سعيد الحاج - المعهد المصري للدراسات السياسية
صدم المسؤولون الأتراك من قرار البرلمان الأوروبي قبل أيام بعدم طرح موضوع إلغاء تأشيرة شينغن لدخول دول الاتحاد الأوروبي على المواطنين الأتراك على جدول أعمال البرلمان بحجة أن تركيا لم تستوف كامل الشروط المطلوبة منها لتحرير التأشيرة.
رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز عقد مؤتمراً صحافياً مع وزير شؤون الاتحاد الأوروبي في الحكومة التركية فولكان بوزكر، لم يكتف فيه برفض مناقشة الملف بل وجه خلاله اللوم للمفوضية الأوروبية لإصدارها "توصية" في الرابع من شهر أيار/مايو الجاي بتحرير التأشيرة على اعتبار أن تركيا قد أوفت بمعظم الشروط الأوروبية، 67 من 72 وفق المفوضية والمصادر التركية الرسمية.(1)
رد الفعل التركي لم يتأخر بطبيعة الحال وامتاز بالعتب والحدة في آن معاً كما كان متوقعاً، ورغم أنه لم يوصد كل قنوات التواصل والحوار مع "الأصدقاء الأوروبيين"، إلا أنه ألمح إلى البعد السياسي للرفض الأوروبي. ويتركز الاعتراض التركي على ثلاث مرتكزات رئيسة:
أولاها مبدئية، ترى أن الشروط الـ 72 مجحفة بحقها لأنها لا تشترط على كل الدول الراغبة في تحرير فيزا شينغن بل فرضت على تركيا فقط.
والثانية منهجية، تعتبر القرار "عملية" متكاملة مستمرة وليس "محطة" يجب أن تصل إليها تركيا، وبالتالي كانت تتوقع من البرلمان الأوروبي أن يوافق على توصية المفوضية بسبب إيفاء أنقرة بمعظم الشروط، ثم يتابع مع الأخيرة باقي الاشتراطات.
والأخيرة إجرائية، ترى في الإصرار على شرط إعادة تعريف الإراهاب قانونياً جهلاً بظروف تركيا التي تواجه وفق السلطات التركية تحدياً غير مسبوق في الداخل (حزب العمال الكردستاني ومنظمات يسارية أخرى) والخارج (تنظيم الدولة وقوات حماية الشعب الكردية) ولا تملك رفاهية التراخي في هذا الملف، فضلاً عن شرط آخر - لا يتم التطرق له كثيراً - يتعلق بالاعتراف الضمني بقبرص (اليونانية).
من ناحية أخرى، تشير توصية المفوضية و"تجميد" البرلمان لعملية تحرير التأشيرة - قبل عرضها حتى على مجلس الاتحاد - إلى البعد السياسي في القرار. ومما يدعم هذه الفرضية أن القرار أتى بعد قرار رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو بترك رئاسة الحكومة والحزب الحاكم في مقابل ورود توصية المفوضية قبل هذا القرار، وتصريح سابق لرئيس البرلمان الأرووبي شولتز حول ثقتهم بداود أوغلو وأن اتفاقهم كان مع الحكومة التركية و"ليس مع اردوغان"، فضلاً عن التصريحات والتراشقات الإعلامية الحادة بين اردوغان وعدد من الساسة الأوروبيين منذ فترة حول عدة قضايا، وهي المواقف التي توردها بعض التحليلات ضمن ملفات الخلاف بين اردوغان وداودأوغلو.
المهم في هذا الإطار أن موضوع تحرير التأشيرة على الأتراك مدرج على ملف المفاوضات التركية - الأوروبية منذ 2013 وكان يفترض أن ينتهى منه في تشرين الثاني/أكتوبر 2016،(2) لكن تم تسريعه ضمن "اتفاق الإعادة" الخاص باللاجئين والذي أبرمه الاتحاد الأوروبي مع تركيا في آذار/مارس الفائت.(3)
وكان الاتفاق المذكور قد تعرض لانتقادات واسعة من منظمات حقوق الإنسان الدولية ومن الأمم المتحدة من زوايا أخلاقية وقانونية،(4) لكنه أيضاً كان يحمل في طياته ألغاماً موقوتة لجهة إمكانية تطبيقه على المستويين الرئيسين فيه: وقف تدفق اللاجئين وتسريع ملف انضمام تركيا للاتحاد.
فإلى جانب عدد من الكتابات الرصينة التي توقعت انهيار الاتفاق أو وصوله لطريق مسدودة فيما يتعلق بملف اللجوء،(5) فإن ثمة رأياً آخر - تبناه كاتب السطور منذ توقيع الاتفاق - حول ملف عضوية تركيا ومن ضمنه بند تحرير التأشيرة توقع عدم مرور الأمر بسلاسة لأسباب تتعلق بنظرة الأوروبيين لملف عضوية تركيا واعتراضاتهم عليه، وأخرى مرتبطة بملايين الأتراك المتواجدين في دول الاتحاد الأوروبي وما يمكن أي يساهموا به من تدفق ملايين آخرين من الأتراك نحو القارة (عدد سكان تركيا 78 مليوناً). (6)
وفي ظل تصريحات عديدة سابقة لعدد من المسؤولين الأتراك في مقدمتهم الرئيس ووزير الخارجية ووزير شؤون الاتحاد الأوروبي تتضمن تهديداً تركياً مبطناً بعدم الالتزام بمسؤوليتها في الاتفاق (ضبط موجات هجرة اللاجئين) إذا لم يلتزم الاتحاد بمسؤوليته (تحرير التأشيرة)، تطرح علامات استفهام كثيرة ووجيهة حول مستقبل الاتفاق برمته وانعكاس ذلك على اللائجين أنفسهم.
لا نتوقع موقفاً تركياً حاداً وسريعاً في هذا السياق، ولا يمكن لتركيا أن ترفع يدها تماماً عن حدودها البحرية حتى لا تظهر وكأنها تستثمر ملف اللجوء الإنساني لمصالحها الذاتية وحتى لا تثبت على نفسها تعمُّدَ غض النظر عن موجات الهجرة من سواحلها متى ما أرادت. وأعتقد أن هذا الأمر كان نصب عيني صانع القرار الأوروبي حين أبرم الاتفاق مع تركيا في لحظة ضعفه وحاجته له تحت ضغط موجات المهاجرين والرأي العام الرافض لقدومهم، لكنه لم يكن ينوي يوماً تحرير التأشيرة أو تسريع ملف تركيا إلا لفظياً وظاهرياً لدفع تركيا لقبول الاتفاق باعتبار أنه لن يكون سهلاً عليها التراجع عنه لاحقاً. ولعل في تهديد بعض المسؤولين الأوروبيين في اجتماع البرلمان الأخير بدعم اليونان - بدل تركيا - مالياً لتحمل عبء اللاجئين ولعب دور الدولة العازل لهم عن دول الاتحاد، فضلاً عن اقتراح بعض الدول الأوروبية لاحقاً إضافة "آلية لفرملة" الاتفاق أو تجميده بسرعة أو حتى إلغائه متى ما أراد الاتحاد، دلالات بالغة في هذا الإطار، وإن كان هذا الاقتراح الأخير لم يقر.
لكن شيئاً من التراخي يؤدي إلى موجات بسيطة من اللجوء نحو القارة العجوز أمر يمكن توقعه في ظل الضغط والضغط المتبادل على رقعة الشطرنج بين أنقرة وبروكسل، وهو ما يفسر موقف البرلمان الأوروبي الذي أبقى الباب موارباً أمام تركيا ولم يغلقه تماماً، معرباً عن "ثقته بأن تركيا" قادرة على الإيفاء بالشروط المطلوبة منها لإعادة عرض الأمر مرة أخرى على البرلمان. وهو تصريح يفهم منه إعطاء الأمل لتركيا لمحاولة ضبط ردة فعلها من جهة، وزيادة الضغط عليها في ملف "مكافحة الإرهاب" وملفات أخرى من جهة ثانية، وإعادة تفعيل الموعد السابق (أكتوبر) من جهة ثالثة.
في الخلاصة، يعرف الطرفان التركي والأوروبي أن الاتفاق تعترضه عوائق إجرائية مهمة منذ لحظته الأولى، ويدركان أن تركيا لن تدخل يوماً الاتحاد الأوروبي وفق القناعات والسياسات السائدة حالياً، ويسيران معاً نحو "تحسين شروط" العلاقة مع تركيا وإعطائها "وضعاً خاصاً"، كالشراكة في الاتحاد الجمركي وتحرير الفيزا والتعاون الاقتصادي. لكن هذا التطور الأخير يظهر أن الأمر أعقد حتى من ذلك، حيث تقصَّدَ البرلمان الأوروبي حرمان تركيا حتى من هذه الخطوة البسيطة التي كانت ستشكل لها نصراً معنوياً، على صعيد ملف الانضمام وتسويقه داخلياً وعلى مستوى مكانتها ونظرة الأوروبيين لها كشريك ند بشكل عام وفي ملف اللجوء على وجه الخصوص.
وهو تطور سيفتح أيضاً الباب مرة أخرى على نقاش قرار تركيا الاستراتيجي وتوجهات سياستها الخارجية بدون أو مع الاتحاد الأوروبي وفرص تحقق ذلك، كما كانت قد حاولت سابقاً عبر طلب دخول منظمة "شنغهاي" وشراء منظومة صاروخية من الصين، قبل أن تتراجع عن ذلك في ظلال الأزمة مع روسيا، فهل ستستطيع – وترغب في – فعل ذلك؟!!(7)
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس