إبراهيم كالن - صحيفة ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس
قد ندعي أننا نعيش في عصر الاستنارة، لكن قوى الجهل وغياب العقل تواصل الهجوم علينا. وليست الحروب العالمية والقتل الجماعي والإبادة الجماعية والنازية والفاشية والعدمية والجمود الفكري والتطرف العنيف والاهتمام المتزايد بالخيال والعلوم الغامضة سوى انعكاس لغياب المنطق واللاعقلانية المتوارية وراء واجهة العصر الحديث.
كان الفيلسوفان الألمانيان أدورنو وهوركهايمر على حق، عندما وصفا مغامرات العقل الحديث بأنها جدل التنوير "Dialectic of Enlightenment"، فكلما ضغطنا من أجل اكتساب واقع عقلاني، أصبحنا أكثر برودة وعزلة ولا عقلانية. والسبب الرئيسي لذلك هو أن العقلانية تنحصر في التفكير الفعال، أي أنها وسيلة من الوسائل إلى إجراء نهائي. وما يبرر إجراء ما هو قدرته على توجيهنا إلى الغاية فيما يتعلق بتحليل التكلفة والعائد. فإذا كان عملنا يؤتي ثماره "بعقلانية" ومربحا، فعندئذ يكون له ما يبرره. ولكن هذا يحول كل شيء إلى وسيلة للربح والمكاسب ولكنه لا يقول شيئًا عن النهاية - الغاية التي من المفترض أن تحدد المعنى والغرض النهائي لكل فعل. وبالنسبة إلى أنصار العقل النافع، فإن التعمق في المعنى والهدف هو إلهاء وحتى خطر لأنه يأخذنا من عالم الحقائق العمياء والأرقام إلى عالم القيم والمبادئ والأفكار المقولبة. ومن بين التجسيدات الأخرى للحداثة، أصبحت الرأسمالية رمزا مثاليًا للعقل الفعال، حيث يتم تحويل كل شيء إلى وسيلة للربح والاستهلاك والمتعة والترفيه. وهذا بدوره يخلق نظام التلاعب الكلي والثابت.
هذا ما يحدث عندما يتم فصل العقل عن الحكمة والغرض الأخلاقي، إذ إن العقلانية بوصفها هندسة اجتماعية تطلق العنان لقوى غيرعقلية، في حين يفرغ التفكير الحسابي كل شيء من معناه الجوهري ومن قيمته. لقد كان لدينا ما يكفي من العبث والفظائع والكوارث لفهم العواقب الكارثية للعقلانية الفعالة المدفوعة بالربح. وفي حين أن العقل هو ما يميزنا كبشر عن الوحوش، فقد أظهرنا قدرتنا على العنف والهمجية، وندعي في الوقت نفسه أننا عقلانيون. وإذا ترك الأمر للعقل، فإنه يمكن أن يكون مدمرا ومكلفا.
أما الحكمة فإنها هي التي يمكن أن توجهنا وتحمي العقل من أعدائه الذين صنعهم بنفسه. ولكن عندما يتخذ العقل والحكمة مسارات مختلفة، فلن يوجد مسار للسير.
فما هي الحكمة؟ من بين التعريفات الكثيرة التي قدمت على مر القرون، لنلق نظرة على ما قاله الفيلسوف الإسلامي من القرن الثالث عشر الميلادي، الشهرزوري، الذي يربط تعريفه الحكمةَ بهدف الخلق: "إن سبب وجودنا والغرض من خلقنا هو السعي إلى الكمال وتحقيقه: ولا يمكن ذلك إلا بشطري الحكمة، أي الحكمة النظرية والعملية".
يمكننا تحقيق الحكمة لا من خلال التفكير فحسب، ولكن من خلال التمثيل أيضا. وهذا يستلزم التأمل والروح الأخلاقية والسلوك الأخلاقي وفعل الخير. لا يوجد تفكير سليم بدون إجراء مناسب ولا يوجد عمل نبيل بدون تفكير صحيح. ولا يمكن أن تكشف حقيقة هذا العالم عن نفسها إلا عندما نتغلب عليها. تجمع الحكمة بين العقل والأخلاق والتفكير والقيام والتأمل والإحسان والتحليل واللطف والمنطق والصلاحية. الحكمة هي أن "يطهر المرء نفسه بالماء المقدس".
ويواصل الشهرزوري كلامه بالقول: "اعلم أن الحكمة صناعة تكتسب بنظر العقل وتحقيق غايته. ومن خلالها نتعرف على طبيعة الوجود بحد ذاته، وطبيعة ما هو ضروري في حد ذاته، أي ما يجب القيام به وما هو مطلوب للقيام به في حدود القدرات البشرية. وباكتساب "الحكمة تصبح روح الإنسان مثالية."
تحتوي هذه الفقرة الكثيفة على العناصر الأساسية لوحدة الوجود والتفكير والتمثيل، إذ تكتسب الحكمة بالاستخدام السليم للعقل وغيره من كليات الفهم والشعور والمحبة، حيث تحتوي الحكمةُ العقلَ وتثريه مع قوى التفاهم الأخرى. أما واجب العقل الأساسي فهو تمكيننا من فهم الوجود بطرائقه المتعددة. ويلي ذلك فهم عميق لواجباتنا في هذا العالم. وبمجرد أن نصل إلى حالة التفاهم هذه، نبدأ في استيعاب المبادئ الأساسية لما يعنيه وجودنا كبشر. وهذا يقودنا بدوره إلى الهدف النهائي للفلسفة وهي السعادة، فنحن نصل إلى السعادة عندما نكون عقلانيين وأخلاقيين في نفس الوقت.
وهذا أيضا مثال جيد على وحدة الحقيقي والصالح والجميل. وتفسر كيفية تحقيق هذه الوحدة بالكلمة التي يستخدمها شهرزوري لوصف الفكر "الصناعة" بمعنى كل من الفن والعلم. وتحمل هذه الكلمة نفس دلالات الكلمة اليونانية techne التي تعني طريقة عمل شيء ما بشكل صحيح ووفقًا لطبيعته. ومن المتوقع أن تعكس الطريقة التي ننظر بها إلى الأشياء من خلال طريقة الأمور. ويفترض أن تكون هذه الصناعة انعكاسا لترتيب الوجود الذي نحن البشر جزء منه. فما ندرسه بعقلنا ليس شيئًا غريبًا عنا، لكننا نستكشف واقعًا يشبه جوهره واقعنا : منظم وواضح ومنفتح على الفكر والتأمل. ويشير التماثل بين العقل البشري وعالم الوجود إلى علاقة حميمة بين العارف والمعروف ويتغلب على أي ازدواجية جذرية. ينفر العقل من الواقع عندما يستسلم لتجاوزاته ورذائله مثل التناقض والإفراط في الاختزال والتبسيط.
تعلمنا الحكمة أن ننظر إلى الأشياء بعقلانية وبديهية في نفس الوقت. فعند النظر إلى شجرة بلوط جميلة، يمكننا تحليلها بطريقة علمية ، لكننا نشعر أيضًا بمكانها في المخطط الأكبر للأشياء من خلال الحدس، فهي شجرة تشتمل على هذه الخصائص المادية أو تلك، ولكنها أيضًا كائن حي ورمز وظل ومكان للقاء، ومكان ذكريات، وعلامة، وهكذا. إن وجهات النظر المنطقية والعلمية والبديهية تكمل بعضها البعض وتعطينا صورة للشجرة بوصفها كائنا يتوقع منا تحليله وفهمه واحترامه وحمايته.
نحن بحاجة أكثر إلى هذه الحكمة من أجل سلامة عقولنا وبقائنا أكثر من شجرة البلوط الجميلة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس