربية ولا دولة عربية كبرى، كما كان يظن البعض من العرب، فذهبت اعمالهم الحربية ضد الدولة العثمانية سدى، وكانت خسارة كبرى بدل ان تكون ثورة كبرى، لأن من استطاع تحقيق اهدافه هي الدول الاحتلالية الاستعمارية وليس الثورات العربية، بل كانت معظم حركات التحرر العربي ضحية المخططات الاستعمارية، حتى وهي تقيم دولاً ضعيفة سياسيا وعسركيا واقتصاديا.
وما أشبه اليوم بالبارحة فقد جاءت أمريكا وروسيا هذه الأيام لفرض تقسيم جديد في بلاد العرب والمسلمين، وضع خططها برنارد لويس اليهودي الأمريكي وقدمها لمراكز القرار الأمريكي وأيدها هنري كيسنجر حتى تبناها الكونغرس الأمريكي عام 1984، فانتهزت امريكا كل الفرص التاريخية لتنفيذ خطط التقسيم التي وضعها لويس، انتهزت أمريكا حرب الخليج الثانية بعد احتلال الكويت ووضعت العراق تحت الحصار الدولي والعقوبات 13 عاماً، حتى أصبحت العراق ضعيفة فاحتلتها بمساعدة إيران وجنودها العراقيين، ودخل العراق في مشروع التقسيم الأمريكي منذ عام 2003، وانتهزت أمريكا ثورات الربيع العربي منذ عام 2011، وأخذت في تنفيذ مشاريع تقسيم سوريا وهي تدعي مساعدة الشعب السوري، فاستدعت أمريكا إيران وحرسها الثوري وميليشياتها الطائفية لمساعدتها في تقسيم سوريا منذ عام 2012 ولكنها لم تنجح، واستدعت أمريكا روسيا بهدف ان تستخدم قوتها العسكرية لتقسيم سوريا فهرب الروس قبل أن ينجزوا المهمة الأمريكية، بعد ان اكتشف بوتين الخطة الأمريكية، وانه مجرد اداة عسكرية فيها فقط، ولم يبق في الميدان يساعد امريكا على تقسيم سوريا إلا القوات الكردية، فهل يتنبه الأكراد إلى دورهم الاستعماري في تقسيم العراق وسوريا، وربما تطمع أمريكا بتقسم إيران وتركيا ودول عربية أخرى بعدها؟ وانهم يستخدمون جنودا مرتزقة وإن صورت أمريكا لهم قتالهم تحريراً لأراضيهم من تنظيم الدولة، أو لإقامة كيانهم الخاص.
لقد ثار العرب على الدولة العثمانية ولكنهم لم يتمكنوا من تأسيس دولة عربية موحدة، لأن القوى الدولية الغربية تلاعبت بهم وجعلتهم دولاً شتى، وحتى لا يتحدوا صنعت لهم جامعة دول عربية ضعيفة وسخيفة، وجعلت على شعوبهم رؤساء يسومونهم سوء العذاب، يغتصبون سلطانهم ويسرقون ثرواتهم، فهل يسعى الأكراد لأقامة دول كردية أو جامعة دول كردية ضعيفة، بعد ان تستهلكهم خطط المخابرات الدولية الأمريكية والروسية والأوروبية والاسرائيلية في تحقيق أطماعهم وأهدافهم في تقسيم المنطقة والسيطرة عليها، إن مجرد هذا الحلم الهزيل وهو الكيان الكردي لن يتمكن الأكراد من تحقيقه، لأن مصالح الدول الاستعمارية هي استغلال المطالب الكردية، لأن هدفهم هو إبقاء المنطقة ضعيفة ومقسمة ودون تمكين أي قومية إسلامية من إقامة دولة قوية، سواء كانت قومية أو علمانية أو اسلامية، وما يجري الآن في المنطقة وبالأخص في سوريا، فإن الهدف الأول منه هو عدم تمكين السوريين من الحرية ولا الاستقلال ولا بناء الدولة السورية القوية، والهدف الثاني منه إضعاف الجمهورية التركية والسعي لتقسيمها بالأيدي الانفصالية أيضاً، بسبب تمكن تركيا من تجاوز الخطوط الحمراء المفروضة عليها وعلى الدول العربية والإسلامية، في النهضة والاستقلال والتقدم الاقتصادي والصناعي، فهل يقبل الأكراد أن يكونوا أدوات استعمارية لإضعاف تركيا، او لمحاربة أخوتهم العرب أو لتقسيم سوريا لمصالح الاستعمار والدول الغربية المستكبرة، أم يضعوا أيديهم مع اخوتهم العرب والأتراك في بناء دول قوية تحمي شعوبها وتدافع عن كل مواطنيها وتنهي مشاريع المستعمرين إلى الأبد؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس