ترك برس
نشرت صحيفةُ ديلي تلغراف البريطانية تقريرًا حول وفاة السلطان عبد الحميد الثاني في ذكرى وفاته المئوية في العاشر من شباط/ فبراير الجاري. ومن خلال التقرير، زورت الصحيفة التي تحظى بعددٍ كبيرٍ من القراء حول العالم حقائق حول عبد الحميد متجاهلةً الموضوعية في عملها، وذلك تزامنًا مع الفترة التي تحاول فيها تركيا تصحيح قراءة التاريخ فيما يخص أكثر الفترات والشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ التركي، والعثماني، والإسلامي، ومن بين أبرز تلك الشخصيات بلا شك، السلطان عبد الحميد الثاني.
وهذا بعضٌ من التزييف الذي ورد في التقرير، والردُّ التاريخي عليه:
- "عندما توفي السلطان كان من أغنى رجال العالم، ولأن ثروته بُنيت على انتهاكات السلطة، كان مُحقّرًا على نطاقٍ واسع"
كان السلطان عبد الحميد الثاني من أغنى الناس بالفعل، لكن السبب لم يكن انتهاكات السلطة المزعومة، فعبد الحميد قد جمع ثروته قبل أن يتولّى منصب الحكم. حينما كان أميرًا، كان يعمل في المزارع بخلاف الكثير من الأمراء، كما عمل في التجارة أيضًا، وتمكن بذلك من جمع ثروةٍ قام بإعطاء جزءٍ منها لخزينة الدولة حينما استلم الحكم. أنفق عبد الحميد على البلاد من ماله الخاص، وكان يصرفُ على نفسه من ماله أيضًا، واحتفظ بالبقية في حسابه البنكي في البنك العثماني آنذاك لكي يجد أولادُه الثمانية ما يقتاتون منه بعد وفاة والدهم.
ولكن وفي سنة حكمه الأخيرة، ظهرت تهديدات للسلطان لكي يتخلى عن المال المودع في حسابه البنكي لصالح حزب الاتحاد والترقي، في البداية رفض السلطان ذلك قائلًا: "أنا أبٌ لعائلةٍ كبيرة، وأودعتُ المال الذي ربحته في البنك ليأخذه عيالي وأولادي من بعدي، ولهذا السبب لن أعطيكم المال الذي أودعته في البنك". لم يقف المهددون متفرجين ولكن قاموا بتهديده بحبس بناته وعائلته واعتقالهم، الأمرُ الذي دفعه لتوقيع شيك وتسليمه لهم وإعطائهم بقية أمواله على أنها هدية.
تألم عبد الحميد ألمًا شديدًا، فولده عابد كان لا زال لم يبلغ السادسة بعد، والبعض من أولاده لم يكونوا قد وصلوا سن التعليم الجامعي بعد، وبما أن عبد الحميد كان متوقعًا النهاية المأساوية التي حصل عليها في ظل الخيانات التي أحاطت بالدولة من كافة الاتجاهات، كان المال في حسابه البنكي هو السبيل الوحيد ليحيا أولاده حياةً كريمةً من بعده، حينها قال لأولاده: "أولادي! إني حزينٌ جدًا لأنني لم أستطع تأمين مستقبل أي واحدٍ منكم، ماذا أفعل؟ هذا قدرُكم ونصيبُكم. وسيهتم الناسُ بكم بالتأكيد".
أما بالنسبة لخزينة الدولة التي تعد ملكًا خاصًا لعامة المسلمين ومن يعيش معهم، فقد استولى عليها المركز العمومي لحزب الاتحاد والترقي.
- "بما أنه لم يكن من المتوقع له أن ينجح في تولي الحكم بعد أبيه، سُمح له بالانغماس في مجموعةٍ من الاهتمامات مثل صناعة الأثاث والكتابة"
لم تكن الاهتماماتُ البعيدةُ عن الحكم أمرًا مقتصرًا على الأمراء الذين لم يُتوقع لهم أن يصبحوا حكامًا، بل كان للعديد من الحكام والأمراء العثمانيين اهتماماتٌ مختلفةٌ بعيدٌا عن سياسات الحكم. فمحمد الفاتح كان مهتمًّا بزراعة الورود والعناية بها، ويافوز سليم كان يكتب الشعر، ومحمود الأول كان يصنع الأواني الخشبية وقطع الزينة. إننا لا نذكر سلطانًا عثمانيًّا وصل إلى الحكم، إلا وكانت لديه اهتماماتٌ فنية أو ثقافية أو علمية أو أدبية.
- "ولكن حين افترض الكثيرون أنه سيكون ليبراليًّا مثل شقيقه، سرعان ما أبطل هذا المفهوم. تحت ضغوط الحكم خلال حرب كارثية مع روسيا، رفض عبد الحميد البرلمان الذي أنشأه في عام 1877 وعلق الدستور في عام 1878"
في تلك الفترة، أُخذ الكثيرون بالتغييرات الحاصلة في أوروبا ظانّين أنها المثال الأعلى لما يجب أن تكون الدولةُ عليه، وأن الإنسان الأوروبي هو الصورة لما يجب أن يكون الإنسان عليه. من أجل ذلك، دعا الكثيرون لتأسيس دستورٍ للدولة، وجاء الاتحاد والترقي بدستورٍ من صياغة الغرب ليكون شريعةً للإمبراطورية العثمانية.
كان عبد الحميد يرى أن الدستور الذي طُبق في دولةٍ ذات قوميةٍ واحدة لا يمكن أن ينجح في دولةٍ تجمع مختلف الثقافات والشعوب والأديان، فبريطانيا التي لا يوجد في برلمانها ممثلٌ للهند أو لمصر، ليست كالإمبراطورية التي كان فيها 43 ممثلًا نصرانيًّا من أصل 110 ممثلين للبرلمان، وبالتأكيد كان في البرلمان العثماني ممثلون من مختلف الأعراق والأجناس.
رأى عبدُ الحميد أن تطبيق الدستور الذي سيضع الجميع تحت مساواةٍ مطلقة، حيث سيحيا المسلم والنصراني واليهودي وغيرهم تحت قانونٍ واحد، من شأنه أن يخلق فوضى عارمةً في البلاد ستصل بلا شك إلى القتل. فعلى الرغم من الحكم المركزي، كان لكل ولايةٍ في الإمبراطورية استقلاليتها، بأحكامها التي تتناسب مع سكانها وجنسيتهم ودينهم وقوميتهم، وكان لكل صاحب دينٍ الحق في تطبيق قوانين دينه على جوانب الحياة باختلافها. ومن أجل الحفاظ على حق الشعوب في اختيار طريقة العيش التي بلا شك سيؤثر الدستورُ على كل تفاصيلها، رفض عبد الحميد إعلان الدستور.
وفي سنة 1908، أجبره الاتحاد والترقي على إعلانه. وبعد سنواتٍ من عزله صدقت نظريتُه حيث قال: "ماذا حصل بعد تطبيق المشروطية (أي الدستور)؟ هل انخفضت ديونُ الدولة؟ هل تحسن التعليم وأحرزنا تقدمًا؟"
وقد تم تطبيق الدستور بعدم رغبةٍ من الشعب الذي لم يفهم بالأصل ما هو الدستور، وفي ليلة إعلانه، خرج الناسُ إلى الشوارع ضاحكين باكين متسائلين: "لم أنتم سعيدون هكذا؟ ما هو الدستور الذي أنتم سعيدون من أجله؟"
- "كما أقام علاقات مع ألمانيا، وقدم تنازلات مثل بناء السكك الحديدية في الشرق الأوسط، وأنشأ التحالف الذي من شأنه أن يقود الإمبراطورية العثمانية إلى الهزيمة في الحرب العالمية الأولى"
لم تقم العلاقاتُ مع ألمانيا من فراغ، فعلى الرغم من معرفة عبد الحميد معرفةً تامةً بأن موالاة ألمانيا له موالاةٌ ظاهرية، قام باستغلال تلك الموالاة لصالحه مع الحذر الشديد. فمن جهةٍ كان العداء بين الدولة العثمانية وأوروبا في أوجه في ذلك الوقت، ومن جهةٍ أخرى كانت العلاقات بين ألمانيا وبقية الدول الأوروبية القوية علاقة عداءٍ أيضًا، من أجل ذلك كانت هناك مصالحُ مشتركةٌ بين الدولتين اللتين كانتا معرضتين لخطر الزوال.
لم يتنازل عبد الحميد عن السكة الحديدية لألمانيا. ولأن كلية الهندسة لم يكن قد مرَّ على افتتاحها سوى سبع سنوات، اضطرّ للاستعانة بالمهندس الألماني مايسنر ليشرف على المشروع، وأرسل أمرًا في استبعاده عندما وصل الخطُّ إلى مدائن صالح، لعدم رغبته في تواجد أيدٍ عاملة غير مسلمة بسبب التهديد الكبير الذي واجهته الدولةُ في ذلك الوقت. في المقابل شنّت الصحف الأوروبية حملةً شرسةً آنذاك من أجل تدمير المشروع، كما أرسلت بريطانيا جواسيسها بذلك الهدف بعد أن فشلت الدول الأوروبية في الحصول على جزءٍ من الخط من خلال تقديم البنوك الأوروبية قروضًا للدولة العثمانية على أن تملكهم أسهمًا فيه، حيث رفض عبد الحميد ذلك قائلًا إن المشروع ليس ملكًا له ولكن لجميع المسلمين.
أما عن دخول الحرب العالمية الأولى بعد ست سنواتٍ من عزل السلطان، فقد كان حزب الاتحاد والترقي المسؤول عن ذلك حينما قرر دخولها إلى جانب ألمانيا على الرغم من رفض غالبية الشعب لذلك، وعلى الرغم من معرفته التامة بالخسارة الحتمية للبلاد، إلا أن العملاء يفضلون في غالب الأحيان تدمير بلدانهم لتحقيق مصالح شخصية. وفي النهاية، قام البريطانيون بتفجير سكة حديد الحجاز على يد لورانس المعروف بـ(لورانس العرب).
- "إن سوء تعامله مع الخلافات بين الكرد والأرمن أدّت إلى مذبحةٍ للآلاف من الأرمن في تسعينيات القرن التاسع عشر"
منح السلطان عبد الحميد للأرمن كافة حقوقهم، فكانوا يدرسون في مدارسهم بلغتهم الخاصة، كما كانت لهم حريةٌ دينيةٌ في ممارسة طقوس عباداتهم. وأصدرت الدولةُ قرارًا بتعويض كل أرمني فقد آلة صناعية كانت مصدر رزقٍ له، وإحضار آلةٍ جديدة يعمل عليها، كما حفظت لهم كنائسهم وبيوتهم.
ولكن وبسبب تحريض الأوروبيين وخيانة بعض الأرمن، وبسبب الوعود التي منحتها أوروبا للأرمن ببناء دولةٍ خاصةٍ بهم، أقدم بعضُهم على خيانة الدولة، وشنّ بعضُهم معارك ضد المسلمين راح إثرها ضحايا من الطرفين.
وفي مطلع القرن العشرين، وبينما كان السلطان يجهز للمشروع الأضخم، سكة حديد الحجاز، كان عدد المتبرعين من الهند هو الأكبر من بين المتبرعين بالمال للمشروع، من أجل ذلك قام الأوروبيون بتشغيل بعض الأرمن لديهم كجواسيس على الدولة العثمانية لكي يمكنهم الوصول للمتبرعين الهنود، الأمر الذي من شأنه أن يسهل عملية تدميره على أيديهم.
وقد نشرنا في ترك برس ملفًّا خاصًّا يوضح الحقيقة بشأن ادّعاءات مذابح الأرمن.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!