ولاء خضير - خاص ترك برس
يشهد الرابع والعشرون من أبريل/ نيسان من كل عام محطة توتر جديدة بين الأرمن والأتراك، ويتجدد الحديث عن "القضية الأرمينية"، والترويج الذي يقوم به متبنوها على مستوى العالم لما يسمونّه "مذابح" ارتكبتها الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ضد الأرمن، ويجادلون في حديث مطول عن مدى وحشية هذا الجيش الدموي في قتل العُزل، مع الترويج لبعض الصور الحقيقية، وغير الحقيقية، حول عملية الإبادة.
وبالتزامن مع إحياء أرمينيا الذكرى المئوية للمجازر في 24 أبريل/ نيسان، ستحتفل تركيا في نفس اليوم بالذكرى المئوية لمعركة غاليبولي "معركة جناق قلعة" التي ألحقت فيها القوات العثمانية هزيمة كبيرة بالقوات البريطانية، والفرنسية، والأسترالية، والنيوزيلندية.
ومؤخرا خرجت وزارة الخارجية التركية، وانتقدت البيان الصادر عن الرئيس الأمريكي باراك أوباما حول أحداث عام 1915م، وأشارت أن البيان "يُعد مثالًا جديدًا لتقييم تمّ على أساس رواية تاريخية أُحادية الجانب للآلام التي وقعت في ظل ظروف الحرب العالمية الأولى".
وكان الرئيس أوباما، قد استخدم في البيان الصادر عنه يوم الجمعة، في تعليقه على أحداث القضية الأرمينية التي شهدتها منطقة الأناضول أواخر العهد العثماني 1915م، عبارة "ميدس يغيرن" باللغة الأرمينية، والتي تعني "الكارثة الكبرى"، وذلك لتوصيف تلك الأحداث.
والواقع أن خطاب تركيا يتوجه بالدرجة الأولى لما يمكن أن تكون عليه مواقف الدول الغربية في الذكرى السنوية للـ"إبادة الأرمن"، وتحديدا لما كان عليه موقف الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي سبق أن وعد عندما كان عضوا في مجلس الشيوخ عام 2008 بالاعتراف بالإبادة الأرمنية، كما تتجه الأنظار نحو القرار الذي سيصدر عن البرلمان الأوروبي، الذي سيصوت على قضية إقرار الإبادة.
بيد أن الضجيج الذي يحدث حول هذا الموضوع، لا يتضمن نقاشًا تاريخيًا عن وضع الأرمن على مدى 5 قرون تقريبًا عاشوا فيها تحت الحكم العثماني، ويختزل معاملة الإدارة العثمانية للأرمن - المعروفون في التاريخ العثماني بالملة النجيبة -، كما يلغي ويتغافل بالطبع عن أسباب التهجير والقتل، التي تمت للأرمن في أثناء عملية التهجير خلال الحرب العالمية الأولى.
وترجح المصادر التاريخية أن القوات العثمانية سيطرت على مملكة أرمينيا لأول مرة في القرن الحادي عشر، وفي القرن السادس عشر أصبح معظم أرض أرمينيا جزءًا من السلطنة العثمانية الممتدة آنذاك إلى جنوب شرقي أوروبا، وشمالي أفريقيا، والشرق الأوسط، وتوزّع الأرمن بينها وبين الأمبراطورية الروسية، وبقيت أرمينيا تحت الحكم العثماني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
وتاريخيًا شارك الأرمن في الحياة العامة في الدولة العثمانية، حيث كان يسكن حوالى مليوني أرمني في الإمبراطورية العثمانية، وكان لكثير من أفرادهم وعائلاتهم دور هام في اقتصاد الدولة، فلم يشاركوا في التجارة فقط، بل في جميع القطاعات الاقتصادية من صناعة المجوهرات، والتجارة في عملات الذهب والفضة، وصناعة الخزف والمنسوجات وغيرها.
ومع دخول القرن التاسع عشر، نجد أن الدولة سمحت لهم بدستور خاص ينظم شؤون حياتهم، يتكون من 150 مادة في عام 1863م.
كما كان الممثل الأرميني والممثلة الأرمينية هم المسيطرون على مسارح الدولة، وكانوا يملكون مئات المدارس في القرن التاسع عشر الخاصة بتعليم أولادهم، ووصلت شخصيات منهم إلى أعلى مناصب في الدولة مثل وزير الخارجية، ووصلت عائلات منهم إلى منصب المعماريين الرسميين للدولة، مثل عائلة باليان، التي تنتشر آثارها في عاصمة الدولة، فهم صمموا مثلًا قصر دولمابهجة، ومنهم من ذاع صيته كمؤلف للموسيقى العثمانية الكلاسيكية.
وفي عام 1892م، أعلن قيام حزب جديد باسم حزب "الطاشناق" الأرميني، والذي كان من ضمن أهدافه إعلان التمرد على الدولة العثمانية، وتشكيل عصابات مسلحة، وتسليح الشعب، وترتيب الاغتيالات ضد مسؤولي الحكومة، ومن يسمونهم "الخونة" من الأرمن الذين يتعاونون معها.
أما على جانب الأعمال الإرهابية التي قامت بها هذه الأحزاب، نجد محاولة اغتيال والي مدينة "وان" عام 1892م، وقتل سائق عربة بريد في مدينة "توكات" ونهب العربة، وإثارة تمرد في مدينة "سامسون"، مما أدى إلى مقتل أتراك وأرمن في هذه الحوادث، والتي استغلتها الدول الأوروبية للترويج لاضطهاد الدولة العثمانية للأرمن وقتلهم.
استمرت العصابات الأرمينية في عام 1895م بإثارة القلاقل والاضطرابات والقتل في مدن مثل إسطنبول، طرابزون، ودياربكر، وأورفة، وقاموا بقتل الأتراك والأرمن الذين رفضوا المشاركة معهم، وأشعلوا الحرائق في أماكن عديدة.
وفي عام 1896م قامت عصابات الهنجاق والطشناق، بإحداث حركة تمرد في مدينة "وان" قُتل على إثرها 1715 أرمينيًا، و417 مسلمًا، وفي العام نفسه تم الهجوم على البنك العثماني في إسطنبول واقتحامه، ووصل الأمر في آخره إلى محاولة اغتيال السلطان عبد الحميد الثاني عام 1905م.
ويدّعي الأرمن أن عدد ضحاياهم بلغ مليون ونصف مليون أرمني، وأن هؤلاء قُتلوا وأعدموا من خلال أعمال حربية منظمة، عبر حملات اعتقال وتجميع وتصفية جسدية، فضلا عن هلاك كثيرين في المنافي بسبب الجوع والمرض.
لكن تركيا تقول إن عدد الضحايا كان قرابة ثلاثمائة ألف فقط، ومثلهم من الأتراك، وإن حملات الترحيل التي جرت إلى الصحراء السورية، وتحديدا محافظة دير الزور، لم تكن بهدف القتل، بل كانت لحماية الأرمن، بعد أن شاع جو من العداء لهم في الدولة العثمانية، بسبب خيانتهم وعمالتهم للروس، في حين تقدر تقارير المراكز والهيئات الدولية المعنية عدد الضحايا بنحو مليون أرمني.
يرى الأرمن أن ما جرى ضدهم كانت عمليات إبادة منظمة، بعد أن اتهمتهم الدولة العثمانية بالخيانة والعمل لصالح الإمبراطورية الروسية التي كانت في حرب مع الدولة العثمانية لسنوات طويلة، في حين ترى تركيا أن ما جرى لم يكن إبادة عرق، بل أعمال قتل وقعت بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى، وانقلاب الأرمن على الدولة، وأن الضحايا لم يكونوا من الأرمن فقط، بل من الأتراك والأكراد أيضا.
وفي الأساس، ثمة اجتهاد في الأوساط التركية، يرى أنه لا يمكن تحميل تركيا ولا الدولة العثمانية مسؤولية ما جرى، فتركيا الحالية ليست الدولة العثمانية، وعندما أرتكبت اعمال القتل كانت الدولة العثمانية منهارة، وكان الإتحاديون الأتراك هم الذين يحكمون البلاد، وفي ظروف حرب.
ودون شك، فإن تصاعد موجة الاعتراف الدولي بمجازر الأرمن عزز من شكوك تركيا إزاء استراتيجية الغرب نحوها، وفي العمق فإن تركيا ترى أن الغرب لم يطوا بعد صفحة الصراع مع الدولة العثمانية تاريخا وجغرافيا ومجتمعا، وأن ثمة مخططات تُعد في السر، وقد تظهر في الوقت المناسب لتستهدف كل ما سبق.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس