حمزة تكين - أخبار تركيا
لم تكن ليلة الثامن والعشرين من شهر رمضان المبارك هذا العام ليلة عادية في مدينة إسطنبول التركية، إذ شهدت هذه المدينة العظيمة بتاريخها وحاضرها مشهدا عظيما بقيادة رجل عظيم وحضور حشد عظيم من المؤمنين المتطلعين لإشراقة نور بات موعدها قريبا على هذه الأمة.
بنفحة إيمانية مميزة وبدعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، شارك مئات الآلاف من المسلمين ليلة أمس بصلاة تراويح مميزة في ساحة "يني كابيه" بمدينة إسطنبول، كانوا يدا واحدا صفوفا متراصة أتراكا وعربا وأكرادا وعجما، كانوا من كل الجنسيات والأعراق والأطياف والقوميات... جمعتهم مناسبة طيبة، حملت في طياتها العديد من الرسائل.
لم تكن الدعوة عبثية من هذا الرجل الذي أصبح اليوم يشكل بريق أمل لدى ملايين المسلمين ليس في تركيا وحسب، بل في العالم أجمع أيضا، فأتت الدعوة تزامنا مع توديع شهر رمضان المبارك وإحياء الذكرى 566 لفتح القسطنطينية على يد مولانا الولي الصالح حامل البشارة النبوية سيدنا محمد الفاتح رضي الله عنه، وتحويل هذه المدينة إلى "إسلام بول"... إسطنبول العظيمة.
ولم يكتف الطيب أردوغان بحصر الدعوة بهذه الرمزية العظيمة، بل ربط دعوته الطيبة بحدث إيماني أعظم من فتح القسطنطينية، لنكون أمام مزيج من العزة والنصر والافتخار، فكان النداء لحضور عدد من المصلين في هذه الصلاة هو 313000 مصل، وهو الرقم نفسه بدون أصفار لعدد أهل بدر من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم.
فكانت النفحات البدرية الطيبة حاضرة ليلة أمس، أفرحت قلوب 313 ألف مصل بقيادة الطيب أردوغان، وأعادت لمن شارك ومن تابع عن بعد شيئا من العزة وأملا أن هذه الأمة لا تموت أبدا مهما كانت شراسة الحرب ضدها، وأحيت من جديد إيمانا كبيرا في قلوبنا أن نصر الله لابد وأن يكون حليف من المؤمنين اليوم، كما كان حليف أهل بدر أمس.
ولكن لماذا اختار الطيب أردوغان أهل بدر بالتحديد، لماذا لم يختر أي مناسبة إسلامية أخرى ليربطها بهذا الحدث العظيم وذكرى سيدنا السلطان محمد الفاتح رحمه الله؟
لا شك أن هناك إشارات بيّنة أجراها الله تعالى على قلب هذا الرجل كي نتلمسها ونعيها ونفهمها، فالله تعالى عارف أن الأمة تريد نصرا وعزا تفتقدهما منذ أن أسقطت آخر خلافة للمسلمين في التاريخ، الخلافة الإسلامية العثمانية.
ما حصل ليلة أمس في إسطنبول ليس استعراض عدد أمام كميرات التصوير، وليس برنامجا مدرجا على جدول أعمال الرئيس أردوغان لملئ فراغ فيه، بل رسالة للمسلمين في إسطنبول والعالم كله أنكم إن أردتم نصرا وعزا ومهابة فعليكم بأهل بدر الكرام، وأخلاق أهل بدر الكرام، ودروس أهل بدر الكرام، وإيمان أهل بدر الكرام... عليكم بكل ما جاء به أهل بدر الكرام وعلى رأسهم سيد أهل بدر وسيد الكرام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
عليكم بذلك عمليا وفعليا لا قوليا وشعارات فحسب... فأهل بدر انتصروا وهم أذلة وهم ضعاف وفي ظروف لم تكن لصالحهم أبدا، انتصروا بدينهم وأخلاقهم وتربيتهم وشهامتهم وإيمانهم ومحبتهم لبعضهم البعض، لا بتنظيرهم هنا وهناك ولا بشعاراتهم الرنانة ولا بتخوين بعضهم البعض ولا باستعداء بعضهم البعض.
بالأمس قال أردوغان ومن معه من مئات آلاف المصلين، أن أهل بدر كانوا أهل شورى، فها هو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام يستشير أصحابه 4 مرات في غزة بدر ويأخذ برأيهم، وكل ذلك ليعلّم الأمة أن أمر الشورى ليس ترف استطلاع للآراء، ولكنه ضرورة خاصة خلال المواقف الحاسمة التي تخص الأمة مهما كانت حكمة قائدها... وبالتالي فأن أردنا اليوم نصرا فعلى قادة الأمة أن ينزلوا من قصورهم العاجية ليروا ما تريده شعوبهم، ليسألوا شعوبهم عن حاجياتهم كافة، وإلا فإن العنجهية في القصور والمناصب والتعالي والتكبر على الشعوب لن تورثنا إلا ذلا وهزيمة.
على قادة الأمة أن يخضعوا لمشورة شعوبهم لا لأوامر هذا الزعيم العالمي أو ذاك الرئيس، أن يسمعوا لآراء مواطنيهم لا لمطالب وأوامر طغاة البشرية ولصوص الكوكب ومتكبري المجتمعات، وإلا لا نصر كنصر بدر على الإطلاق.
بالأمس قال أردوغان ومن معه من مئات آلاف المصلين، أن أهل بدر كانوا أهل محبة في الله تربطهم فيما بينهم من جهة، وتربطهم مع قائدهم من جهة أخرى، فمن أراد اليوم نصرا وعزا لهذه الأمة فعليه بهذه الخصلة المباركة أن تكون المحبة في الله عامّة بين أفراد الأمة من جهة، وبينهم وبين المخلصين من قادة الأمة، لا أن نكون متناحرين على كل صغيرة وكبيرة، لا أن نكون متخاصمين مستعدين لبعضنا البعض عند كل مفترق طريق، لا أن نكون مخوّنين لبعضنا البعض بسبب موقف هنا أو هناك، لا أن نكون مكفرين لأبناء الأمة بسبب رأي هنا أو رأي هناك.
بالأمس قال أردوغان ومن معه من مئات آلاف المصلين، أن أهل بدر كانوا صادقين مخلصين منضوين تحت قوله تعالى "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا"، ولم يكونوا مخادعين ولم يكونوا مترددين ولم يكونوا من الذين يظهرون عكس ما يبطنون... وبالتالي إن أراد أبناء الأمة اليوم نصرا وعزا ورفعة فعليهم أن يخلصوا النوايا لله تعالى وعليهم أن يكونوا من أهل الإخلاص لدين الله وللقيم الأخلاقية الحميدة، وعليهم أن يكونوا صادقين مع الله ومع أنفسهم ومع أمتهم، صادقين قلبيا لا قوليا، وإلا فلا نصر مع التذبذب والتردد والخوف والنفاق والتخاصم والتباغض وعدم الإخلاص.
بالأمس قال أردوغان ومن معه من مئات آلاف المصلين، أن أهل بدر كانوا أهل علم لا أهل جهل، أهل معرفة لا أهل تشتت وضياع، فها هو النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم حريص على معرفة حجم جيش العدو وأهدافه ومقاصده وقوته ونقاط ضعفه، لأن ذلك يساعده على رسم الخطط الحربية المناسبة، وبالتالي من أراد اليوم نصرا لهذه الأمة وعزة ورفعة فعليه أن يكون عالما بعلوم عصره صاحب فكر وعقل وتخطيط ونظر، صاحب استراتيجيات في العسكر والاقتصاد والأمن والسياسية والاجتماع، لا صاحب قصور في النظر والعقل وضعف في التخطيط والإنجاز، تسوقه أهواؤه دون إدراك منه ودراية وتفكير.
بالأمس قال أردوغان ومن معه من مئات آلاف المصلين، أن أهل بدر كانوا أهل عمل لا أهل تقاعس وتكاسل وأفكار انهزامية انطوائية، فرغم أن عددهم كان 313 رجلا فقط مقابل جيش مدجج بالسلاح والعتاد، فقد أخذوا ومعهم قائدهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام قبيل المعركة وخلالها بالأسباب الأرضية الظاهرة، وكان الدرس أن الأخذ بالأسباب عبادة لا تتنافى مع التوكل الدائم على الله تعالى، وبالتالي من أراد اليوم نصرا لهذه الأمة فعليه بالإعداد والعمل والجد ليل نهار لا الاكتفاء بشعارات رنانة موسيقية مع الكسل والخنوع وعدم الإنجاز وعدم التصنيع وعدم الإعداد بحجة "التوكل على الله".
بالأمس قال أردوغان ومن معه من مئات آلاف المصلين، أن أهل بدر كانوا أهل صبر لا أهل استعجال وتألٍ على الله وانكار على الله، يقول الله تعالى "بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ"، فمع الصبر الممزوج بالعمل والصدق والإخلاص والإيمان يتحقق النصر، وبالتالي من أراد النصر اليوم فعليه بمبادئ الصبر والانصياع الإيماني لإرادة الله وأمواره الله وحينها يتحقق النصر بعد قوة من الإعداد والعمل والعقل والعلم.
بالأمس قال أردوغان ومن معه من مئات آلاف المصلين، أن أهل بدر كانوا لجوء إلى الله، لا أهل انكفاء عنه وقت الرخاء أو وقت الشدة، فمن يلجأ إلى الله تعالى مع صبر وإعداد وعقل وعلم حاشا لله أن يخيبه أو يخذله أو يكتب عليه الهزيمة أمام عدوه، يقول الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون"، وذكر الله يكون بالقلب الصادق لا اللسان المعسول والشعارات التجارية، وبالتالي إن أردنا نصرا اليوم لأمتنا فعلينا بهذا الطريق كي يتحقق الفلاح، علينا بالارتماء في كنفه سبحانه وتعالى لا في كنف هذا الزعيم أو ذاك الزعيم، لا في كنف صاحب المليارات هذا أو ذاك، لا في كنف مالك السلاح هذا أو ذاك، لا في كنف أصحاب السلطة، لا في كنف أهل الظلم والنفاق والدنيا.
إن غزوة بدر الكبرى ليست حدثا تاريخيا ولى زمانه، ولكنها منارة تنير للمسلمين في كل زمان طريق العزة والحياة الطيبة الكريمة، طريق المنهاج النبوي، هي معنى متجددٌ في الأمة متى قامت لتحق الحق وتبطل الباطل، ولذلك قال أردوغان ومن معه من مئات آلاف المصلين أمس، أننا اليوم نرسل رسالة للعالم أجمع "نحن على نهج أهل بدر ونهج من انتهج نهجهم ففتح القسطنطينية وغير تاريخ البشرية قبل 566 عاما".
كما نتصر أهل بدر بإيمانهم... نحن على نهجهم ولو كره الكارهون من أهل الظلم والضلال والتسلط والسطوة والمليارات الهائلة المسلوبة من أفواه فقراء المسلمين.
كما انتصر أهل بدر بعملهم وسعيهم وجهده... نحن على نهجهم سننهض بصناعاتنا كل صناعاتنا وسنعمل وسنعد خططنا واستراتيجياتنا الخاصة وسنتحضر بما نقدر عليه، مهما كانت الصعوبات ومهما كانت المعوقات، ومهما كانت شدة العراقيل.
كما انتصر أهل بدر بصبرهم وإيمانهم والتجائهم إلى الله... نحن على نهجهم صابرون على حالنا متمسكون بإيماننا لا نلجأ لظالم أو متسلط أو ملياردير أو زعيم أشقر أو أسمر، بل سنلجأ لله وحده صاحب الأمر والقرار وسنعمل وسنعد، والله معنا.
كما انتصر أهل بدر بعلمهم وفكرهم... نحن على طريقهم في بناء مجتمع متعلم في كل الاختصاصات والمجالات فنحن أبناء أمة "إقرأ" أمة العلم لا أمة الجهل، مسيرة العلم لن تتوقف مهما حاول البعض من أعدائنا أن يعرقلوها.
كما انتصر أهل بدر بمحبتهم وأخوتهم في الله... نحن على طريقهم سنبقى ننادي بالمحبة بين أبناء الأمة ولن نرفع إلا صوت المحبة والتآخي مهما كانت الاختلافات والتوجهات والآراء، ولن نكون ممن يزرعون الفرقة والتباغض والتشاحن بين المسلمين، لن نشتم مسلما ولن نسب مؤمنا، سندعو للمحبة والتآخي وحل أي خلافات بالشورى والحوار والتلاقي.
هذه كانت رسالتنا ليلة أمس مع ذاك المشهد العظيم المهيب... لن نتراجع عن ديننا وأهدافنا أمام هجوم أعدائنا السالبين لحقوقنا، واضعين نصب أعيننا دروس أهل بدر الكرام ونور محمد الفاتح المقدام.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس