د. وسيم بكراكي - خاص ترك برس
على الرغم من تراجع سعر صرف الليرة التركية في هذه الفترة الموازية لتاريخ الانتخابات المبكرة في تركيا، وعلى الرغم من مراهنات الكثير على تراجع الاقتصاد التركي وضعفه أمام ما يشهده من عاصفة قوية منظمة، إلا أن بوادر الانتعاش في اٌقتصاد التركي وعوامل القوة لديه بدأت تظهر تدريجياً في العديد من الخطوات الثابتة التي يقدمها نظام الحكم الحالي برئاسة رجب طيب أردوغان والتي تهدف إلى تعزيز مصادر القوة في الاقتصاد التركي لتصبح تركيا بشكل أكثر فاعلية دولة تحتل مكانتها بشكل قوي وفاعل بين الدول الاقتصادية المتميزة في العالم.
لن أسترسل في شرح المواد المتعلقة ولكني سأعمد إلى التعريج عليها على شكل رؤوس أقلام قد يحتاج كل منها إلى شرح تعمق.
إذن، بمتابعة بسيطة لما يتم إعلانه من مشاريع وإنجازات هذه الفترة يمكننا استخلاص النقاط التالية:
1- إن تركيا اليوم هي من الدول التي بدأت بشكل فعلي عملية التنقيب عن الغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط كما أنها تعلن بشكل متتالي عن آبار جديدة للبترول في العديد من المناطق التركية. وهو كما يبدو أمر ستزداد وتيرته كلما اقتربنا من العام 2023، السنة التي حددها رئيس الجمهورية التركي كتاريخ لتركيا القوية والتي لا يفتأ يتحدث عن أهداف هذه السنة تحديداً بل وتجاوزها إلى أهداف 2053 و2071 أيضاً...
2- هناك تركيز حكومي على موضوع الطاقة ومساعي تخفيف كلفتها على القطاع الصناعي بشكل خاص والمواطن بشكل عام، ومن أهم هذه العمليات التي بدأت الحكومة بتنفيذها بشكل متتالي هو مشروع قناة TANAP للغاز الطبيعي الذي تم افتتاحه وبدأ ضخ الغاز فيه منذ عدة أيام وهو المشروع الذي سيؤمن لتركيا غازاً طبيعيا أقل كلفة بالتأكيد عما هو عليه ويحعل منها ممراً آمناً لهذه الطاقة إلى كافة الدول الاوروبية... كما أن مشاريع إنتاج الطاقة عبر الطاقة الشمسية وسنترالات الطاقة الذرية أيضاً هي من المشاريع التي بدأت حيز التنفيذ وهو أمر سيجعل تركيا بالتأكيد أحد الدول المنتجة للطاقة الذرية بأهداف سلمية دون الدخول بعضالة العقوبات الدولية التي تشهدها الدول الأخرى المجاورة. مشاريع الطاقة هذه ستخلص الصناعة التركية من عبء التكلفة الباهظة التي تتكلفها اليوم وستعطي للمنتج التركي فرصة أكبر للمنافسة في السوق العالمي بكل تأكيد.
3- لم يعد خفياً على أحد بعد حرب تركيا على الفصائل الكردية مؤخراً ما وصلت إليه صناعاتها العسكرية الثقيلة من جودة ودقة في إصابة الأهداف. فتركيا في الصناعات العسكرية اليوم لم تعد تصنع السلاح الخفيف فحسب، بل أصبحت مصانعها العسكرية تقدم العديد من النماذج المهمة للسلاح العسكري الثقيل كالدبابات وطائرات الهليكوبتر مثل ATAK والطائرات الذكية بلا طيار IHA-SİHA والتي هي طائرات مراقبة وطائرات مهاجمة بلا طيار، كذلك أصبحت الدبابات التركية وشاحنات التوما الخاصة من بديهيات الصناعة العسكرية التركية اليوم. والتي تميزها جميعها أنها تصنع بتقنيات تركية بشكل كامل. بل إن خسارة تركيا لصفقة بيع الدبابات التركية للمملكة العربية السعودية بسبب فيتو ألمانيا بحجة أن محركات هذه الدبابات ألمانية الصنع حفز تركيا على تصنيع هذه المحركات محليا لتنتقل هذه الصناعة بشكل نوعي إلى اكتفاء ذاتي كامل حررها من أي نوع من أنواع الفيتو مستقبلاً. وهو الأمر الذي عبر عنه الطيب بقوله: رب ضارة نافعة.
4- منذ مدة طويلة يصر الرئيس أردوغان على إنتاج تركيا لسيارتها الخاصة انتاجاً محلياً كاملاً، وهو أمر يتابعه بشكل حثيث منذ تسلمه رئاسة الجمهورية. وقد قطعت تركيا شوطاً كبيراً في هذا الصدد بحيث أعلن أردوغان نفسه عن أن تصنيع هذه السيارة سيبدأ في العام 2019 وستبدأ في العام 2021 ببيعها في الأسواق التركية والعالمية بهذه الماركة التركية الجديدة التي ستشكل خفضاً كبيراً بعجز الصادرات أمام الواردات وبخاصة أن تركيا بدأت منذ الآن بزيادة الضرائب بنسبة 35% على بعض الماركات الأميريكة والألمانية للسيارات وبخاصة مارسيدس وبي إم وكافة أنواع السيارات الأميركية الأخرى كرد على ما وضعه ترامب من ضرائب وصعوبات أمام صادرات تركيا من الألومينيوم. وهو ما قامت به تركيا كرد ضمن مجموعة ضريبية شملت 20 صنف أميركي تم زيادة الضريبة عليه بشكل كبير...شكل السيارة التركية أصبح معروفاً والحديث هو بكونها إنتاج محلي بالكامل وأنها ستعمل على الكهرباء أي ستكون مواكبة للتطور العالمي أيضاً وليست نموذجاً من سيارات التوفاش الشهيرة قديماً... السيارة التركية سيتم عرضها في معرض جنيف للسيارات عام 2019. بل إن سعر المبيع قدر بحوالي 20 الف دولار وأن السيارة ستكون أيضاً بموديلات مختلفة كما صرح الوزير سويلو...
5- من أهم الأمور التي يتم تداولها أيضاً في المرحلة الحالية هو ما صرح به صهر الرئيس أردوغان وزير الطاقة بيرات ألبيراق حول معدن البور كاربور. فكما يبدو أن هذا الوزير قد أتم دراسة واضحة لتحويل هذا المعدن الذي تمتلك تركيا نسبة تصل إلى72 في المئة من احتياطي العالم بما يجعلها الأولى عالمياً في تصدير هذه المادة والتحكم بها. المعروف حالياً أن تركيا تصدرها بشكل خام بسعر 200 دولارفقط للطن الواحد بينما أعلن الوزير ألبيرق أن تركيا ستبدأ بتصنيع هذه المادة ليتم تصديرها بشكل يضاف عليه قيمة التكنولوجيا ليصبح الطن الواحد بسعر يصل إلى 400 ألف دولار. وحدد بأننا نعمل لتصبح تركيا دولة تصدر التكنولوجيا وقوة العقل وليس المواد الخام وأن هذا الأمر سيشكل قفزة كبيرة ومهمة تساعد اٌقتصاد بلاده في نهضتها المرجوة بل وتم تحديد الأماكن التي سيتم فيها إنشاء هذه المصانع لتحويل البور إلى الصفائح الصناعية التي تستخدم في العديد من الصناعات المهمة كالصناعات العسكرية للدبابات والطائرات والسيارات المصفحة والحماية الذاتية للقوى الأمنية وغيرها الكثير من الصناعات...
وفي نفس السياق نجد أن تركيا توسع مصانعها التي تعنى بإنتاج المواد الخام الأخرى كتلك التي تستخدم مثلاً في صناعة الزجاج والبلاستيك وغيرها لتزيد من قوة أنتاجها بشكل يغطي حاجة السوق المحلية لتخفيف هذا النوع من الواردات.
6- مشروع مطار إسطنبول الدولي الجديد الأكبر عالمياً وافتتاحه قريباً ومن ثم مشروع قناة اسطنبول من المشاريع الضخمة التي سيكون لها تأثير فعلي على عجلة الإقتصاد التركي لما يشكله كلاهما من نقلة نوعية في عملية نقل البضائع وعبور الترانزيت وزيادة الطاقة الإستيعابية لتركيا سياحياً وتنظيم عملية نقل البضائع والسوق الحرة التي تسبب رعباً لألمانيا التي عارضت منذ اليوم الأول مشروع المطار مثلا لما يشكله من تحييد كبير لمطار فرانكفورت الألماني تحديداً وما يشكله ذلك من خسارة استراتيجية لألمانيا. أيضاً كأمر مهم جداً يكفي النظر إلى قناة السويس مثلاً لنعرف ما الذي يمكن لقناة اسطنبول أن تدره على تركيا من أرباح هي اليوم لا يمكنها المطالبة بها عبر مضيق البوسفور بسبب الإتفاقات الشهيرة لوزان وأخواتها التي أفقدت تركيا حق الإستفادة من هذا المعبر الطبيعي ولم يعطها إلا حق تنظيم المرور فيه كشرطي للسير فقط. ولهذا سيكون لقناة اسطنبول أهمية كبرى في هذا الشأن إضافة لما سيؤمن ذلك لمدينة اسطنبول من تمدد منظم يساعد المدينة القديمة على استحصال مساحات خضراء جديدة كما سنشاهده مثلاً في حديقة الملة التي سيتم إنشاؤها على أرض مطار أتاتورك مباشرة بعد إغلاقه وعملية هدم وتجديد العديد من المناطق السكنية الحالية العشوائية العمارة مما سيضفي على اسطنبول جمالا ليس بالإمكان الحصول عليه دون مشروع ضخم كمشروع قناة إسطنبول المتميز.
7- السياحة، وهو أمر لا يمكن تجاوزه في تركيا ببساطة فقد أصبحت تركيا يوماً بعد يوم بلد لا يمكن الإستغناء عنه سياحياً رغم كل ما نشاهده اليوم من حملات مبرمجة ومكثفة لتحويل الناس إلى دول أخرى كاليونان وفلسطين المحتلة وغيرها. وبنظرة سريعة يمكن للمتابع أن يجد أن نسبة امتلاء الفنادق في موسم العيد هذا مثلاً قد وصلت في أماكن عديدة إلى 100% وهو أمر بالغ الأهمية لما يمكن للسياحة في تركيا أن تدره من عملات صعبة وحركة اقتصادية وتجارية تنعش السوق الداخلي بشكل كبير. أرقام شهر نيسان 2018 تشير إلى ترقب تركيا زيادة 35 % بعدد من السياح يصل إلى 40 مليون سائح ودخل سياحي يصل إلي 32 مليار دولار. طبعاً عوامل الزيادة السياحة كبيرة منها عودة السائح الروسي بكثرة وعدم تخلي السائح العربي رغم كل الحملات على تركيا عن هذا البلد المتميز إضافة إلى سياسة الإعفاء من الفيزا مع أكثر من 80 دولة في العالم يستطيع سكانها الدخول إلى تركيا عبر الختم المباشر في المطارات.
8- بورصة إسطنبول ومدينة المال التي يتم العمل على تشييدها منذ عدة سنوات في منطقة أتاشيهير تحديداً حيث ستصبح هذه المنطقة مركزاً للشرق الأوسط لأهم البنوك ومركز تعامل للبورصة بشكل تصبح فيه هذه المنطقة أشبه بوول ستريت الشرق الأوسط... الكثير من هذه الأبنية بدأت تنتهي وقريباً ستنتقل مراكز البنوك الرئيسية إليها.. لن أدخل في هذه النقطة ولعل بعض أخصائيي اٌقتصاد يشرحوا لنا عن أهمية هذه المدينة المالية وما ستحققه من فائدة على الاقتصاد التركي...
كخلاصة لما حاولت عرضه من نماذج، لا بد لنا أن نؤكد أن تركيا ستشهد في السنوات القليلة القادمة قفزة نوعية في شتى الميادين صناعياً وسياحياً وتصديراً للتقنيات بشكل يجعل من الاقتصاد التركي أكثر متانة وأكثر صموداً أمام ما يتعرض له اليوم من حملات قاسية عربية ودولية فيما يمكن تشبيهه بانقلاب اقتصادي فاشل غير واقعي برغم كل ما نراه من تحليلات يمنة ويسرة بقصد أو بغير قصد تتحدث عن هشاشة الاقتصاد التركي. وأستطيع أن أرى شخصياً تصميم الرئيس التركي رجب أردوغان على هذا الأمر ما أعلنه لمؤسسة مودي مثلا عن حساب سيكون معها بعد الإنتخابات لما تقوم به من مغالطات وتقييم... إن أهم عامل في انعاش الاقتصاد التركي هو في تنويعه وإعطائه القدرة على تخطي مسألة العجز بين الصادرات والواردات وكما يبدو ستتجاوز تركيا هذه المرحلة في فترة قريبة أصبح من الواضح معها اليوم أسباب هذه الحملة العشواء لإسقاط الرئيس واسقاط مشاريعه كما يصرح باقي المرشحون بكل صراحة...
كلمتي الأخيرة للمستثمرين العرب أن الأمل ما زال كبيراً في الاقتصاد التركي وسيتزايد هذا الأمل بإذن الله مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وسيثبت اقتصاد تركيا أنه ليس مجرد اقتصاد لقطاع الإنشاءات فحسب كما يحاول أن يروج له الكثيرون بل إن تركيا دولة الصناعات المتعددة والمتميزة التي تتطور ويجب على المستثمر العربي أن يكون مقبلاً لا مدبراً ومشاركاً سيكسب بالتأكيد...
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس