سعيد الحاج - عربي 21
في الـ30 من آذار/ مارس الفائت، أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم عن انتهاء عملية "درع الفرات"، مختفظاً لبلاده بحق مكافحة "المنظمات الإرهابية" مستقبلاً في عمليات ستحمل أسماء مختلفة، ويبدو أن هذا ما سيحصل قريبا.
فوسائل الإعلام التركية تتحدث منذ أيام عن حشود عسكرية تركية على الحدود قرب كيليس المقابلة لعفرين في سوريا، كما أنه يندر أن يمر يوم مؤخراً دون أن تعلن القوات المسلحة التركية عن قصف مدفعي "رداً على قصف وحدات الحماية الكردية" من عفرين على مناطق سيطرة الجيش السوري الحر المدعوم تركياً.
بهذا المعنى، يتوفر لتركيا سبب مباشر للقيام بعملية عسكرية لإنهاء التهديد الذي تتعرض له قواتها (والقوات السورية الحليفة) في سوريا، لكن ثمة أسباب غير مباشرة أو حقيقية أهم في المعادلة.
فقد أطلقت أنقرة عملية درع الفرات في آب/ أغسطس 2016 لأسباب تتعلق بأمنها القومي، في مقدمتها مواجهة مشروع الدويلة الكردية على حدودها الجنوبية (وهي الأولوية الأولى لها في سوريا) وإبعاد خطر "داعش" عن حدودها ومدنها الحدودية (1). حققت هذه العملية خلال سبعة أشهر جملة من الأهداف التركية في مقدمتها منع التواصل الجغرافي بين "الكانتونات" الكردية في الشمال السوري وتأمين الحدود مع سوريا والسيطرة على مساحة جغرافية واسعة بالتعاون مع السوري الحر إضافة لعودة جزء من اللائجين إلى "الأراضي المحررة"، لكن فكرة "الممر الكردي" لم تنتهِ تماماً.
تنصلت واشنطن من تعهداتها بمغادرة قوات سوريا الديمقراطية - التي تشكل وحدات الحماية غالبيتها - منبج بعد إخراج داعش منها، وفضلت خوض معركة الرقة مع الفصائل الكردية ضاربة عرض الحائط بتحفظات أنقرة وخططها البديلة المقترحة للمعركة، الأمر الذي أدى إلى استلام تلك الفصائل أسلحة ثقيلة منها وسيؤدي بطبيعة الحال لزيادة شرعيتها السياسية في المشهد السوري وربما الإقليمي الآن ولاحقاً.
الآن، يملك الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وهو الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني الذي يخضو حرباً انفصالية ضد تركيا منذ 1984، قوة عسكرية كبيرة أشبه بجيش نظامي ويسيطر على مناطق جغرافية واسعة ويعتبر "شريكاً" للولايات المتحدة والتحالف الدولي في حرب "مكافحة الإرهاب"، وقريباً جداً قد تفقد أنقرة قدرتها على وضع "فيتو" على مشاركته في العملية السياسية للحل في سوريا، بما يعني أن مشروع الفيدرالية أو الدويلة الكردية ما زال قابلاً للتفعيل والتحقق ولو على المدى المتوسط أو البعيد، وهو ما ترى فيه أنقرة - مرة أخرى - خطراً حقيقياً على أمنها القوي ومصالحها الحيوية في الداخل والخارج.
هذه الصورة كانت شبه واضحة في ذهن صانع القرار التركي وهو يعلن انتهاء عملية درع الفرات تاركاً الباب موارباً على عمليات أخرى مستقلة أو مكملة لها لنفس الأسباب (2). اليوم، يبدو أن أسباباً أخرى قد أضيفت للسابقة لإنضاج قرار التدخل وتقريب موعده، أهمها:
أولاً، عفرين التي سيطر عليها الحزب في 2012 وأعلنها إدارة ذاتية أو كانتوناً في 2014 هي المنفذ الحيوي لأي كيان سياسي كردي مفترض نحو البحر المتوسط وبالتالي العلاقة مع الخارج والاستغناء قدر الإمكان عن تركيا، وهو أمر مؤثر في صياغة العلاقة بين تركيا والكيان الكردي المفترض، وبما يعني أن السيطرة عليها لا تقل أهمية عن منع التواصل الجغرافي الذي تم في درع الفرات.
ثانياً، تظهر إحصاءات أجهزة الأمن التركية أن تلك المنطقة هي الأنشط في تصدير الكادر البشري لحزب العمال بشقيه التركي والسوري مؤخراً.
ثالثاً، رصدت تركيا مؤخراً "مخيماً" أقامه مئات المسلحين الأكراد قرب اللاذقية على مشارف المتوسط للتدريب وإطلاق العمليات فضلاً عن موقعه المهم وفق ما ذكر في النقطة الأولى.
رابعاً، يأس أنقرة من المشاركة في عملية الرقة ومن التزام واشنطن في موضوع منبج، وبالتالي توجيه تركيزها إلى عفرين المفتقرة للحماية الأمريكية.
خامساً، التوافق التركي - الروسي على مناطق خفض التوتر التي يفترض أن يتعاونوا بخصوصها في إدلب تحديداً. وهو أمر مُحدِّد جداً للتوجهات التركية، باعتبار أن روسيا كانت الضامن والداعم للمنظمات الكردية في عفرين، وأنها لم تعد تنظر بنفس الأهمية لهذه الميلشيات بعد أن قطع التعاون بينها وبين أنقرة شوطاً مهماً في سوريا (عمّقت موسكو العلاقة معها بعيد إسقاط المقاتلة الروسية)، مما يعني أن الخطوة التركية المنتظرة في عفرين قد تكون جزءاً من خطة أكبر. هنا، تحمل زيارة وزير الدفاع الروسي إلى أنقرة واجتماعه بأردوغان والمسؤولين الأتراك خلال الساعات الماضية دلالة واضحة، بينما تبقى الدلالة الأهم هي رحيل بعض القوات الروسية عن عفرين وفق بعض التقارير غير المؤكدة.
سادساً، صدور تصريحات أمريكية حول استمرار الدعم المقدّم للمنظمات الكردية حتى بعد معركة الرقة المحتدمة حالياً، بما يعني أن خطر تلك المنظمات سيزداد بعدها بشكل ملحوظ، وبالتالي قد يكون انشغالها وانشغال واشنطن بمعركة الرقة الفرصة المواتية فعلاً (والأخيرة؟) للانتهاء من ملف عفرين.
ليس هناك سر حول الأمر. فالحشود التركية اكبر من أن تخفى، ووحدات الحماية على دراية بالخطة التركية لدرجة أنها حاولت ابتزاز واشنطن مهددة بوقف القتال في الرقة إن لم تمنع واشنطن أنقرة من إطلاق العملية، مما دفع بالمبعوث الأمريكي للتحالف الدولي ضد داعش بريت ماكغورك إلى زيارة تركيا في 30 حزيران/ يونيو الفائت بعد يومين من زيارته للرقة دون الخروج بنتائج واضحة للزيارة بخصوص العملية المفترضة.
أكثر من ذلك يبدو أن الخطة التركية قد اكتملت وتنتظر فقط ساعة الصفر، بل وقد اطلق عليها اسم "سيف الفرات" وفق الإعلام التركي بما يشير إلى ارتباطها العضوي بعملية درع الفرات من جهة وربما صفتها الهجومية المختلفة عن الصفة الدفاعية للعملية الأولى من جهة أخرى. في هذا الإطار قد لا تكون المناوشات المستمرة بين القوات المسلحة التركية والمنظمات الكردية على مدى الأيام الماضية مجرد ردود تركية ضمن "قواعد الاشتباك" كما تقول أنقرة وإنما الإرهاصات الأولى للعملية الوشيكة.
ويبدو أن أنقرة تنظر لمناطق سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي من منظورين وبالتالي تقسّم العملية إلى مرحلتين، الأولى والأكثر أهمية هي المناطق التي سيطر عليها الأخير خلال عملية درع الفرات بدعم روسي (وتحديداً تل رفعت ومارع) وبالتالي ستكون البداية من مطار منغ العسكري. والثانية هي مناطق سيطرة الحزب في قلب عفرين، والتي لا تبدو أولوية في نظر أنقرة، وبالتالي يمكن تأجيلها أو حتى الاستغناء عنها تماما.
تريد تركيا من العملية كسر قوة الحزب في عفرين، ومنع أي خطر قد يأتي منها على حدودها وداخلها، والحيلولة دون وصوله لسواحل المتوسط وسيطرته هناك، ولكن ثمة فائدة لا تقل عن كل ذلك أهمية. فبالنظر إلى الخرائط، ستكون سيطرة القوات التركية ومجموعات الجيش السوري الحر على تلك المناطق فرصة لوصل ريف حلب بريف إدلب وتوسيع مناطق سيطرة الأخير وعمله، وهو تفصيل له أهميته الاستثنائية المرتبطة بخطة أنقرة المشتركة مع موسكو بخصوص إدلب.
وفي ظل التعاون الروسي مع تركيا وانشغال واشنطن (والمنظمات الكردية) بمعركة الرقة وعدم قدرتها على منع هذا السيناريو، سيكون من المفروغ منه تحقيق أنقرة جزءاً مهماً مما تريده من أهداف "سيف الفرات" المفترضة في وقت قصير نسبياً، ويمكن توقع حرصها على سير العمليات بوتيرة أسرع مما تم في درع الفرات، ولعل للفارق بين التسميتين ("درع" في مقابل "سيف") إشارات دالة في هذا السياق. فيما يبقى هناك احتمال ضئيل بإلغاء العملية أو إلغائها في حال حصلت تركيا من خلال الضغط والتلويح بها على ما تريده من واشنطن بخصوص الملف الكردي تحديداً، وهو أمر مستبعد وفق المعطيات الحالية بكل الأحوال.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس