علي الصاوي - خاص ترك برس
هناك قاعدة ثابتة في العلوم السياسية تقول بأن الأحداث المعلنة أقل بكثير من الأحداث الفعلية، فالعوام يرون ما يطفوا على السطح وما يُعلن في وسائل الإعلام، لكن خبراء التحليل السياسي وتقدير الموقف يقرأون ما وراء الحدث وما بين السطور، كي تتجلى لهم حقائق الأمور للوصول إلى صياغة رؤية واضحة حول الأحداث، وتقدير حجم المصالح حسب اللاعبين ووضع كل لاعب في مكانه الصحيح لتصحّ المخرجات والنتائج.
فمنذ أن نشبت الأزمة الأمريكية التركية، وساد مناخ التوتر السياسي بين الطرفين، توجهت الأنظار حول السبب الحقيقي وراء تلك الاضطرابات التي قد تضرب بجذور العلاقة وتهدم جسور التعاون بين حليفي الناتو، إن لم يكن هناك مبادرات دبلوماسية ورسم أفق سياسي لحل الأزمة، فزاد الاستهلاك التحليلي وقراءة المشهد من عدة زوايا وتسطيح الأمر واختزاله في قضية القس "برونسون" المحتجز منذ عامين في تركيا، في حين أن هذه القضية مجرد قمة الجبل الجليدي في توتر العلاقات بين البلدين، فتضارب المصالح بينهما في كثير من الملفات أدى إلى تكوين تراكمات خلافية، ساعدت على تهيئة السياقات العامة لنشوب صِدام دائم بين الإدارة الأمريكية والتركية.
البحث عن ثمن
أشارت تقارير مسربة من قبل بعض المقربين من صانع القرار التركي إلى أنه كان هناك تنسيق بين البلدين بشأن الإفراج عن القس "برونسون" قبل أن تتفاقم الأزمة، مقابل بعض المطالب من الجانب التركي، إلا أن الإدارة الأمريكية رفضت تقديم أي ثمن مباشر، في سبيل إطلاق صراحه، وعلى إثر ذلك الرفض اتخذ ترامب خطوات تصعيدية بفرض عقوبات على تركيا، ومع امتصاص صدمة الحرب على الليرة واستعادة عافيتها نسبياً أمام الدولار، بدأت تركيا في اتخاذ إجراءات هجومية في فرض عقوبات على بعض المنتجات الأمريكية في رسالة واضحة إلى واشنطن أن مدخل العقوبات لن يثني تركيا عن فرض سياستها هي الأخرى، وأنه لا سبيل إلا بالحوار الدبلوماسي للخروج من الأزمة وهذا ما تريده أنقرة، أن تجرّ واشنطن إلى لعبة المساومات لفرض شروطها لتخرج من هذه الأزمة بمكاسب أقل ما تكون هي الإفراج عن نائب مدير بنك خلق الحكومي، "هكان أتيلا" مقابل الإفراج عن القس "برونسون".
نوعية المطالب التركية
يتوجه الإعلام التركي بالتركيز على تسليم القس "برونسون" مقابل تسليم "فتح الله غولن" مخطط الانقلاب العسكري الفاشل، لكن أنقرة تدرك صعوبة هذا المطلب خاصةً أن أمريكا تتحجج بأن أدلة الإدانة ليست كافية لتسليمه، لكن تركيا ترمي إلى أبعد من ذلك بكثير، فهناك قضايا أخرى تمثل أهمية للجانب التركي لأن أثرها قد يترتب عليه خسائر كبيرة على المدى القريب، وحسب ما جاء في التسريبات، فقد طلبت تركيا إغلاق ملف التحقيقات الذي يقوم به القضاء الأمريكي حول خرق أنقرة للعقوبات الأمريكية على إيران ووقف الإجراءات العقابية المتوقعة ضد بنك خلق الحكومي، والإفراج عن مساعد مدير البنك "هكان أتيلا" وتأمين عودته لتركيا والذي من المتوقع أن تصدر ضده أحكام بالسجن لعدة سنوات، لتورطه - حسب اتهام محكمة نيويورك الفيدرالية - بالمساعدة على تسهيل خرق العقوبات الأمريكية على طهران، بالإضافة إلى توقع فرض عقوبات مالية على البنك قد تصل إلى مليارات الدولارات مما قد يتسبب في إفلاس البنك في حال تنفيذها، لذلك تتمسك تركيا بدفع الثمن مقابل الإفراج عن برونسون دون أي تأخير، فبحسب التسريبات أيضا فقد وعدت أمريكا الجانب التركي بإعادة النظر في قضية "أتيلا" إذا أفرجت عن القس لكن بدون تقديم أي ضمانات بذلك، لكن تركيا رفضت لا سيما وأن البلدين يعيشان أزمة ثقة بسبب كثير من المشاكل العالقة بينهم.
لكن مع زيادة التصعيد وشدة الحرب الكلامية يظل هناك أمل يلوح في الأفق لحل الأزمة، فهناك تحركات دبلوماسية بين الجانبين لرأب الصدع وإعادة العلاقات كما كانت من قبل، خاصة في ظل اللقاء الذي جمع بين السفير التركي بأمريكا ومستشار الأمن القومي الأمريكي من جانب، ولقاء السفير الأمريكي بتركيا بالقس "برونسون" في مقر إقامته الجبرية من جانب آخر، فالأيام حبلى بالأحداث ولن تبخل علينا بالمفاجآت، وقد نسمع غدا إعلانا عن لقاء دبلوماسي بين ترامب وأردوغان لتحسين العلاقات بينهم، فالمفهوم السائد في العلاقات الدولية أنه لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة ولكن المصالح دائمة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس