سعيد الحاج - المعهد المصري للدراسات
بعد أكثر من عشرة أيام على اندلاعها، ما زالت الأزمة الخليجية تتفاقم وإن بدا أنها وصلت إلى ذروة التوتر، وتستمر معها الجهود العربية والإقليمية والدولية لحلها، ومن ضمنها المساعي التركية.
وفي استقراء لمجمل المواقف والتصريحات والإجراءات التركية منذ اليوم الأول للأزمة، يمكن ملاحظة أن المقاربة التركية إزاءها تقوم على أربعة محددات رئيسة، هي:
الأول، ضرورة انتهاج الحل السياسي الدبلوماسي والبعد عن التصعيد، وهو صلب الخطاب التركي. بل إن خطوة تصويت البرلمان على نشر قوات عسكرية على الأراضي القطرية هدفت برأينا إلى إيصال رسالة "ردع" سريعة للحيلولة دون أي سيناريوهات كارثية.
الثاني، الحياد الإيجابي، بمعنى الوقوف إلى جانب قطر ولكن دون استعداء الطرف الآخر، سيما السعودية.
الثالث، التأكيد على الوساطة الكويتية ودعمها وعدم طرح أنقرة نفسها بديلاً عنها، بل كطرف مساعد ومكمل لها.
الرابع، عدم السماح بتشديد الحصار على قطر وحصارها سياسياً واقتصادياً، ومن هنا كان الجسر الجوي الذي أنشأته أنقرة لإيصال المواد الغذائية.
لا تفعل أنقرة ذلك بسبب علاقاتها المميزة مع قطر وسابق مواقف الأخيرة إلى جانبها وحسب، ولكن أيضاً لأنها ترى الكثير من المشتركات بينها وبين الدوحة على صعيد الاتهامات الموجهة للأخيرة، سيما العلاقة مع حركات الإسلامي السياسي والمقاومة الفلسطينية وفصائل المعارضة السورية المسلحة، وبالتالي ستكون مستهدفة كذلك بعد الدوحة إذا ما تركتها لوحدها.
لا تبدو هذه المقاربة مبالغاً بها أو بعيدة عن أسباب الأزمة الأخيرة، حيث أظهر عامل المفاجأة فيها ومستوى الإجراءات عالية السقف منذ اللحظة الأولى أنها مختلفة عن سابقاتها (سيما أزمة سحب السفراء في 2014) في الأهداف والنتائج المرجوة من قبل "محور المقاطعة".
صحيح أن من بين الأسباب المهمة للموقف السعودي -الإماراتي الحاد فكرة التنافس مع قطر في الإقليم وسياقات ترتيب البيت الداخلي في الرياض، إلا أن السبب الأهم يتبدى في سياسة قطر الخارجية وموقفها من المتغيرات في المنطقة سيما الثورات العربية (وبالتالي العلاقة مع الإخوان وحماس وغيرهما)، وهو ما دفعنا لأن نقول منذ البداية إن الأزمة تثبت أن محور " الاعتدال" العربي يعيد ترتيب أوراقه ويريد حسم الملفات في المنطقة بشكل نهائي مستثمراً "لحظة ترمب".
بهذا المعنى، فمفاعيل الأزمة عربية -إقليمية تستحث الدعم الخارجي -الأمريكي وتعوّل عليه. وبهذا السياق فمن المنطقي أن ترى أنقرة نفسها مستهدفة كما الدوحة، بعدها أو معها أو ربما قبلها (في محاولة الانقلاب الفاشلة). ولهذه السردية بعض الأسباب والسياقات والدوافع والتجليات التي يجدر الإحاطة بها، وأهمها:
أولاً، تشارك كل من تركيا وقطر في نظرة التقييم والمواقف السياسية إزاء معظم قضايا المنطقة وملفاتها كما سبق ذكره، وهو ما يعني أن مسوغات اتهام الأولى هي نفسها مسوغات اتهام الثانية إذا ما توفرت الإرادة السياسية لذلك، وهو ما حاول السيسي الدفع باتجاهه بينما ما تزال الرياض صامتة.
ثانياً، أن عدداً من الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في "قائمة الإرهاب" الخليجية الثلاثية إما مقيمون في تركيا أو يترددون عليها كثيراً، وهو ما قد يفتح باباً للضغط على تركيا متى ما اتخذ القرار.
ثالثاً، إذا ما وصل طرفا الأزمة الحالية إلى حل ما يقضي بمغادرة بعض الشخصيات للدوحة، على غرار اتفاق 2014، فإن جزءاً منهم على الأقل سيتوجه لتركيا باعتبارها من الدول النادرة المتاحة لهم، وهو ما سيعني أنها يمكن أن تقع تحت تهمة توفير الإيواء والدعم لـ "إرهابيين" مسجلين في قوائم رسمية لتلك الدول، وفق السردية التي يمكن أن تـُفعّل متى أريد ذلك.
رابعاً، في حال استسلمت قطر للمحور الخليجي الثلاثي المدعوم من مصر السيسي فإن تركيا ستبقى لوحدها، وبالتالي أضعفَ من ذي قبل بكثير، باعتبار أن تعاون الجانبين في الكثير من القضايا والملفات قد زاد من قدرتهما على الصمود والمواجهة، ولعل الانقلاب الفاشل في تركيا من أمثلة ذلك التعاون والتضامن.
خامساً، إن تطور الأحداث غير مضمون، وإن بدا اليوم أن خيارات التصعيد والمواجهة العسكرية أو تشجيع انقلاب داخلي في قطر قد تضاءلت فرصها إلا أنها غير معدومة تماماً، كما أن سيناريو التدويل يبقى مفتوحاً على الممكن أو على الأقل مرغوب به كما نفهم من فكرة "قائمة الإرهاب". ولعل التصعيد الإعلامي في الساعات الأخيرة يشي بتأزم الموقف وتفاقمه وليس بحلحلته.
سادساً، تلقى سردية الاستهداف لتركيا وقطر معاً قبولاً لدى بعض السياسيين وعدد كبير من الكتاب والصحافيين الأتراك. فقد وردت جملة "القول لقطر واسمعي يا تركيا"، في محاكاة للمثل العربي/التركي، على لسان أحد قيادات المعارضة التركية، كما كانت نفس الجملة وبنفس الكلمات والأحرف عنوان ثلاثة مقالات لثلاثة كتاب أتراك هم عبد الرحمن ديليباك وأحمد تاشغاتيران ويوسف كاراجا. كما كتب مراسل صحيفة "خبر تورك" في واشنطن سيردار تورغوت أكثر من مقال بهذا الاتجاه أحدها بعنوان "هل تركيا هي هدف واشنطن القادم؟".
سابعاً، مايكل روبن، المسؤول السابق في الكونغرس و"الباحث" الذي كتب عن انقلاب تركيا قبله بأشهر والمعروف بحدة كتاباته تركيا واردوغان، كتب البارحة تغريدة من أربع كلمات تقول "اليوم قطر، غداً تركيا؟"، فيما دعت مصر علانية لحصار أنقرة مع الدوحة لنفس الأسباب.
ثامناً، اتهام تركيا بدعم الإرهاب ليس شيئاً غير مألوف، فقد سبق إليه سياسيون وإعلاميون أمريكان خلال السنوات الماضية بل ونشرت نيويورك تايمز صورة لاردوغان وداود أوغلو وهما خارجَيْن من أحد المساجد مدعية أنه اجتماع لهما مع "داعش"، وشاركت روسيا في هذه السردية (خصوصاً ادعاء شراء النفط من داعش) خلال أشهر الأزمة مع أنقرة.
تاسعاً، ليست العلاقات التركية -الأمريكية في أفضل حالاتها منذ أشهر طويلة، لأسباب عدة أهمها الدعم الأمريكي للفصائل الكردية المسلحة في سوريا وعدم تسليم فتح الله كولن لتركيا، لكن يبدو أن الجو العام في واشنطن بخصوص تركيا يميل تدريجياً ضدها بشكل واضح. وليس أدل على ذلك من قرار مجلس النواب الأمريكي في السادس من الشهر الجاري لإدانة "تعدي" حرس الرئيس التركي على متظاهرين أكراد خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن، والذي وافق عليه كل الأعضاء الـ 397 الحاضرين دون معارضة ولو عضو واحد بما فيهم الأعضاء الـ 160 "للتجمع التركي" الداعم لتركيا في المجلس، كما يشير تورغوت في مقاله.
عاشراً، قدم عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي في نهايات الشهر الفائت مشروع قرار "فرض عقوبات على داعمي الإرهاب الفلسطيني" كما أسمته استهدافاً لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وداعميهم سيما قطر وإيران (نصاً) وتركيا (ضمناً)، والذي إن صدر واعتمد سيكون عنصر ضغط كبير جداً على المقاومة الفلسطينية كما على الدول التي تحتفظ بعلاقة جيدة معهم على حد سواء.
أحد عشر، ويبدو أن التحركات التركية التي حرصت أنقرة على التأكيد أنها لا تستهدف أو تستعدي أحداً قد أزعجت بعض الأطراف الخليجية، الأمر الذي فتح باباً لهم على أكراد سوريا نكاية بأنقرة. تستضيف وسائل إعلام سعودية بالدرجة الأولى قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا مؤخراً لتوجيه تهم لتركيا من مستوى "إبادة" الكرد، في تصعيد إعلامي ضمني لكن واضح ضد أنقرة.
ولا يبدو أن الأمر مقتصر على الضغط الإعلامي في هذا الملف بالغ الحساسية بالنسبة لأنقرة، فقد أوردت صحيفة "يني شفق" المقربة من العدالة والتنمية قبل يومين خبر اجتماع عقد شمال غرب سوريا (الكانتون الكردي الغربي) "بترتيب من واشنطن والرياض" للاتفاق حول نفط مناطق الأكراد في سوريا، حضره إلى جانب حزب الاتحاد الديمقراطي ممثلون عن الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر.
في الخلاصة، ثمة الكثير من الاعتبارات السابقة والتطورات التي حدثت خلال الأيام والأسابيع القليلة الأخيرة تعضد سردية استهداف كل من قطر وتركيا، وتؤكد أن الأزمة الحالية أكبر من مجرد مشكلة خليجية -خليجية كسابقاتها، وهو ما يسند موقف التضامن التركي مع قطر ويحرّك الدبلوماسية التركية بشكل فاعل وملحوظ.
ولئن كانت هذه مجرد إشارات وقرائن لا تفيد بحتمية تلك السيناريوهات بالتأكيد، إلا أنها تفتح باب الأسئلة على خيارات المستقبل وسيناريوهاته وإمكانية استهداف تركيا فعلاً لا قولاً، فضلاً عن موقف أنقرة المتوقع في حال قدِّر للأزمة أن تستمر وتتفاقم وتتعقد أكثر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس