سعيد الحاج - عربي 21
رغم أن الاستفتاء الشعبي الذي مرت به تركيا لم يكن انتخابات برلمانية أو رئاسية ولا حتى محلية/ بلدية، إلا أن أهميته وانعكاساته على المشهد السياسي المستقبلي إضافة لحالة الاستقطاب السياسي في البلاد أعطته من زاوية ما دلالات متعلقة بشعبية الأحزاب المختلفة وشرعية قياداتها.
ولذلك فقد توقعنا منذ إعلان النتائج أن يلقي الاستفتاء بظلاله على الأحزاب المختلفة، الحاكم والمعارضة، سيما حزبي الحركة القومية والشعب الجمهوري.
بيد أن حراك الأخير، وهو أكبر أحزاب المعارضة، قد بدأ مبكراً جداً. فبعد أيام فقط من إعلان النتيجة النهائية والرسمية، استلت السيوف داخل أروقة الحزب في مواجهة رئيسه "كمال كليتشدار أوغلو" من عدة أطراف وتيارات. بدأها رئيسه السابق "دنيز بايكال" الذي كان اضطر للاستقالة من منصبه عام 2010 بسبب فضيحة أخلاقية سربت له، ثم تلاه "محرّم إينجه" النائب الذي ترشح في مؤتمر الحزب السابق في موجهة كليتشدار أوغلو، ثم نائبه عن مدينة مرسين "فكري صاغلار" وهو من التيار الجمهوري - اليساري التقليدي فيه والذي اتهم الأخيرَ بالتفرد بإدارة الحزب، ثم أتت الصفعة الأخيرة باستقالة نائب الرئيس والناطق باسم الحزب السيدة "سيلين صائك بوكة" التي تمثل تياراً ليبرالياً داخله من مناصبها ومسؤولياتها.
بعد كل هذه التطورات، وفي حزب لم تتغير قيادته السابقة بسلاسة وإجراءات طبيعية، وفي ظل الإخفاقات الانتخابية والسياسية المتتالية أمام العدالة والتنمية، يُطرح سؤال القيادة والتغيير اليوم بقوة، وهل سيأتي ذلك عبر مؤتمر اعتيادي أم استثنائي يُرغم عليه رئيسه إرغاماً؟ ورغم أن كليتشدار أوغلو ما زال ممسكاً بزمام الأمور على ما يبدو، وتأكد ذلك بموافقة مجلس الحزب البارحة على تحويل النائب صاغلار إلى لجنة التأديب بهدف إخراجه من الحزب، إلا أن مرجل الحزب يغلي فيما يبدو ولن يهدأ قبل الإجابة على الأسئلة المطروحة على أجندته.
بيد أن المتغيرات ليست محصورة بأحزاب المعارضة، فالعدالة والتنمية أيضاً ينال حظه من ارتدادات الاستفتاء، على صعيد النتيجة والمرحلة الانتقالية ثم بدء تطبيق النظام الرئاسي.
ذلك أن بدء تطبيق النظام الرئاسي في 2019 سيعني انتقال الثقل والأهمية في السلطة التنفيذية من الأحزاب السياسية إلى مؤسسة الرئاسة، وهو ما سينعكس على كل الأحزاب ومنها العدالة والتنمية. فضلاً عن أن تطبيق النظام الرئاسي في ظل التوازنات والتحالفات والاستقطاب الحاليين في البلاد قد يعني تحول المشهد السياسي والحزبي في البلاد من تيارات أربعة رئيسة ممثلة في أحزاب البرلمان (المحافظين والقوميين الأتراك والعلمانين والقوميين الأكراد) إلى تيارين رئيسين كبيرين، يضم الأول الأطياف اليمينية من إسلاميين ومحافظين وقوميين (أتراك) ويضم الثاني الأطياف اليسارية من علمانيين ويساريين وقوميين (أكراد).
قبل ذلك، قدمت نتائج الاستفتاء رسائلها الواضحة للرئيس أردوغان ورئيس الوزراء يلدرم وقيادة العدالة والتنمية، سيما على صعيد عدم تأييد بعض أنصار العدالة والتنمية للتعديل الدستوري، ولذا قال الأول "يبدو أننا لم نستطع إقناع البعض"، بينما ألمح الأخير إلى تغيرات في الحزب والحكومة والمحليات تتماشى مع تطلعات الناخب ورجل الشارع.
في المرحلة الانتقالية، وكإحدى ثلاث مواد بدأ سريان تطبيقها مباشرة بعد الاستفتاء وقبل 2019، أمكن للرئيس التركي أن يعود لعضوية حزبه، بينما يرتب الحزب لمؤتمر استثنائي في 21 من الشهر الحالي ليعود لرئاسته، بعد 979 يوماً من استقالته منه إثر انتخابه رئيساً، طبقاً لمادة دستورية كانت سارية حينها وغيرت في التعديل الأخير.
عودة أردوغان لرئاسة الحزب ليست خطوة بروتوكولية ولا يمكن تخيل اكتفائه بالاهتمام برئاسة الجمهورية فقط، لكنه سيعود فعلياً لـ"قيادة" الحزب وليس فقط "رئاسته"، وسيعني ذلك الكثير بالنسبة للحزب الذي يقود الحياة السياسية التركية منذ نهايات 2002.
سيعني ذلك أولاً عودة الرئيس المؤسس والقيادة التاريخية المُجمع عليها للحزب، بعدما كانت "وديعة" لدى داود أوغلو أولاً ثم يلدرم ثانياً مع الإعلان الدائم للحزب أن "قائده الطبيعي" هو مؤسسه اردوغان، وهذا تحول مهم جداً على مستوى ضبط الأداء داخل الحزب والحفاظ على وحدته وتماسكه وتوازنات القوة والمنافسة والتيارات داخله.
فقد شهدت الأشهر الأخيرة حالة تراشقات إعلامية بين بعض المحسوبين على الحزب وارتفعت وتيرتها بعد الاستفتاء، وحملت طابع المواجهة بين "الإسلاميين" في الحزب ووجوه أكثر ليبرالية تحاول إقصاءهم منه.
قال جيم كوتشوك، أحد الإعلاميين المحسوبين على الحزب، في برنامج تلفزيوني إن العدالة والتنمية يجب أن يتخلص من "الإسلاميين المتشددين" داخله ووصف أنصار سفينة مافي مرمرة بـ"المعاتيه" أو "المخابيل"، فأثار موجة من الانتقادات والمقالات الاحتجاجية التي أشارت إلى أن هذه اللغة الإقصائية داخل الحزب والتي تصدر وكأنها باسمه أو لأجله قد أضرت بصورة الحزب لدى الشعب والناخبين، وكانت أحد أسباب تراجع التأييد له في الشارع ونسبة التأييد للتعديل الدستوري الأخير.
في هذا الإطار، ستكون عودة اردوغان حاسمة لمنع هذه التجاذبات ووضع حد لها. ورغم أنه أعطى في الأيام القليلة الماضية بعض الإشارات لملامح المرحلة القادمة حين قال إن الخلفية الفكرية أو الأيديولوجية ليست معيار التقدم والحضور في الحزب وإنما "الإخلاص والمبدئية وحب الشعب والالتزام بمبادئ الحزب"، إلا أن المؤتمر وما بعده سيوضح الإجراءات والآليات التي سيتعمدها في إدارة الحزب وضبط خطابه.وليس الخطاب مقتصراً على داخل الحزب وإنما الخطاب العام، حيث دعا أردوغان إلى ضرورة العودة بالحزب إلى "إعدادات التأسيس"، بمعنى القيم المؤسسة للحزب ومنها مخاطبة الكل التركي واحتضان مختلف أطياف الشعب والتعبير عنهم.
التغيير التنظيمي البنيوي أيضاً في الطريق، فسينتخب الحزب مع أردوغان خمسين عضواً جديداً للجنة التنفيذية والقرار المركزي والذي سيختار منهم الرئيس فريق عمله من النواب والمساعدين ممن يسمون باللجنة التنفيذية المركزية (المكتب التنفيذي).
ولن يقتصر التغيير على الدوائر القيادية في الحزب، بل ستتعداه إلى تنظيمات الحزب وفروعه في المحافظات ورئاسة البلديات والمحليات، كجزء من التفاعل مع نتائج الاستفتاء (المحافظات التي تراجع فيها التصويت) وكخطوة لإعادة تفيعل وتنشيط كوادر الحزب، استعداداً للاستحقاقات الانتخابية في 2019.
إضافة إلى ذلك، فقد ألمح رئيس الحكومة يلدرم إلى إمكانية إجراء تعديل وزاري بمستوى ما (لا يتوقع له أن يكون كبيراً)، بينما نفى الرئيس مناقشة الأمر حالياً، بما قد يعني أن التعديل الوزاري قد ينتظر إلى ما بعد المؤتمر الاستثنائي للحزب.
ومن الأمور التي سيحسمها المؤتمر القادم مصير عدد من القيادات السابقة في العدالة والتنمية أو مستوى علاقة الحزب معهم، وفي مقدمتهم الرئيس السابق عبدالله غل ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو ورئيس البرلمان السابق بولند أرينتش وآخرين. حيث يتعرض هؤلاء منذ فترة إلى حملات في وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض وسائل الإعلم القريبة من الحزب، تتهمهم تارة بالانقلاب على اردوغان وطوراً بالرغبة في تأسيس حزب آخر وثالثة بالانتماء لتنظيم كولن.
ومما زاد الطين بلة أن زعيم المعارضة السابقة (بايكال) قد ذكر اسم غل كمرشح محتمل لجبهة رفض التعديل الدستوري (%48.6) في انتخابات الرئاسة 2019 في مواجهة اردوغان. أحدث الأمر لغطاً ودعت بعض القيادات الوسيطة في الحزب غل لتبيان موقفه من هذا الترشيح المبدئي، بل ويبدو أنه لاقى صدى لدى الرئيس اردوغان الذي تحدث قريباً عن ضرورة أن يستمر "رفاق الدرب حتى القبر وليس السوق فقط" وهو مثل تركي يشير إلى الوفاء والالتزام حتى النهاية، وأن بعض هؤلاء قد "نزل من القاطرة" وأنه لم يُرَ أن أحداً "أدار ظهره لهذه الحركة/الدعوة وأفلح"، وكأنه يقصد - ضمن من يقصد - الرئيس السابق غل. عقد الأخير مؤتمراً صحافياً مقتضباً يوم الجمعة ليقول إنه "لم يأخذ كلام بايكال على محمل الجد" (لكن دون أن يعلن أنه لن يترشح للرئاسة)، ولكنه أسِفَ "أن البعض فعل"، وعبر عن حزنه لأن "الحملات الممنهجة ضد بعض مؤسسي وقيادات الحزب" لم يتم إسكاتها حتى الآن.
وفق هذا المنظور، قد يكون المؤتمر القادم أيضاً محطة تحسم العلاقة مع هذه الأسماء تحديداً، سيما وأن بعض الصحف القريبة من دوائر الحزب الحاكم قد ذكرت أن كل النواب الحاليين والسابقين في الحزب مدعوون للمؤتمر إلا من أخرجوا منه بقرار و"أولئك الذين أداروا ظهرهم له". بينما تحدثت بعض التسريبات قبيل الاستفتاء أن الحزب ينتظر نتيجته ليبدأ حملة تطهير داخله من السياسيين الذين قد يكون لهم ارتباط بمنظمة كولن المصنفة على قوائم الإرهاب والمتهمة بتنفيذ المحاولة الانقلابية الفاشلة.
في الخلاصة، سيكون المؤتمر الاستثنائي للعدالة والتنمية الخطوة الأولى للأخير على طريق الإعداد لعام الانتخابات 2019، أولاً الانتخابات البلدية في آذار/مارس 2019 ثم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة في تشرين الثاني/نوفمبر 2019. وسيغص المؤتمر بحضوره وشكله وخطابه وتشكيلة القيادة الجديدة بالكثير الكثير من الدلالات المؤثرة في مسيرة الحزب وتركيا بالضرورة، وسيحمل بالتالي بين طياته "شيفرات" وملامح المرحلة القادمة للحزب (وتركيا) بقيادة اردوغان حتى نهاية 2019 أي سريان تطبيق النظام الرئاسي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس