د. سمير صالحة - العربي الجديد
يلتقي ما قالته، أخيرا، القيادات التركية على أعلى المستويات عند نقطتين أساسيتين: التوتر التركي الأميركي في ذروته، وتركيا تصر على عملية عسكرية جديدة في شمال سورية في المثلث الرابط بين منبج وعفرين وتل رفعت.
ستكون "سيف الفرات" في العلن عملية عسكرية، بغرض قطع الطريق على مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، في ربط الكانتونات الكردية في شمال سورية بين القامشلي وعفرين ببعضها بعضا، لكنها أيضا رسالة ردٍّ على تخلي واشنطن عن تعهداتها لتركيا بسحب الوحدات الكردية إلى شرق الفرات، استجابةً لطلب أميركيٍّ بالبقاء في منبج، وتحت حماية الأعلام الأميركية.
لكن، بين الأهداف غير المعلنة للعملية إنجاز خطة مناطق تخفيف التوتر المتفق عليها روسياً وإيرانياً وتركياً، وتحديدا القسم المتعلق منها بمنطقة إدلب، والهادف إلى انتشار عسكري تركي، بالتنسيق مع روسيا، توفر لتركيا البقعة الجغرافية الواسعة التي تريدها في إطار المنطقة الآمنة التي تسهل عودة آلاف اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، وتخفيف أعباء تركيا المادية واللوجستية في هذا الملف، وتولي إدارة شؤونها مع المعارضة السورية وموسكو في إطار اتفاقيات أستانة.
تهدف العملية العسكرية التركية كذلك إلى تكريس التعاون العسكري والاستراتيجي التركي الروسي الذي عاد إلى سابق عهده، بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية قبل عامين، وبدأ يأخذ تدريجيا منحى اصطفافاتٍ إقليمية، حيث تجاوز التنسيق ملف الأزمة السورية إلى مشروع نقل الطاقة الروسية عبر تركيا إلى أوروبا، بل وصل إلى درجة التفاهم العسكري الذي يقلق الغرب، ويهدّد علاقات تركيا وتحالفاتها، وتحديدا مع شريكها الأطلسي، من خلال عملية التوافق على بيع منظومة "إس 400"، الصاروخية الدفاعية لأنقرة.
ناهيك عن أن التحرّك العسكري التركي لا يمكن فصله إطلاقا عن التوتر التركي الأميركي الذي اندلع قبل عامين، بسبب التباعد في تحديد المواقف والسياسات حيال قضايا ثنائية وإقليمية، في مقدمها الموقف من أكراد شمال سورية. لم يتردد وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، أكثر من مرة، في التعبير عن قلقه من التقارب التركي الروسي، وتأكيده أن أهداف الإدارة الأميركية تقوم "على عدم تعقيد العلاقات مع تركيا بشكل أكبر، والعمل على إيجاد سبل لإعادة الانخراط بين الجانبين، وتعزيز العلاقات التركية الأميركية"، لكن معطيات كثيرة تقول إن الأمور تتقدم باتجاهٍ آخر، سواء بسبب الموقف الأميركي في عملية الرقة وشكل عودتها السياسية والعسكرية إلى سورية، وتذكيرها الدائم لحكومة العدالة والتنمية أنها ترصد، عن قرب، مسار الداخل التركي السياسي والاجتماعي والدستوري. هذا إلى جانب أن أنقرة تريد توجيه رسائل جديدة إلى واشنطن أنها ستبدل من نظرتها إلى إيران في المنطقة، كلما شعرت أن الإدارة الأميركية تتحرّك باتجاه تهديد مصالح تركيا الإقليمية، وهو مؤشر آخر على اقتراب الانفجار التركي الأميركي، بسبب خيارات تركيا الهادفة إلى موازنة علاقاتها في المنطقة.
قدوم بريت ماكغورك، منسق عمليات الحرب على "داعش" باسم البيت الأبيض، إلى أنقرة من شمال سورية، حيث كان في زيارة دعم تفقدية لمواقع قوات سوريا الديمقراطية، رسالة أميركية واضحة للأتراك أن لا تغيير في المواقف والسياسات الأميركية حيال تركيا. الاتصال الهاتفي المباشر بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والأميركي دونالد ترامب، تلاه على الفور اتصال هاتفي آخر بين أردوغان والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهي مدلولات تفيد بأن مشكلة تركيا الأهم تبقى في محاولة مفاوضة واشنطن وموسكو معا على ملفاتٍ قد تعرّضها للبقاء خارج المعادلات، إذا ما أخطأت في الحسابات والتنفيذ.
طبول الحرب في شمال سورية رسالة تركية باتجاه استكمال المواجهة المؤجلة مع زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، فهل تسمح واشنطن بذلك، أم أن الدخول الروسي المباشر على خط التوتر التركي الأميركي هو الذي أقنع الطرفين بالتخلي عن التصعيد، بسبب ما يقوله ويريده حزب الاتحاد الديمقراطي، وإرجاء المنازلة إلى موعد ومكان آخرين.
تريد تركيا الرهان على موسكو، لكنها لا تريد إغضاب واشنطن شريكها الاستراتيجي المفترض. تريد كذلك لعب الورقة الإيرانية، لكنها لا تريد خسارة حلفائها المحليين في سورية.
الرد الأميركي الذي يقلق لاعبين محليين وإقليميين كثيرين، بينهم تركيا طبعا، هو أن قوات سوريا الديمقراطية تسيطر على 40 ألف كلم من الأراضي السورية و65% من المناطق الحدودية المشتركة بين سورية وتركيا، وتواصل التقدم والانتشار في أهم المناطق الاستراتيجية السورية في مصادر الطاقة. وفي مقابل السيناريو العسكري التركي، هناك سيناريو سياسي آخر جديد متعدد الأبعاد، بدأ يظهر:
- النفوذ الأميركي في العمق السوري يقول إن القوات الأميركية باقية، وإن التوازنات السورية الجديدة ستكون عبر نقاش أميركي روسي مباشر، وإن حصة الأكراد في سورية محفوظة.
- إذا ما حصلت أنقرة على ما تريده في شمال سورية استكمالا لعملية درع الفرات، وأنجزت بالتفاهم مع موسكو التي كانت مهمتها التفاوض مع واشنطن في قمة العشرين على منطقة أمنية أميركية أردنية في الجنوب، فهي لن تحرّك "سيف الفرات" ضد وحدات صالح مسلم في شمال غربي سورية.
- سيكون المشروع الجديد امتدادا للتفاهم الثلاثي الروسي التركي الإيراني، في لقاءات أستانة، لكنه سيكون أيضا بمثابة خطوة سياسية - عسكرية جديدة في مسار الأزمة السورية، عبر إنشاء آلية جديدة لإدارة المرحلة المقبلة بإشراف الضامنيْن، الروسي والأميركي.
- بناء على التفاهمات الجديدة، ستكون أميركا أكثر انخراطا في الملف السوري ومرحلة ما بعد "داعش"، وهي ستفاوض باسم قوات سوريا الديمقراطية وإسرائيل، وقبل كل شيء من أجل حماية مصالحها هي المتراجعة في سورية، بغرض قطع الطريق على التمدّد الروسي والإيراني والتركي، والتحضير لمرحلة انتقالية سياسية ودستورية، تتفاهم عليها مع موسكو مباشرة من دون وسطاء أو وكلاء. قد تكون ميزة المرحلة المقبلة بناء ساحة مفاوضات أميركية روسية خارج "جنيف" و"أستانة"، تبدأ بمشروع التهدئة ومناطق تخفيض التوتر، ثم تتبعها المساومة على مستقبل سورية، إما باتجاه التقسيم أو صناعة مشهد سياسي دستوري جديد في إطار توازنات ومساومات وحسابات محلية وإقليمية متداخلة.
- إعلان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن الولايات المتحدة وروسيا اتفقتا على مذكرة تفاهم لإقامة منطقة خفض تصعيد في درعا والقنيطرة والسويداء، يعكس احتمال إشعال الضوء الأخضر الأميركي أمام العملية العسكرية التركية في شمال غربي سورية، وأن أميركا قد تقبل "سيف الفرات"، إذا ما نجحت في التفاهم مع موسكو وأنقرة على ما تقوله وتريده في الجنوب، وتحديدا في الجولان، حيث تتصلب إسرائيل بتعهد أميركي، يضمن إبعاد إيران وتركيا، ويخرج النظام السوري عسكريا وأمنيا من المنطقة، ويحولها إلى فرصة تمهد لاتفاقية سلام سوري إسرائيلي، تدرج في إطار خطة - صفقة بناء سورية الجديدة.
- قد ترضى تركيا بخطة مساوماتٍ من هذا النوع، تبعد شبح الكيان الكردي المستقل عن حدودها الجنوبية، وتفتح الطريق أمام تسوية سياسية تنهي الأزمة السورية التي تحمّلت أعباءها سنوات. لكن ما ستقوله وتفعله إيران مهم أيضا عندما تتأكد أن مشروعا من هذا النوع يستهدف مصالحها ونفوذها وما شيّدته وغامرت من أجله طوال سنوات الأزمة للإمساك والاحتفاظ بالورقة السورية القوية بيدها، ومحاولة بناء توازن إيراني عربي تركي، يبقيها لاعبا إقليميا مهما. لكن تحت الرقابة الأميركية الروسية، وعلى مسافة واحدة من بقية اللاعبين الإقليميين؟
- تهديدات صالح مسلم وقيادات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بتسليم مدينة عفرين إلى النظام السوري، "في حال لم تعمل روسيا والولايات المتحدة على وقف التلويحات التركية بعمل عسكري"، وقطع الطريق أمام تركيا في احتلال شبر من تراب سورية "هي رسالة الاستعداد للانتحار أمام خطة التوافق الأميركي الروسي التي ستعرقل المشروع الانفصالي الكردي الذي بنى حساباته على التناقضات المحلية والتباعد الإقليمي والدعم الأميركي الروسي له في شمال سورية. وستساعد مهمة عرّاب البيت الأبيض في سورية والعراق، بريت ماك غورك، في لقاء واشنطن المرتقب مع الحلفاء الأكراد على حسم قرار العملية العسكرية التركية، والضمانات التي ستقدمها الإدارة الأميركية لتركيا، باتجاه إقناعها بالتخلي عن المواجهة العسكرية في مثلث عفرين - تل رفعت - مينغ، وحل الأمور سياسيا في مقابل حماية مصالح صالح مسلم في شرق الفرات والحسكة ودير الزور. لن تسمح واشنطن لصالح مسلم باستخدام السلاح الذي قدمته له لمحاربة "داعش" ضد الحليف التركي، حتى ولو كانت المسألة دفاعا عن الأراضي السورية ضد "الاحتلال التركي".
سخرية القدر أن ما قاله الرئيس أردوغان، قبل عام، عند إعطاء إشارة الانطلاق في عملية "درع الفرات" بالتنسيق مع "الجيش السوري الحر" بأنه بين الأهداف إبعاد "داعش" ومَن يحاول لعب ورقته ضد تركيا، وإفشال مشروع حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في بناء كيان كردي مستقل على الحدود التركية السورية، والدفاع عن الجغرافيا السورية ووحدتها وتماسكها، يقوله صالح مسلم اليوم "دفاعا عن سورية والتصدّي للمحتلين". هل انتهى مشروع ربط الكانتونات الكردية في سورية بعضها ببعض؟ وهل قبلت واشنطن بمحاصرة "الشريك الكردي" في سورية؟
.. قد تتحول عملية "سيف الفرات" مناورة سياسية - عسكرية، تكون جزءا من صفقة تسوياتٍ سياسية وأمنية أميركية روسية ترضي الجميع.. تقريبا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس