د. سعيد الحاج - المعهد المصري للدراسات
إثر الكشف عن خطة التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة لإنشاء قوة حرس حدود تتكون من 30 ألفاً من قوات سوريا الديمقراطية التي تتشكل في معظمها من وحدات حماية الشعب، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، وضعت تركيا خطتها بإخراج الحزب من منطقة عفرين شمال غرب سوريا على سكة التفعيل.
وأكد الرئيس التركي بأن العملية العسكرية باتت وشيكة جداً، وأعلن مجلس الأمن القومي التركي عن تدابير ستتخذها تركيا لمنع “تأسيس ممر إرهابي وجيش إرهابي على مقربة من حدودها”، ولم تتوقف التعزيزات العسكرية التركية نحو الحدود مع سوريا، بما أوحى بأن ساعة الصفر للعملية العسكرية المرتقبة في عفرين قد اقتربت كثيراً.
تبحث هذه الورقة في الدوافع التركية للعملية المفترضة، وأهدافها، والتحديات الماثلة أمامها، ومواقف الأطراف الفاعلة في القضية السورية منها، والسيناريوهات المحتملة لها.
أولاً: المشروع الكردي في سوريا:
تأسس حزب الاتحاد الديمقراطي PYD عام 2003 بقرار من المؤتمر الأول لمجلس كردستان للحرية والديمقراطية (KADEK) ، واستفاد من تطورات الثورة السورية التي تجنب النظام في بداياتها مواجهته عسكرياً على حساب أولويات أخرى. بسط الحزب نفوذه على معظم مدن محافظة الحسكة ومنطقتي عفرين وعين العرب/كوباني في محافظة حلب إثر انسحاب الجيش منها، كما ملأت هيئات ومؤسسات مدنية مختلفة تدور في فلكه أو مقرّبة منه الفراغ الذي تركته المؤسسات الرسمية السورية التي انسحبت أيضاً من مختلف المدن.
في كانون الثاني/يناير 2014 أعلن الحزب بمشاركة عدد من الهيئات والمؤسسات والقوى السياسية مشروع “الإدارة الذاتية الديمقراطية” في المناطق التي يسيطر عليها من خلال ذراعه العسكرية قوات حماية الشعب (YPG) . وقدم الحزب نفسه كقوة سورية محلية قادرة على مواجهة تنظيم الدولة – داعش، وخاض ضدها معركة عين العرب/كوباني في النصف الثاني من 2014، ما أكسبه مشروعية دولية ووضعه في قلب الرؤية الأمريكية للقضية السورية، حيث اعتمدت عليه الإدارة الأمريكية بشكل رئيس في معركة الرقة وما بعدها.
اليوم، يملك الحزب إمكانات إعلان دولة أو إقليم يديره، إذ يتحكم في مناطق جغرافية واسعة وغنية بالثروات والمواد الأولية ويملك ذراعاً عسكرية باتت أشبه بجيش نظامي يعد بعشرات الآلاف ولديه خبرة عدة سنوات في إدارة تلك المناطق، فضلاً عن الغطاء الأمريكي سياسياً وعسكرياً.
وقد نسجت تركيا علاقات جيدة مع الحزب وحل رئيسه صالح مسلم ضيفاً عليها عدة مرات. لكن تسارع خطى مشروعه السياسي في شمال سوريا، وتأثير ذلك المباشر على الملف الكردي الداخلي في تركيا غيرا موقفها جذرياً. وساهمت تطورات الأزمة السورية وتجربة حزب الاتحاد الديمقراطي شمال سوريا، إضافة لتراجع حزب العدالة والتنمية في انتخابات حزيران/يونيو 2015 البرلمانية في نكوص حزب العمال الكردستاني PKK عن عملية التسوية واستئنافه العمل العسكري في تموز/يوليو 2015 ، وبدأ حالة مواجهة مع الدولة التركية ما زالت مستمرة حتى اليوم، وفي المقابل صنفت أنقرة حزب الاتحاد الديمقراطي كمنظمة إرهابية لعلاقته العضوية المباشرة مع حزب العمال الكردستاني ، ثم أصدرت مذكرة توقيف بحق صالح مسلم إثر اتهام الحزب بالضلوع في إحدى العمليات التفجيرية في تركيا .
لقد تبدل الموقف التركي من الأزمة السورية على مدى السنوات السابقة مراراً اعتماداً على ثلاثة عوامل، هي التطورات الميدانية في سوريا والمقاربة الدولية لأزمتها ومدى تماسك وقوة المشهد التركي الداخلي. اليوم، تبدو أولويات تركيا في القضية السورية ثلاثاً، وقف القتال تمهيداً للحل السياسي وتفادياً لاستمرار الاستنزاف ووحدة الأراضي السورية ومنع إنشاء دويلة على أساس عرقي (كردي) على حدودها الجنوبية.
وترى تركيا أن مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي بإنشاء دويلة أو حكم ذاتي على حدودها الجنوبية خطراً على أمنها القومي، للاعتبارات التالية:
1ـ أن الكيان السياسي المفترض سيكون حاجزاً جغرافياً وسياسياً بين تركيا من جهة وسوريا والعالم العربي من جهة أخرى.
2ـ أنه سيكون في الأغلب معادياً لتركيا في سياساته الخارجية.
3ـ أنه سيفعّل سيناريوهات التقسيم في المنطقة والتي يمكن أن تصل تأثيراتها على المدى البعيد لتركيا نفسها.
4ـ أنه قد يتحول، بفعل العلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني، إلى منطقة تدريب ومنصة إطلاق عمليات للأخير ضد تركيا، كما حصل في شمال العراق بعد حرب الخليج الثانية.
5ـ أن تطوراً كهذا سيكون له انعكاسات سلبية على الملف الكردي داخل تركيا، على صعيد رفع سقف المطالب وصعوبة العودة لعملية التسوية وتعقيد مسارها في حال العودة إليها.
وقد دفعت هذه الاعتبارات تركيا إلى التدخل العسكري المباشر في سوريا بعد سنوات من التحفظ عبر عملية درع الفرات في آب/أغسطس 2016، أي بعد شهر فقط من المحاولة الانقلابية الفاشلة وما حملته من انعكاسات سلبية على المؤسسة العسكرية التركية.
وقد وضعت أنقرة للعملية ثلاثة أهداف، هي مكافحة تنظيم الدولة – داعش وحماية الحدود التركية والمحافظة على وحدة الأراضي السورية، الأمر الذي يعني بشكل غير مباشر منع تأسيس الدويلة الكردية. وقد نجحت العملية فعلاً في منع التواصل الجغرافي بين الكانتونات الشرقية والغربية التي يسيطر عليها حزب الاتحاد وأذرعه العسكرية، وهو ما يشير له الرئيس التركي دائماً بعبارة “غرس خنجر في قلب” المشروع .
ثانياً: الأهداف والمراحل:
في نهاية آذار/مارس 2017، أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم عن نهاية عملية درع الفرات، محتفظاً لبلاده بحق القيام بعمليات عسكرية مشابهة في حال تعرض أمنها القومي أو حدودها للخطر. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، تحدثت وسائل الإعلام التركية أكثر من مرة عن عملية عسكرية وشيكة في عفرين على غرار درع الفرات، أطلق عليها اسم “سيف الفرات” .
إعلان التحالف الدولي عن نيته تشكيل قوة حرس حدود على طول الحدود السورية – العراقية تتكون من حوالي 30 ألفاً من قوات سوريا الديمقراطية التي تتكون غالبيتها العظمى من وحدات الحماية الكردية استثار ردة فعل حادة من أنقرة واستجلب تهديدات بسحق الوحدات الكردية وتحذير الولايات المتحدة من “دعم منظمة إرهابية” في مواجهة شريكها الاستراتيجي .
تواترت تصريحات الساسة الأتراك حول قرب عملية عسكرية في عفرين، وتحديد إطارها الزمني بأيام معدودة، وأرسلت تركيا تعزيزات عسكرية كبيرة بشكل يومي إلى الحدود، ما أوحى بأن ساعة الصفر للعملية قد اقتربت كثيراً. وفي العشرين من كانون الثاني/يناير الجاري أعلنت تركيا على لسان رئيسها اردوغان بدء العملية التي أطلقت عليها اسم “غصن الزيتون”، كما ذكر رئيس الوزراء بن علي يلدرم بأنها تتكون من أربع مراحل وتهدف لإنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كم .
لتركيا من العملية المفترضة عدة أهداف، تسعى إلى تحقيقها أو تحقيق بعضها، أهمها:
الأول، إنهاء سيطرة وحدات الحماية الكردية على منطقة عفرين بالكامل.
الثاني، إذا لم يمكن ذلك فتقليص مساحة نفوذها وحصرها في نطاق جغرافي أضيق.
الثالث، وأد فكرة التواصل الجغرافي بين كانتونات الجزيرة وعين العرب في الشرق وعفرين في الغرب بشكل نهائي.
الرابع، إنهاء إمكانية وصول مناطق النفوذ الكردي في سوريا إلى البحر المتوسط مستقبلاً، وبالتالي تصعيب فكرة إعلان كيان سياسي يحكمه حزب الاتحاد الديمقراطي أو بالحد الأدنى اضطراره لعلاقات جيدة مع تركيا لضمان التجارة والتصدير والتواصل مع العالم الخارجي عبرها.
الخامس، ضبط تهريب العناصر المسلحة من عفرين إلى تركيا عبر البحر المتوسط.
وبدأت القوات المسلحة التركية المراحل التمهيدية للعملية العسكرية في عفرين، أولاً عبر انتشارها في محافظة إدلب إثر اتفاق خفض التصعيد فيها ما سمح لها بحصار عفرين من الجنوب وضبط طرق تهريب المسلحين للمتوسط إلى حد ما ، ثم عبر القصف المدفعي المستمر بشكل شبه يومي مؤخراً نحو مقرات وحدات الحماية في عفرين بذريعة استفزازها للقوات التركية وعناصر الجيش السوري الحر.
لكن القرار التركي لا يرتبط فقط بالأهداف الموضوعة والتفاصيل الميدانية، بل يتأثر أيضاً بمواقف الأطراف المؤثرة في القضية السورية عموماً والملف الكردي على وجه الخصوص، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
ثالثاً: الموقف الأمريكي
سجل الدور الأمريكي في القضية السورية تراجعاً ملحوظاً على مدى السنوات القليلة الماضية أمام الدور الروسي. تراجع أمكن ربطه باستراتيجية الانسحاب المتدرج من الشرق الأوسط لصالح الاهتمام بالباسيفيك ، ولكن أيضاً برضى أمريكي عن الدور الروسي الذي يتكفل بالأهداف الكبرى التي وضعتها واشنطن وفي مقدمتها منع سيناريو الفوضى ومواجهة التنظيمات “الإرهابية” وضبط الوضع الميداني تمهيداً لعملية سياسية .
بنت واشنطن علاقة خاصة مع الفصائل الكردية المسلحة في سوريا، باعتبارها الحليف الميداني للتحالف الدولي في مواجهة تنظيم الدولة – داعش، وأعلنت في تشرين الأول/أكتوبر 2015 عن إنشاء قوات سوريا الديمقراطية بإضافة عناصر من الأقليات الاخرى في الشمال السوري للأغلبية المكونة من المقاتلين الأكراد، لمنح الوحدات شرعية إضافية وتجنب التحفظات التركية.
قدمت الولايات المتحدة الأمريكية لتركيا تعهدات سابقة بخروج قوات سوريا الديمقراطية من منبج بعد إخراج تنظيم الدولة منها لكن ذلك لم يحصل، بل بقيت القوات فيها بحماية أمريكية. كما كررت أكثر من مرة بأن تعاونها مع الفصائل الكردية في سوريا مؤقت ومحدد فقط بمواجهة داعش، لكنها استمرت في تسليحها وتدريبها حتى باتت أشبه بجيش نظامي وتعد بعشرات الآلاف .
ويبدو أن اقتراب المواجهة مع داعش من نهايتها دفع الولايات المتحدة لإعادة صياغة رؤيتها في سوريا – أو الإعلان عنها – باتجاه البقاء طويل الأمد على الأراضي السورية بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية لمنع عودة داعش وسيطرة الأسد وإيران على سوريا وفق ما أعلن وزير الخارجية الأمريكي ، إضافة لإعلان التحالف الدولي عن قوة حرس الحدود.
الإعلان الأمريكي خلط الأوراق في المشهد السوري من زاوية عدم تفرد روسيا بالميدان ومسار الحل، وأعاد واشنطن إلى قلب عملية اتخاذ القرار بخصوص سوريا بشكل واضح. يساعد واشنطن على ذلك امتلاكها لعدة قواعد عسكرية في مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية ، وأهمية منطقة شرق الفرات بالنسبة للدولة السورية ومستقبلها من حيث المساحة الجغرافية وعدد السكان والثورات الطبيعية ومواد الطاقة والثروة المائية. ولذلك فقد عارض خطوة إنشاء قوة حرس الحدود إضافة لتركيا كل من النظام السوري وإيران وروسيا ، بدعوى تهديدها وحدة الأراضي السورية.
ردة الفعل التركية على الموقف الأمريكي وخطة التحالف بشأن قوة حرس الحدود، بما شمل التصريحات والتعزيزات العسكرية والقصف، والحديث عن تجاوز الرد التركي عفرين إلى منبج وشرق الفرات ، أعقبها تراجع أمريكي على مستوى التصريحات، أولاً بنفي اهتمام التحالف بمنطقة عفرين ، وثانياً بالتراجع عن فكرة حرس الحدود . يحمل هذا “التراجع” الأمريكي أحد ثلاثة تفسيرات:
الأول، التنصل من وحدات الحماية وخذلانها، كما حصل مع البارزاني في استفتاء كردستان العراق، لكن ذلك احتمال ضعيف ولا شواهد حقيقية عليه، خصوصاً ان الولايات المتحدة غير متواجدة عسكرياً بشكل فعلي في عفرين التي تنشط فيها وحدات الحماية وليس قوات سوريا الديمقراطية.
الثاني، سحب الذرائع من تركيا لمحاولة ثنيها عن العملية العسكرية في عفرين، وهو المرجح.
الثالث، سيناريو توريط تركيا من خلال إيهامها بوجود ضوء أخضر أمريكي للعملية لتفاجأ لاحقاً، إما بمواقف سياسية أمريكية مختلفة، أو مقاومة غير متوقعة من وحدات الحماية في عفرين في ظل تقارير تحدثت عن مضادات للطائرات وصلتها من واشنطن ، أو بالتصادم مع روسيا المتواجدة ميدانياً في عفرين وما قد يترتب على ذلك من انعكاسات سلبية على التفهامات التركية – الروسية في سوريا.
رابعاً: الموقف الروسي:
كثفت أنقرة تواصلها واتصالاتها مع القيادة الروسية، وأوفدت رئيسي أركان الجيش وجهاز الاستخبارات إلى موسكو للتفاهم وجهاً لوجه على عملية عفرين ، دون أن يصدر عن موسكو أي موقف رسمي حول الخطة التركية.
لكن من المفيد الإشارة إلى أن موسكو لا تتفق مع أنقرة في موقفها من الملف الكردي في سوريا خصوصاً والمنطقة عموماً، إذ لا تصنف حزب العمال الكردستاني على قوائم الإرهاب، وافتتحت مكتباً لحزب الاتحاد الديمقراطي على أراضيها، وما زالت تصر على مشاركته في مؤتمر سوتشي للحوار الوطني رغم معارضة تركيا. كما أن روسيا لا تبدو متحمسة لأي نوع من المواجهات العسكرية في سوريا، في وقت تعمل هي فيه على وقف إطلاق نار شامل فيها يمهّد لحل سياسي وترى في العملية العسكرية في عفرين تشويشاً على مؤتمر سوتشي الذي توليه أهمية كبيرة.
وعليه، فمن المتوقع أن تشمل المحادثات ثم التفاهمات التركية – الروسية (إضافة لعفرين) الوضع في إدلب ومشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي في مؤتمر سوتشي ومجمل مسار الحل في سوريا، وسيحدد نتيجتَها مقدارُ المرونة التي سيبديها كل طرف – خصوصاً تركيا – إزاء هذه المواضيع. ما تسعى له روسيا هو دور تركي أكبر في “ضبط” الوضع في إدلب، والموافقة على مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي في مؤتمر سوتشي ولو تحت لافتة أخرى ومع ضمانات روسية بألا يؤدي ذلك إلى مسارات انفصالية أو خطوات تهدد الأمن القومي التركي، وهي مطالب لا يمكن الجزم بمدى قدرة أنقرة على إبداء المرونة إزاءها.
خامساً: تحديات وعقبات
تقف أمام العملية التركية العسكرية في عفرين تحديات رئيسة، أهمها:
1ـ غياب الغطاء الدولي كما كان في عملية درع الفرات التي رفعت شعار محاربة تنظيم الدولة، حيث لا تتفق واشنطن ولا موسكو مع أنقرة في تصنيف وحدات حماية الشعب على قوائم الإرهاب.
2ـ اختلاف الطبيعة الجغرافية وتضاريس عفرين عن مناطق درع الفرات بما يتسبب بصعوبات وتحديات لوجستية وميدانية.
3ـ قوة وعدد وتسليح وحدات الحماية الكردية.
4ـ الوجود العسكري الروسي في عفرين من خلال ضباط ونقاط/قواعد عسكرية.
5ـ التواصل الجغرافي بين عفرين ومناطق سيطرة النظام في الجنوب الشرقي، ما يفتح الباب على إمكانية تسليم المنطقة للنظام تجنباً للعملية التركية.
6ـ عدم ضمان موقف النظام السوري الذي هدد بإسقاط المقاتلات التركية إذا ما هاجمت عفرين .
لكن تركيا تدرك أن إطلاقها للعملية العسكرية ثم تحقيقها لأهدافها المرجوة منوط بقدرتها على إقناع روسيا بذلك، وأنها تحتاج للضوء الأخضر من موسكو قبلها، للأسباب التالية: الأول، التواجد العسكري الروسي المباشر في منطقة عفرين. الثاني، سيطرتها بشكل عام على الوضع الميداني والمجال الجوي في سوريا، وهو أمر حيوي بالنسبلة للطائرات التركية التي ستشارك في العملية المفترضة. الثالث، قدرتها على التأثير على النظام السوري وضبط ردات فعله. الرابع، التفاهمات التركية – الروسية في سوريا وحرص أنقرة على عدم الإضرار بها. الخامس، حاجة تركيا للتعاون مع روسيا لموازنة الدور والموقف الأمريكيين في سوريا، الآن وعلى المدى البعيد.
سادساً: السيناريوهات
وفق ما سبق تفصيله من دوافع وأهداف وتحديات، وبعد إعلان أنقرة عن بدء العملية ثم إتباع ذلك ببدء العملية البرية في اليوم التالي، وبالنظر لمواقف مختلف الأطراف، يمكن رصد سيناريوهين رئيسين لعملية “غصن الزيتون”:
الأول: عملية محدودة:
تتضمن قصفاً جوياً ومدفعياً ومشاركة بعض القوات الخاصة وتهدف بالأساس للسيطرة على محيط تل رفعت ومطار منغ، أي المناطق التي سيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي في نهايات عملية درع الفرات، والمهمة لتركيا عسكرياً بسبب ربطها بين ريفي حلب وإدلب. وهو هدف مهم ويمكن تطويره لاحقاً أو في مراحل أخرى تبني عليه في التضييق على وحدات الحماية في عفرين والضغط عليها.
هذا الخيار الذي نرجّحه يمكن أن يرضي مختلف الأطراف، فتكون تركيا قد نفذت تهديدها بعملية عسكرية في محيط عفرين وأرغمت وحدات الحماية على الانسحاب من مناطق مهمة، وتكون الوحدات قد تجنبت مواجهة عسكرية شاملة مع أنقرة، ولا يخسر النظام – ومن خلفه روسيا – منطقة عفرين كاملة لصالح تركيا، لكن ذلك سيتطلب ضمانات روسية لتركيا بخصوص المنطقة.
ثمة سيناريو فرعي لهذا السيناريو المرجّح قد يتم اللجوء له وهو إنهاء العملية خلال وقت سريع وقبل توغلها عميقاً في منطقة عفرين، وهو ما يتطابق مع الرغبة التركية بعملية سريعة، والرغبة الروسية بعدم التشويش على مؤتمر سوتشي بما يوحي باحتمال تغييرها لموقفها لاحقاً، ومواقف بعض الدول المعارضة للعملية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا وإيران ، والرغبة المشتركة لكل من النظام السوري ووحدات الحماية بمنع سيطرة تركيا والجيش السوري الحر على عفرين. ويقضي هذه السيناريو الفرعي المحتمل بصفقة تبرمها الوحدات مع النظام لتسليمه المدينة، تجنباً لمواجهة عسكرية شاملة مع أنقرة وسحباً للذرائع منها، وهو ما يمكن أن يلتقي ولو جزئياً مع الأهداف التركية بإنهاء سيطرة الوحدات على عفرين.
الثاني: عملية موسعة:
بمعنى عملية عسكرية هدفها الاجتثاث التام لوحدات الحماية من منطقة عفرين عبر عملية عسكرية متكاملة ومتعددة المراحل والأدوات، وفي ظل توافق مع موسكو عليها. وهو الخيار، المفضّل بالنسبة لتركيا، ضئيل الفرص في ظل موازين القوى ومواقف الأطراف المختلفة، وتوجس أنقرة من سيناريو التورط والاستنزاف، وحرص روسيا على التركيز على العملية السياسية، وانخفاض سقف المرونة التركية بخصوص مشاركة حزب الاتحاد في مؤتمر سوتشي، فضلاً عن التكلفة العسكرية والبشرية والاقتصادية المرتفعة لهذا الخيار.
خاتمة
تملك تركيا دوافع حقيقية لعملية عسكرية في عفرين لتقويض سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية وحدات حماية الشعب عليها، وبأولوية ثانوية منبج وشرق الفرات. وقد أقدمت على عدة خطوات عملياتية تندرج في إطار الاستعدادات الميدانية واللوجستية والإرهاصات الفعلية للعملية العسكرية من جهة والضغط لتعظيم المكاسب وتحسين الشروط وتأمين تراجع في مواقف بعض الاطراف من جهة أخرى.
والمرجح وفق المعطيات هو عملية محدودة تحقق إنجازات محددة بتكاليف بشرية واقتصادية متدنية، ويمكن أن تفتح الباب وفق التطورات الميدانية وتبدل المواقف على مراحل أخرى شبيهة بحالة التدرج في عملية درع الفرات، الآن أو لاحقاً. أما منبج ومنطقة شرق الفرات، فلا يبدو أن الإمكانات التركية تتيح لها التحرك عسكرياً نحوهما في ظل الوجود الأمريكي العسكري هناك والغطاء السياسي الممنوح من واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية هناك، مع أفضلية لمصلحة منبج التي تقع غرب الفرات وسبق للولايات المتحدة أن تعهدت بخروج قوات سوريا الديمقراطية منها، على عكس مناطق شرق الفرات.
وبكل الأحوال، فإن إعلان الولايات المتحدة عن استراتيجيتها بعيدة المدى في سوريا، بما يتضمن وجوداً عسكرياً مستداماً يعتمد أساساً على فكرة التحالف مع الفصائل الكردية المسلحة ودعمها، قد قارب بين مواقف كل من تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري إلى حد بعيد، وهو ما قد يساهم في ترسيخ التفاهمات بين تركيا وروسيا من جهة وتثبيت الإطار الثلاثي الذي يجمعهما مع إيران من جهة ثانية وإمكانية تحول ذلك على المدى البعيد إلى محور مواجه للولايات المتحدة في سوريا والمنطقة عموماً .
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس