د. سعيد الحاج - المعهد المصري للدرسات
يتجه ملايين الناخبين الأتراك يوم الرابع والعشرين من حزيران/يونيو الحالي إلى صناديق الاقتراع للمشاركة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة والمبكرة، التي تعتبر الاكثر أهمية وحساسية وتعقيداً بين سائر المنافسات الانتخابية التي خاضها اردوغان وحزب العدالة والتنمية منذ 2002.
تتناول هذه الورقة أهمية الانتخابات المقبلة والعوامل التي تزيد من حساسيتها ومحوريتها، وتفصّل في المشاركين فيها لجهة مرشحي الرئاسة والأحزاب السياسية وخلفياتهم وبرامجهم، لتخلص إلى السيناريوهات والنتائج المتوقعة وارتدادات كل ذلك على تركيا داخلياً وخارجياً.
وترى الورقة أن فرص الرئيس الحالي اردوغان في الفوز بالانتخابات الرئاسية كبيرة جداً بغض النظر أكان ذلك من الجولة الأولى أم الثانية، بينما ترصد سيناريوهات عدة لنتائج الانتخابات البرلمانية التي تبدو أكثر تعقيداً.
استهلال
في السادس عشر من نيسان/لأبريل 2017 أقر استفتاء شعبي النظام الرئاسي في البلاد مع مواد أخرى بنسبة %51.4، على أن يبدأ تطبيقه مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 20191 . لكن دعوة زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي وضعت تركيا على سكة الانتخابات المبكرة، بعد أن تجاوب معها الرئيس التركي وأقرها البرلمان مقرراً إجراءها في الرابع والعشرين من حزيران/يونيو الجاري.
تعددت أسباب تبكير الانتخابات بين عوامل اقتصادية مرتبطة بنسبة نمو الاقتصاد وتراجع الليرة أمام العملات الأجنبية، وسياسية داخلية تدور حول حسابات الربح والخسارة أمام المعارضة ومحاولات تقديمها مرشحاً توافقياً للانتخابات الرئاسية، وسياسية خارجية تتعلق بالتخوف من تطورات إقليمية قد تنعكس سلباً على تركيا لا سيما في سوريا والعراق، وعسكرية – أمنية مرتبطة بالإنجازات التركية مؤخراً في مجال مكافحة الإرهاب واستثمار انتصار عملية غصن الزيتون في شمال سوريا2 .
تختلف الانتخابات الحالية عن كل سابقاتها، خصوصاً تلك التي خاضها حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه عام 2001 وفوزه بأول انتخابات خاضها في تشرين الثاني/نوفمبر 2002، من عدة زوايا وتكتسب أهمية كبيرة وتلقى اهتماماً مضاعفاً لعدة أسباب، أهمها:
أولاً، اعتبارها موعد بدء سريان النظام الرئاسي في البلاد، وهو متغير بالغ الأهمية والتأثير على الحياة السياسية التركية، خصوصاً لجهة تغيير نظام الحكم/الإدارة والصلاحيات التي سيتمتع بها الرئيس 3. وبالنظر إلى أن من أهم مميزات النظامِ الرئاسي الحكوماتُ القوية التي ستستمر لخمس سنوات حسب الدستور التركي، فإن حسابات الربح والخسارة تصبح أكثر أهمية.
ثانياً، إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في نفس اليوم، الأمر الذي يعني اختيار ممثلي السلطتين التشريعية والتنفيذية بشكل متزامن – في حال حسمت الرئاسية من الجولة الأولى – وهو ما يزيد من أهمية قرار الناخب، ويصعّب من إمكانية الاستدراك بالنسبة للخاسرين في الانتخابات والناخبين على حد سواء.
ثالثاً، حالة الاستقطاب السياسي المرتفعة جداً في البلاد، والتي تظهر بعض استطلاعات الرأي أنها شبه متساوية.
رابعاً، التحالفات الانتخابية لأول مرة بشكل رسمي وقانوني، وهي خطوة ستترك أثرها بشكل واضح على شكل البرلمان المقبل أولا ثم الحياة السياسية في تركيا على المديين المتوسط والبعيد.
خامساً، الخلافات الكبيرة والشاملة لمختلف الملفات والقطاعات والقضايا بين اردوغان والحزب الحاكم من جهة وأحزاب المعارضة من جهة أخرى، ما يعني أن فوز المعارضة في الانتخابات الرئاسية سيعني تغير الكثير في تركيا داخلياً وخارجياً.
سادساً، السياقات التي تأتي ضمنها الانتخابات وخصوصاً الأوضاع الاقتصادية والأحاديث عن أزمة اقتصادية وشيكة (بغض النظر عن مدى صحتها)، الأمر الذي يمكن أن يؤثر بشكل جزئي على قرار بعض الناخبين.
المشاركون – البرامج – الاستراتيجيات
أ- المشاركون
يشارك في الانتخابات البرلمانية بشكل رسمي ثمانية أحزاب وعملياً عشرة أحزاب انضوى معظمها في تحالفين رئيسين كالتالي:
تحالف الشعب أو الجمهور : يضم رسمياً حزبي العدالة والتنمية الحاكم والحركة القومية القومي، بينما يشاركهما بشكل غير رسمي حزب الاتحاد الكبير القومي بحيث رشح حزب العدالة والتنمية بعض قياداته على قوائمه الخاصة.
تحالف الأمة أو الشعب: يضم رسمياً أحزاب الشعب الجمهوري الكمالي والجيّد القومي المنشق عن الحركة القومية والسعادة الإسلامي/المحافظ، بينما يشاركهم بشكل غير رسمي الحزب الديمقراطي الذي تواجد عدد من مرشحيه على قوائم حزبي الشعب الجمهوري والجيد.
في المقابل بقيت ثلاثة أحزاب خارج هذين التحالفين هم الوطن القومي اليساري، والدعوة الحرة الإسلامي الكردي، والشعوب الديمقراطي القومي الكردي الذي فضّل أن يبقى خارج تحالف الأمة لعدم توافقه مع الحزب الجيد (القومي) من جهة، والرغبة في تجنيب التحالف شبهة دعم الإرهاب، وهي التهمة التي يواجهها عدد من قياديي الشعوب الديمقراطي على مدى الشهور الأخيرة.
في المقابل، يشارك في الانتخابات الرئاسية ستة مرشحين هم:
1) الرئيس رجب طيب اردوغان، مرشحاً عن حزبه العدالة والتنمية وتحالف الشعب.
2) محرّم إينجة، مرشحاً عن حزبه الشعب الجمهوري.
3) ميرال أكشنار، مرشحة عن حزبها الجيّد.
4) صلاح الدين دميرطاش، مرشحاً عن حزبه الشعوب الديمقراطي.
5) تمل كارا موللا أوغلو، مرشحاً عن حزبه السعادة.
6) دوغو برينتشاك، مرشحاً عن حزبه الوطن .
ب- البرامج الانتخابية
قدمت الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات البرلمانية للناخبين برامجها الانتخابية، ويمكن اعتبارها أيضاً البرامج الانتخابية لمرشحيهم الرئاسيين الذين لم يقدموا برامج مختلفة أو مستقلة.
ورغم تأثيرها المحدود على الناخب التركي إلا أن هذه البرامج الانتخابية تحظى باهتمام ملحوظ ، باعتبارها وثائق تاريخية وتأريخية لماضي هذه الأحزاب وتقييماً لواقعها ومدى فهمها لمشاكل تركيا ومواطنيها والرؤى والحلول التي تقدمها هذه الأحزاب .
حزب العدالة والتنمية الحاكم قدَّم برنامجه الانتخابي في 360 صفحة، تضمنت مقدمة ورؤية مستقبلية والفصول الرئيسة التالية:
1- نموذج حكم جديد.
2- ديمقراطية قوية.
3- الإنسان والمجتمع.
4- اقتصاد مستقر وقوي.
5- القطاعات الاستراتيجية والإنتاج المبتكر.
6- البيئة، التخطيط المدني، والإدارات المحلية.
7- السياسة الخارجية والأمن القومي.
8- ملحق لأهم المشاريع الكبيرة 9.
بينما قدم حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة برنامجه الانتخابي في 244 صفحة، شملت مقدمة موجزة، ثم خمسة عناوين رئيسة، هي:
1- الديمقراطية: الحق والقانون والعدالة.
2- الاقتصاد: تركيا منتجة نامية وتوزع بعدالة.
3- التعليم: تعليم مجاني ذو جودة وضامن للعمل.
4- السِّلم المجتمعي: حياة أخوية معاً.
5- السياسة الخارجية: الاستقرار والمكانة.
إضافة للمحاور التالية:
6- الإدارة الحكومية والخدمات.
7- بيئة عمل عادلة تليق بكرامة الإنسان.
8- الفئات المجتمعية.
9- الثقافة والفن.
10- حق المدينة.
11- حياة صديقة للبيئة .
ويمكن رصد تشابهات عدة وفروقات محددة بين هذين البرنامجين – كنموذجين عن الحكومة والمعارضة – والبرامج الانتخابية للأحزاب الأخرى. ويمكن القول إن برنامج العدالة والتنمية ركز على فكرة استمرار الإنجازات من جهة وفرص النظام الرئاسي من جهة أخرى، بينما ركز برنامج الشعب الجمهوري على فكرة الأزمات التي تعاني منها تركيا من جهة وكونه البديل الأفضل لها من جهة أخرى.
وفي قراءة سريعة للبرنامجين، يتضح أن الاقتصاد هو المادة الرئيسة فيهما خصوصاً ما يلمس حياة المواطن اليومية مثل الرواتب ومكافآت نهاية الخدمة والحد الأدنى للأجور إضافة للمشاريع الكبيرة على مستوى تركيا.
كما تتضح الهوة الكبيرة بين رؤيتي الحزبين للسياسة الخارجية للبلاد، حيث يريدها العدالة والتنمية استمراراً لدور تركيا ومكانتها الإقليمية والدولية ويقدمها كـ”ًصوت للمظلومين” ومدافعة عن حقوق المسلمين في الغرب وداعية لنظام دولي أكثر عدلاً، بينما يريدها الشعب الجمهوري أكثر تقليدية ومحافظة وأقل مبادرة وانخراطاً في الأزمات في سعي منه لعودة الاستقرار والمكانة لسياسة البلاد الخارجية.
كما تلفت الأنظار التشابهات النسبية في مقاربة الحزبين للعلاقة مع القوى العظمى والمؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية مثل الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، بينما تختلفان بشكل شبه جذري في السياسات المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ج- الاستراتيجيات
يسعى حزب العدالة والتنمية لفوز اردوغان بالانتخابات الرئاسية وفوزه بالأغلبية البرلمانية مع الحزبين المتحالفين معه، ليضمن تناغماً وتعاوناً بين الرئاسة والبرلمان. وقد بنى الحزب ومعه تحالف الشعب استراتيجيته الانتخابية اعتماداً على تراكم خبرته وإنجازاته السابقة وتحالفه مع أحزاب قريبة منه فكرياً وسياسياً وفكرة التجمع خلف قائد بارز ومرشح قوي هو الرئيس الحالي اردوغان.
كما ركزت حملته الانتخابية على الهجوم على حزب الشعوب الديمقراطي، باعتبار أن نجاحه في دخول البرلمان سيقلل من فرص الحزب الحاكم وتحالفه في الفوز بالأغلبية البرلمانية لصالح تحالف المعارضة، بينما سيكون فشله في تخطي العتبة الانتخابية فرصة للحزب الحاكم لكي يزيد من عدد نوابه بشكل ملحوظ .
ويركز اردوغان في حملته الانتخابية على مرشح حزب الشعب الجمهوري محرم إينجة متجاهلاً الباقين إلى حد بعيد، أولاً باعتباره أقوى منافسيه وثانياً لسهولة مهاجمة حزبه وأفكاره وتاريخه وسياساته وأيديولوجيته الأمر الذي سيساهم في تثبيت الكتلة التصويتية للعدالة والتنمية وجزءاً من المحافظين والقوميين لصالحه، وهو أمر متعذر بطبيعة الحال مع بعض المنافسين الآخرين فضلاً عن تضاؤل فرصهم في منافسته.
في المقابل، حاولت أحزاب المعارضة جهدها أن تقدم مرشحاً توافقياً قوياً تدعمه جميعها لمنافسة اردوغان وكان اسم الرئيس السابق عبد الله غل مطروحاً. وحين فشلت في ذلك اعتمدت خطة بديلة مفادها تقديم أكبر عدد ممكن من المرشحين ومن خلفيات مختلفة، علمانية وقومية وديمقراطية ومحافظة ويسارية، للخصم من رصيد اردوغان من مختلف هذه الكتل التصويتية وبالتالي محاولة منعه من حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، على أمل توافقها على دعم المرشح الذي سينافسه في جولة الإعادة إن حصلت.
وأما في الانتخابات البرلمانية، فتركز أحزاب المعارضة ومرشحوها خصوصاً الشعب الجمهوري على المشاكل والأزمات التي تواجهها تركيا وتحمّل اردوغان وحزبه مسؤوليتها جميعاً، خصوصاً ما يتعلق بالاقتصاد والسياسة الخارجية. وبالتالي تقدم نفسها حلاً وبديلاً من أجل اقتصاد أفضل وسياسة خارجية أقل توتراً وتأزماً ومعالجة مشاكل تركيا المختلفة.
وترفع المعارضة لافتة التغيير كشعار لها، معتبرة أن استمرار العدالة والتنمية في الحكم لـ 16 عاماً متواصلين أمر يحسب عليه لا له، كمسؤول عن أوضاع تركيا الحالية، الأمر الذي يفرّغ – من وجهة نظرها – الكثير من وعوده الانتخابية من مضمونها باعتبار أن عدم تحقيقها حتى الآن مسؤوليته هو.
في الرئاسيات، يدرك محرّم إينجة تفوق اردوغان في الخطابة والسجالات الانتخابية، ولذلك فقد عمد إلى خطاب أكثر هدوءاً رغم هجومه الشديد بطبيعة الحال على اردوغان، وقد بدأ حملته بزيارة معظم المرشحين الرئاسيين. ومن باب إدراكه لطبيعة ومزاج الناخب التركي فقد بدا أكثر محافظة مما كان عليه يوماً للتقرب من الناخبين الإسلاميين والمحافظين تحديداً.
التوقعات والسيناريوهات
بالنظر لكل ما سبق، تبدو الجولة القادمة حاسمة في تشكيل صورة تركيا ومستقبلها القريب، ولها تداعياتها الكبيرة على الحياة السياسة التركية بغض النظر حتى عن نتائجها.
فبدء تطبيق النظام الرئاسي سيكون معلماً بارزاً في تغير نمط الحكم والعلاقة بين مؤسسات الدولة وطريقة إدارتها وشكل الحكومة وعدد وزاراتها، إلى غير ذلك. فضلاً عن تأثيراته المباشرة على السياسات الداخلية والخارجية باعتباره ضامناً لحكومات أكثر استقراراً وقوة وسرعة في اتخاذ القرار وتنفيذه، الأمر الذي قد يضفي زخماً وقوة على السياسة الخارجية التركية وندية أكثر في التعامل مع مختلف الأطراف، وقد بدأت بعض الإرهاصات في هذا السياق من خلال بدء عمليات عسكرية ضد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل في العراق والاتفاق التركي – الأمريكي بخصوص منبج في سوريا.
كما أن شكل البرلمان وخريطته الحزبية ستتغير بشكل ملحوظ، حيث سيتشكل من سبعة أحزاب بالحد الأدنى هي الأحزاب المنضوية رسمياً وفعلياً تحت التحالفين لأن التحالفات الانتخابية ستضمن دخول الأحزاب الصغيرة المنضمة لها للبرلمان، في مقابل تشكله حالياً من أربعة أحزاب فقط. فضلاً عن أن المعارضة التركية – ممثلة بتحالف الأمة – ستمثل في البرلمان المقبل بشكل أفضل وأقوى من الحالي بكل الأحوال، وقد تحصل على أغلبيته.
بطبيعة النظام الرئاسي، فإن الانتخابات الأهم والأخطر هي الرئاسية، ولذلك فقد طغت حملة المرشحين الرئاسيين مثلاً على حملة مرشحي الأحزاب لمقاعد البرلمان إلى حد كبير.
قبل التفصيل في التوقعات، ينبغي الإشارة إلى أن شركات استطلاع الرأي التركية ليست دقيقة في توقعاتها. حيث يعاني عدد كبير منها من التسييس بحيث تنشر نتائجَ للتأثير على الرأي العام وتوجيهه أكثر من تعبيرها عنه، كما أن بعضها الآخر إما مفتقد للخبرة أو الأدوات أو كليهما. ولذلك يمكن أن تتوقع شركة ما بشكل شبه دقيق نتيجة انتخابات ما، لكنها ستفشل فشلاً ذريعاً في الانتخابات التي تليها، وهكذا. وفي المحصلة، فإن نتائج استطلاع الرأي التركية تصلح للاستئناس ومراقبة الاتجاهات العامة أكثر منها للحكم بدقة على مزاج الناخب التركي والنتائج المتوقعة.
يمكن رصد بعض الأمثلة على استطلاعات الرأي بخصوص الانتخابات الرئاسية في الجدول التالي، الذي يضم شركات: “سونار” المحسوبة جزئياً على حزب الحركة القومية، ، و”فورسايت” التي أجرت استطلاعها لصالح قناة بلومبيرغ الإخبارية، و”جازيجي” المقربة من الشعب الجمهوري والتي تعطي عادة نسباً متدنية لاردوغان والعدالة والتنمية، و”كونسانسوس” المقربة من العدالة والتنمية، و”ميتروبول” التي تجري استطلاعات رأي مؤخراً لصالح الحزب الجيد*:
من الجدول ونتائج استطلاعات الرأي الأخرى، يمكن استخلاص النتائج التالية:
أولاً، اردوغان هو المرشح الأقوى والأوفر حظاً ويتقدم على جميع منافسيه بفارق كبير، يتبعه إينجة في معظم استطلاعات الرأي.
ثانياً، ليس هناك توقع بأن يفوز أي من المرشحين – تحديداً اردوغان – بنسبة ساحقة.
ثالثاً، ثمة تفاوت ملحوظ في توقعات شركات استطلاع الرأي، خصوصاً فيما يتعلق بحظوظ كل من إينجة (10 نقاط كحد أقصى) وأكشنار (12 نقطة كحد أقصى).
رابعاً، المرجّح بأن يفوز اردوغان بالرئاسة من الجولة الأولى، أولاً بسبب فارق الموثوقية بين شركات استطلاع الرأي المصنفة في الجدول، وثانياً لغياب مؤشرات قوية تفيد بتراجع شعبيته بشكل كبير عن الانتخابات الرئاسية في 2014 والتي حصل فيها على نسبة %52، وثالثاً لتوقع انزياح نسبة من المترددين في الأيام والساعات الأخيرة لصالحه.
خامساً، رغم ذلك فإن بقاء الحسم لجولة إعادة لن يكون مفاجأة كبيرة، فليس هناك توقع بفوز كاسح له، كما أن عدم دقة شركات استطلاع الرأي تلقي دوماً بظلال من الشك حول نتائجها، فضلاً عن تحالف المعارضة في مواجهته، والأصوات المعترضة أو المتحفظة داخل العدالة والتنمية.
في حال لم تحسم الانتخابات من الجولة الأولى، ستجرى جولة الإعادة بعد أسبوعين أي في الثامن من تموز/يوليو المقبل، وسنكون أمام أحد سيناريوهين:
الأول والأرجح، تنافس اردوغان وإينجة. وهو سيناريو يضمن لاردوغان ثبات كافة أصوات العدالة والتنمية وجزء مهم من أصوات تحالف الشعب، إضافة لنسبة غير بسيطة من أصوات الإسلاميين والمحافظين خصوصاً أنصار حزب السعادة المنضم لتحالف الأمة رغم قرار قيادته. بينما سيكسب إينجة معظم أصوات أنصار حزب الشعوب الديمقراطي إضافة للحزب الجيد.
الثاني الأقل احتمالاً، تنافس اردوغان وأكشنار، إما لحلولها ثانية وإما لانسحاب إينجة لصالحها باعتبارها أقدر على الخصم من رصيد اردوغان الانتخابي من المحافظين والقوميين. في هذه الحالة، يمكن أن تحصل أكشنار على أصوات أنصارها مضافاً لها جزءاً مهما من أصوات الشعب الجمهوري وربما السعادة، ولكن معظم الأكراد سيصوت لاردوغان أو سيقاطع الجولة الثانية بسبب خلفية أكشنار القومية وتاريخها كوزير داخلية سابقة.
في الحالتين، تبدو فرص اردوغان أوفر بمراحل من فرص منافسه المفترض في جولة الإعادة، وهو ما يعني أن اردوغان سيستمر في منصب رئاسة الجمهورية بنسبة كبيرة جداً بغض النظر أتى ذلك في الجولة الأولى أم جولة الإعادة.
ومع أهمية مؤسسة الرئاسة، إلا أن البرلمان لا يفقد أهميته في النظام الرئاسي، بل يبقى مهماً جداً لأي رئيس التناغم والتنسيق بينه وبين البرلمان، فيما يتعلق بإقرار الميزانية وسن القوانين ومتابعة عمل الحكومة، وغيرها من الصلاحيات.
يمكن رصد بعض الأمثلة على استطلاعات الرأي بخصوص الانتخابات البرلمانية في الجدول التالي لنفس شركات استطلاع الرأي*:
من الجدول ونتائج استطلاعات الرأي الأخرى، يمكن استخلاص النتائج التالية:
أولاً، حزب العدالة والتنمية متقدم بفارق كبير عن بقية الأحزاب، يتبعه الشعب الجمهوري، في كافة استطلاعات الرأي.
ثانياً، ثمة تراجع ملحوظ للعدالة والتنمية عن نسبته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة (%49.5)، ويبدو غير قادر على الحصول على أغلبية البرلمان بمفرده.
ثالثاً، هناك تراجع كبير في أصوات حزب الحركة القومية (كان حصل على %11.9)، وتفاوت واضح في التوقعات بخصوصه بسبب انشقاق الحزب الجيد مؤخراً عنه.
رابعاً، هناك فارق ملحوظ بين تحالفي الشعب والأمة لصالح الأول.
خامساً، في القراءة السياسية العملية، ينبغي إضافة حزب الشعوب الديمقراطي لتحالف الأمة باعتباره أقرب له في الموقف والسياسات خصوصاً مواجهة اردوغان والعدالة والتنمية.
سادساً، تختلف استطلاعات الرأي حول مدى قدرة حزب الشعوب الديمقراطي على تخطي العتبة الانتخابية ودخول البرلمان، وفي كلتا الحالتين بفارق بسيط.
سابعاً، تتوقع بعض الاستطلاعات فوز تحالف الشعب بأغلبية البرلمان، لكن ليس بنسبة مريحة إذ تقع ضمن الانحراف المعياري (هامش الخطأ) لمعظم استطلاعات الرأي.
يمكن القول إن العامل الرئيس في حسم نتيجة الانتخابات التشريعية وشكل البرلمان المقبل هو نتيجة حزب الشعوب الديمقراطي، الحزب الوحيد خارج إطار التحالفين الذي له فرصة في دخول البرلمان منفرداً، والذي يبدو أقرب في سياساته من تحالف الأمة.
والسبب في ذلك هو قانون العتبة الانتخابية، الذي يشترط حصول أي حزب (أو تحالف انتخابي) لنسبة %10 من أصوات الناخبين في عموم تركيا لدخول البرلمان، وإلا وزعت أصواته ومقاعده البرلمانية على الأحزاب الأخرى، وفقاً لنسبة التصويت لها في كل دائرة انتخابية على حدة.
ولأن العدالة والتنمية هو الأقوى بعد الشعوب الديمقراطي في مناطق الأغلبية الكردية في شرق وجنوب شرق البلاد، ولأنه أيضاً الحزب الأقوى في باقي المحافظات التي فيها تمثيل كردي قوي وفي مقدمتها إسطنبول، فسيكون أكبر وأكثر المستفيدين من عدم دخول الشعوب الديمقراطي للبرلمان.
وبالتالي، فإن فشل الشعوب الديمقراطي في تخطي العتبة الانتخابية ودخول البرلمان سيصب حتماً في صالح العدالة والتنمية الذي ربما يكون أمام فرصة الحصول على الأغلبية البرلمانية رغم تراجع نسبة التصويت له كما سبق. بينما سيعزز دخول الشعوب الديمقراطي للبرلمان فرصة حصول تحالف الأمة معه على الأغلبية البرلمانية خصوصاً إذا ما تراجعت نسبة العدالة والتنمية إلى ما هو دون %45، وفق المصفوفات الحسابية المرتبطة بطريقة “دي هوندت” التي تحسب النتائج البرلمانية وفقها15 .
وفق التوقعات سالفة الذكر، ستكون تركيا صبيحة يوم الـ 25 من الشهر الجاري أمام أحد أربعة سيناريوهات:
الأول، فوز اردوغان بالرئاسة وتحالف الشعب بالأغلبية البرلمانية، وهو السيناريو المرجح وفق المعطيات حتى الآن، لكن ليس بنسب مضمونة ولا فرص مرتفعة جداً.
الثاني، فوز اردوغان بالرئاسة وتحالف الأمة (مع الشعوب الديمقراطي) بأغلبية البرلمان، وهو سيناريو وارد جداً قد لا تقل فرصه عن السيناريو الأول.
الثالث، فوز المعارضة (إينجة أو أكشنار) بالرئاسة وتحالف الشعب بالأغلبية البرلمانية، وهو سيناريو غير مرجّح.
الرابع، فوز المعارضة (إينجة أو أكشنار) بالرئاسة وتحالف الأمة بالأغلبية البرلمانية، وهو أيضاً سيناريو ضعيف الفرص.
ويترتب على هذه التوقعات والسيناريوهات الانعكاساتُ التالية:
1) الكثير على المحك. بسبب الاختلافات الكثيرة والكبيرة بين الحزب الحاكم والمعارضة في البرامج الانتخابية والخلفيات والأفكار والخطاب، وطبيعة النظام الرئاسي الذي سيبدأ تطبيقه مع الانتخابات وما يمنحه من صلاحيات للرئيس، ونتائج استطلاعات الرأي التي لا تقدم توقعات حاسمة، يمكن القول إن أي تغيير في اسم الرئيس وحزبه في تركيا سينبني عليه الكثير داخلياً وخارجياً. بدءاً من النظام السياسي الذي يريده العدالة والتنمية رئاسياً وتريد المعارضة إعادته برلمانياً، مروراً بالتعليم والصحة وغيرها من القطاعات، وليس انتهاءً بالسياسة الخارجية للبلاد خصوصاً ما يتعلق بالسياسات الإقليمية.
2) قوة المعارضة. بغض النظر عن مقدار دقة التوقعات، إلا أنها ستكون بكل الأحوال أقوى بكثير مما هي عليه الآن، وهذا له تبعاته الكثيرة على عمل البرلمان والتوازنات داخله والعلاقة مع مؤسسة الرئاسة. لا سيما مع تغير خريطة البرلمان بشكل حتمي كما سبق توضيحه.
3) ثمة فرصة حقيقية – بغض النظر عن نسبتها – أمام المعارضة في تركيا لكسب أغلبية البرلمان للمرة الأولى منذ 2002، وهو تطور مهم له أسبابه الكثيرة التي لا يسمح بسردها سياق هذه الورقة.
4) في حال حصلت المعارضة على أغلبية البرلمان أو حصل عليها تحالف الشعب، سيكون على العدالة والتنمية أن يلجأ للتوافقات والتنازلات في البرلمان وربما في الرئاسة لضمان سير البرلمان بطريقة سلسة ومتناغمة قدر الإمكان مع الرئيس. وهي توافقات وتنازلات للمعارضة في الحالة الأولى ولحليفه الرئيس الحركة القومية في الحالة الثانية، وهو تطور يحصل للمرة الأولى تقريباً منذ تسلمه الحكم، ولن ينقذه منه إلا حصوله على الأغلبية البرلمانية بمفرده وهو احتمال ليس مرتفع الفرص ومعتمد على فشل الشعوب الديمقراطي كما سبق تفصيله.
5) التحالفات غير دائمة. تبدو التحالفات القائمة حالياً بين الأحزاب المختلفة انتخابية مؤقتة أكثر منها سياسية طويلة الأمد، لا سيما في معسكر المعارضة الذي يضم أحزاباً مختلفةَ – بل متناقضةَ – الأفكار والبرامج والخلفيات. وبالتالي من المتوقع لخريطة التحالفات أن تتغير ولو جزئياً بعد الانتخابات وخلال العمل داخل البرلمان، وخصوصاً على مستوى العلاقة بين حزبي السعادة والعدالة والتنمية وحزبي الحركة القومية والجيد.
6) المتحفظون داخل العدالة والتنمية. أظهرت نتيجة الاستفتاء الشعبي على النظام الرئاسي العام الفائت أن هناك تياراً أو طيفاً داخل حزب العدالة والتنمية لديه تحفظات على الاستفتاء ومواد التعديل الدستوري و/أو طريقة الرئيس في قيادة الحزب والحكومة ما دعاه لرفض الاستفتاء. ويمكن أن نستنتج من نتائج استطلاعات الرأي أن هذا الطيف ما زال موجوداً – وإن لم يكن منظماً – ومؤثراً في تراجع نسبة التصويت للحزب لكن مصرّاً على خيار اردوغان وفق المعطيات الحالية.
7) في ظل التوقعات المتعلقة بالبرلمان وإمكانية فوز أي من التحالفين بالأغلبية البسيطة جداً، لا يتوقع أن يتأثر العمل الحكومي بشكل جذري أو أن يتوقف بسبب التعارضات بين الرئاسة والحكومة. لكن إن حصل ذلك، فثمة احتمال لأن يدفع الانسداد السياسي بمختلف الفرقاء إلى صناديق الانتخاب مرة أخرى في انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة حذر منها في الآونة الأخيرة عدد من السياسيين والباحثين، ولكنه يبقى احتمالاً ضعيفاً جداً.
خاتمة
في المحصلة، تبدو الانتخابات المقبلة في تركيا أكثر أهمية ومحورية وحساسية من كافة المناسبات الانتخابية التي شهدتها البلاد منذ 2002، خصوصاً بسبب ترافقها مع بدء سريان النظام الرئاسي في البلاد وحالة الاستقطاب والتوازنات والتحالفات.
وعليه، فثمة متغيرات كثيرة متوقع حدوثها، بعضها ذاتي التحقق ومستقل عن نتيجة الانتخابات، وبعضها الآخر مرتبط بشكل مباشر بالنتائج واسم الرئيس الفائز وخريطة البرلمان المقبل. وهي مغيرات ممتدة على طول قطاعات وقضايا وملفات عديدة قد تكون في مقدمتها السياسة الخارجية لتركيا.
ولذا، فلن يكون من قبيل المبالغة القول إن تركيا ما بعد الرابع والعشرين من الشهر الجاري لن تكون تركيا ما قبله، وأنها مقبلة على مرحلة جديدة كلياً ومختلفة جداً في مسيرتها السياسية والتي سترسم معالم المستقبل القريب لها وستؤثر بكل تأكيد في محيطها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس