ترك برس
منذ ثمانينات القرن الماضي، ظهر الحديثُ عن فكرة التصالح مع تاريخ تركيا الذي تعد الدولة العثمانية جزءًا عميقًا منه، وقد بدأ العملُ فعليًّا على مناقشة ذلك التاريخ، نشره وتوضيحه. وبالرغم من ذلك، فإن دواوين أبرز 100 شاعرٍ عثماني، لم تتم ترجمتها إلى اللغة التركية الحديثة، وإن أغرب ما يمكن سماعُه عن التاريخ العثماني من خلال الأبحاث التي تُدرّس في الجامعات التركية والجامعات الأجنبية، أن تاريخهم وحكاياتهم معقدة بدرجة لا تسمح بدراستها. لذا، لم تقدم الأبحاث الغربية نظرةً فاحصةً في قصص الحياة اليومية، والأعمال أو الأفكار الشخصية التي حملها علماءُ وشعراءُ ورجال الدولة العثمانية.
المؤرخ الشهير ألبير أورتايلي، وجد من خلال دراسته للتاريخ أن الشخصيات البارزة من الإمبراطورية العثمانية قد ظُلمت حين لم يتم تسليط الضوء الذي تستحقه عليها، ويعد راغب باشا، واحدًا من أهم تلك الشخصيات.
يقول ألبير: "كان الكبير راغب باشا معروفًا ومشهورًا بين كل من عاصره، وقد عُرف بمساهمته في إضفاء الطابع المؤسسي على المكتبة خلال العصر العثماني، ولكن للأسف، لم يتم الاحتفاء بإرثه العظيم". ويضيف: "يصادف الرابع والعشرون من شهر حزيران/ يونيو من كل عام، ذكرى وفاته، ولكن هل ترى أي شكلٍ من أشكال الاحتفاء به في ذلك اليوم؟!".
عندما نذكر الكبير راغب باشا، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان مكتبة راغب باشا الموجودة في منطقة "لاليلي" بإسطنبول، والتي لا تزال مغلقةً حتى اليوم بسبب الأضرار الناجمة عن زلزال مرمرة الذي وقع سنة 1999. ومنذ ذلك الحين تم نقل مجموعة الكتب والمخطوطات التي احتوتها المكتبةُ إلى مكتبة السليمانية، وتضم تلك المجموعةُ أكثر من 1200 مخطوطة و1700 كتاب قديم وقرابة 9000 كتاب جديد، الأمر الذي يجعلها كنزًا نادرًا تجدرُ المحافظةُ عليه.
رجلُ دولةٍ عظيم في عصر التحدي
وُلد راغب باشا سنة 1699، وكان بالفعل رجلًا من القرن الثامن عشر كما تبين لنا شخصيته وجهودُه السياسية، فضلًا عن شعره وأفكاره. كان راغب جادًّا وحذرًا، وقد لازمه الصبر والتحمل في كل جوانب وأزمات حياته، وبلا شك، كان الإيمانُ جزءًا هامًّا من معتقداته.
أظهر راغب باشا مهاراتٍ ممتازة في الدبلوماسية أثناء تفاعله مع القضايا التي تخصُّ إيران والنمسا وروسيا، وكان يتحدث عن البيروقراطية أينما وُجدت في الدولة العثمانية، إذ لم يمنعه شيءٌ عن قول الحقيقة في سبيل تحقيق الخير لأمته. وعلى الرغم من الثراء الذي شاع عنه، إلا أنه عاش حياة فقرٍ تتضح معالمها في الكثير من قصائده.
كان رجلًا محظوظًا من حيث الأسرة والتعليم، فقد عمل والده شوقي محمد أفندي كموظفٍ مدني في السجل العقاري، في وقت كان يقوم الاقتصاد العثماني فيه على الأرض والزراعة، مما جعل عمله في السجل العقاري أكثر أهمية.
ولد راغب بين رجال الدولة وعاش حياته بينهم، مما ساعده على الانغماس في السياسة وفهمها وتعلم كيفية التعامل مع مواقفها، وعاش عمره كلّه في الدولة العثمانية ومات فيها سنة 1763.
كان موهوبًا في العثور على حلولٍ ذكية للقضايا المقعدة. درس اللغتين العربية والفارسية وسار مسارَ المفكرين والكتاب العظماء، ومن ناحيةٍ أخرى، أصبح أمينًا للمحكمة العليا بعد فترة وجيزة من بدء خدمته المدنية، الأمر الذي أدخله إلى قلب الدولة العثمانية.
بدأ راغب بالتحرك نحو الدبلوماسية بعد الحرب الإيرانية سنة 1722، وتولّى مهمة تسجيل الأراضي المكتسبة من إيران ونقلها إلى سجلات دول الشرق، وشارك في المفاوضات مع إيران كسكرتير قبل أن يصبح أمين مجلس المحافظات لريفان سنة 124 نتيجةً لهذه الجهود.
انتزاع بغداد من يد نادر شاه
بعد أن أصبح راغب أمين صندوق بغداد عام 1730، أدار المفاوضات مع إيران حينما قام جيش نادر شاه بمحاصرة بغداد لثلاث سنوات، حيث استطاع حماية المدينة من خلال مساعدة القوات العثمانية لدخول أرضروم Erzurum وإنقاذ بغداد. تسلّم راغب مكافأةً كبيرة بعد ما قام به من أجل بغداد وتم تعيينه كأمين صندوقٍ للدولة العثمانية ونائب وزير الخارجية في أرضروم، ليصبح معاونًا للوزير الأكبر.
كان لراغب على الدوام مقعدٌ على طاولات المفاوضات التي تخص القضايا الكبرى كالحرب مع إيران وروسيا والنمسا، وعمل في وقتٍ لاحق نائبًا. كان الدبلوماسي المثالي الذي عمل لبضع سنواتٍ كأمين للشؤون الخارجية، كما حكم لمصر لبضع سنوات بعد أن قام بهزيمة سلطان المماليك الذي هزم الحاكم العثماني سابقًا واستولى على مصر إلى أن قام راغب باسترجاعها منه من خلال الإجراءات الجادة التي اتخذها. ولم يدم حكمُه طويلًا، فقد تم سحبه من مصر بسبب عدم التفاهم الذي حصل بينه وبين سكانها الذين لم يقبلوا بسياساته. ويذكر أنه هو الآخر لم يرغب بالاستمرار في حكمهم فآثر الانسحاب.
لم يتم الاستغناءُ عن حكمته وحنكته السياسية، فقد تمّ تعيينه حاكمًا لحلب وأصبح الوزير الأكبر سنة 1757، إلى أن توفي بعد أربع سنواتٍ فقط. وقد عُرفت تلك الفترة القصيرة التي تولى فيها الحكم باسم عصر الاعتدال والحكمة.
الاعتدالُ والحكمةُ في الشعر
كان شعرُه بمثابة صورة أخرى عن حياته، فما كتبه راغب وما عاشه ليسا مختلفين. الكلمة الواضحة والقوية هي السائدةُ في شعره، ويمكن القول إنه استفاد كثيرا من أساليب عملاقي الشعر: نفعي ويوسف نبي. ومع ذلك كان له أسلوبه الخاص في الشعر، وإن عددًا قليلًا من الشعراء امتلكوا الموهبة الشعرية التي امتلكها، فكان نجمُه ساطعًا وفريدًا في سماء الشعر العثماني في عصره.
كتب راغب باشا قصائده على أساس قوة الفكر بدلًا من الهوى، ولكن من يرغب بالإلمام جيدًا بشعره عليه أن يكون مطلعًا على لغته؛ فالكثير من الأقوال التي ذكرها في قصائده تبدو أمثالًا مُقتبسة، ولكنها في الحقيقة ترجع إلى راغب باشا نفسه.
جُمِعَت قصائد راغب باشا الكبير في مختاراتٍ بعد وفاته، ويمكن العثور على بعض قصائده في "مجلة راغب باشا" التي تحوي قصائد ومقالاتٍ مكتوبةً بثلاث لغاتٍ مختلفة، كما نشرت كتاباتٌ من المفاوضات الدبلوماسية التي قادها راغب باشا، وكذلك غزو بلغراد الذي شهده في كتابٍ خاص. وكان لديه أيضًا بعضُ الترجمات التي لم تكتمل، كرسالة بولس الرسول وكتاب عن الفلسفة العربية.
وتعد المكتبة التي أنشأها راغب باشا واحدةً من أبرز الإنجازات التي خلّفها وراءه، ومن المثير للاهتمام أنه لم يُدفن بالقرب من مسجدٍ كما جرت العادة، ولكنه دُفن في حديقة مكتبته الخاصة تكريمًا له وللعلم الذي لازمه طوال حياته.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!