سعيد الحاج - عربي21
لم يعد الأمر محض تكهنات أو أحاديث خلف الكواليس، وإنما حقيقة ماثلة تنتظر الوقت المناسب: ثمة أحزاب سياسية ستخرج للعلن قريباً من رحم حزب العدالة والتنمية، الذي كان أكثر ما عُرف عنه لسنوات طويلة؛ وحدة الصف وتماسك جبهته الداخلية خلف زعيمه المؤسس رجب طيب اردوغان.
كان الأمر شبه واضح من استقالة الوزير والقيادي السابق في الحزب علي باباجان، ثم وزير العدل الأسبق سعدالله أرغين، وتوقعات باستقالات قريبة لآخرين، ومن تصاعد وتيرة النقد في خطاب داود أوغلو مؤخراً، لكنه بات حتمياً فيما يبدو بعد قرار فصل الأخير من الحزب، الذي قدم طلباً للجنة التأديبية للحزب لفصله نهائياً مع ثلاثة أشخاص آخرين لمخالفتهم النظام الأساسي للحزب والإضرار به في التصريحات والأفعال. من ناحية نظرية، لم يتخذ القرار بعدُ، لكنه يبدو عكس ذلك إذا ما نُظر للسياق والمواقف.
ابتعاد داود أوغلو عن العدالة والتنمية كان حتمياً، رغم تأكيد الرجل مراراً على انتمائه له والتزامه بالنقد الذاتي. فقد قدّم الرجل نقداً علنياً وتفصيلياً للحزب الذي قاده بعد رئيسه المؤسس أردوغان، وهو نقد لم يتعامل معه الحزب لا تأييداً ولا تفنيداً ولا نقاشاً، وإنما غيّب داود أوغلو نفسه عن احتفال الحزب بذكرى تأسيسه قبل أيام. ومع ارتفاع وتيرة النقد وسقفه لدى "الخوجا"، كان الطريق إلى خارج الحزب يتعبّد خطوة خطوة، ليتحول السؤال من "هل" إلى "كيف" سيخرج منه: استقالة أم إقالة؟
هنا، يمكن القول بأن لقرار العدالة والتنمية ما يسوغه، على الأقل من وجهة نظر قيادته التي لا تريد لداود أوغلو الاستمرار في النقد (الهجوم بالنسبة لها) تحت غطاء عضوية الحزب، لكنه قرار أضر بصورة الحزب رمزياً اليوم وقد يضر به انتخابياً غداً، بينما أفاد داود أوغلو وأكسبه نقطة في مواجهة حزبه "السابق"، ولعله ما كان يريده بالضبط ليقول لاحقاً إنه "اضطر" لتأسيس حزب جديد بعد أن لم يتسع صدر حزبه لنقده الداخلي.
اليوم، يمكن الحديث عن تيارين من القيادات السابقة في الحزب يستعدان لتأسيس حزب جديد، تيار بقيادة علي باباجان وعدد كبير من القيادات السابقة البارزة، أهمها وزير الداخلية الأسبق بشير أطالاي ووزير العدل الأسبق سعدالله أرغين والقيادي الأسبق حسين تشييلك، ويدعمهم من بعيد الرئيس السابق عبدالله غل، وتيار بقيادة داود أوغلو، وينسق معه عدد من القيادات السابقة لفروع الحزب في بعض المحافظات؛ ليس بينهم أسماء لامعة جداً.
ثمة إشارتان مهمتان في هذا الصدد، بعيداً عن فكرة المحاكمات الأخلاقية وتحميل المسؤوليات التي يسارع إليه الكثيرون: الأولى أن هناك عدداً كبيراً من القيادات السابقة خارج أطر اتخاذ القرار والمسؤولية في الحزب والحكومة، والثانية أن هناك أزمة داخل الحزب الحاكم أدت لحالة التشظي هذه. يمكن ذكر أسباب كثيرة أوصلت الأمور إلى هذه الدرجة، لكن أهمها أربعة تكمل بعضها البعض: الاختلاف في الرأي مع القيادة، وصعوبة التغيير من الداخل، ووجود الطموح السياسي، وتكاثر الأزمات و/أو المشاكل في البلاد داخلياً وخارجياً.
قبل اليوم، خرجت بعض الشخصيات القيادية من الحزب، أهمها عبد اللطيف شنار عام 2007 لكن دون أدنى تأثير على الحزب. لكن الوضع اليوم مختلف، في ظل الأزمة الاقتصادية وتراجع الأداء الانتخابي نسبياً، وفي وجود عدد كبير من الأسماء ذات الأوزان الثقيلة التي شاركت في تأسيس العدالة والتنمية وإنجازاته طوال مسيرته حتى وقت قريب.
المعلومات المتاحة وبعض التسريبات تشير إلى أن الطرفين يعملان ليل نهار لتجميع الأنصار ووضع البرامج والخطط، لكنهما ينتظران الوقت المناسب. لكن ما تأثير ذلك على العدالة والتنمية وتركيا؟
يحتاج الأمر لكثير من التفصيل لا مجال له هنا. لكن بالمجمل، يمكن القول إن التأثير لن يكون كارثياً بالضرورة لعدة اعتبارات؛ أهمها بُعْدُ تاريخ الانتخابات الاعتيادية، والتأثير أكثر على خريطة البرلمان في ظل نظام رئاسي، واستمرار امتلاك اردوغان أوراق قوة لا يستهان بها؛ من كاريزما وتاريخ وإنجازات وتأييد كبير داخل الحزب.
في العموم، تشكيل أحزاب جديدة هو إثراء للمسيرة الديمقراطية التركية، لا سيما في ظل الأسماء سالفة الذكر، لكنها ستكون بالضرورة منافسة للعدالة والتنمية قبل غيره، وساعية لجذب أنصاره قبل أنصار الأحزاب الأخرى، بسبب اشتراكها معه في التاريخ والخلفية والأفكار والقيم والكثير من البرامج.
في العموم، قد تنجح تلك الأحزاب المنتظرة وقد تفشل، لكنها ليست مرشحة لسحب البساط تماماً من تحت أردوغان والعدالة والتنمية في ظل المعطيات الحالية (وهو أمر مرشح للتغير مستقبلاً في حال تغيرت المعطيات)، ولعل ذلك من ضمن أسباب تأخيرها الإعلان عن نفسها.
لكن مجرد قدرتها على جذب نسبة ولو بسيطة من الشريحة الانتخابية للحزب (فضلاً عن عدد من نوابه في البرلمان وفق ما يشاع) سيكون مؤثراً في ظل حالة الاستقطاب بين التحالفَيْن القائمَيْن، بل ويلمّح البعض إلى احتمال فرض خيار الانتخابات المبكرة إذا ما كسبت تلك الأحزاب عدداً مهماً من نواب العدالة والتنمية ثم نسقت مع المعارضة، وهو تطور محتمل لكنه ضعيف الفرصة حالياً، ولكن إن حصل سيفتح الباب على سيناريوهات متعددة وغير مضمونة النتائج. أكثر من ذلك، قد تجد تلك الأحزاب نفسها أقرب للتنسيق مع العدالة والتنمية منه مع المعارضة في المستقبل البعيد، على الأقل في بعض القضايا والملفات.
ورغم رمزية داود اوغلو، كمنظر ومفكر ورئيس سابق للحزب وثلاث حكومات متعاقبة، إلا أن فرص باباجان تبدو أفضل منه بكثير، في ظل الأزمة الاقتصادية وسيرة الأخير الذاتية المميزة في هذا المجال، الأمر الذي قد يحول دون إعلان الأول عن حزب جديد، انضماماً لتيار باباجان أو اعتزالاً للسياسة وعودة للأكاديميا.
السؤال الأخير الذي يفرض نفسه في هذه القضية؛ هو حول مستوى التنسيق بين داود أوغلو وباباجان، وهو ما يبدو حالياً ضعيفاً جداً، بل ثمة إشارات لخلافات واختلافات بين سطور التصريحات. لكن الشهور المقبلة قد تشهد متغيرات على هذا الصعيد، ذلك أن "24 ساعة وقت طويل جداً في السياسة" في تركيا، وفق تعبير الرئيس الأسبق سليمان ديميريل.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس