سعيد الحاج - عربي 21
من دون إعلان مسبق، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تونس العاصمة على رأس وفد كبير، والتقى نظيره التونسي قيس سعيد، في أول زيارة على المستوى الرئاسي لتونس بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
ولهذه المبادرة، وبسبب مفاجأتها نسبياً، حظيت الزيارة باهتمام إعلامي وسياسي كبير، وتعددت محاولات تفسير دلالاتها وما يمكن أن يكون الطرفان قد اتفقا عليه خلالها.
بالنظر إلى توقيتها، تحمل الزيارة دلالتين مهمتين تشيران بوضوح إلى أسباب إجرائها. أولاً: لم تخالف أنقرة عادتها في المسارعة للقاء الفائزين بانتخابات بلدانهم وتهنئتهم ونسج العلاقات الاقتصادية والتجارية وغيرها معها، كما حصل سابقاً في مصر وتونس نفسها وفي بلدان أخرى.
توجد حساسية تركية بالغة مفهومة ضمن سياقها التاريخي من الانقلابات العسكرية، وبالتالي احتفاء منها بالانتخابات الديمقراطية وما/من ينتج عنها من أنظمة وقيادات بغض النظر عن مدى التقارب السياسي والفكري والأيديولوجي معها، ولعل الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي مثال جيد على ذلك.
كذلك فإن هذا يصب في مسار بحث أنقرة عن حلفاء وشركاء وأصدقاء في المنطقة في ظل حالة الاستقطاب القائمة وكذلك الملفات الساخنة الكثيرة التي تقاربها تركيا.
بيد أن ذلك لم يكن السبب الأهم للزيارة وإنما مناسبتها فقط، فالوفد التركي لم يكن مكوناً في معظمه من وزراء الاقتصاد والتجارة والطاقة وما إلى ذلك، وإنما حضر فيه وزيرا الخارجية والدفاع ورئيس جهاز الاستخبارات، ما أعطى للزيارة بُعداً عسكرياً-أمنياً بارزاً، وأشار بوضوح إلى الملف الأهم على جدول أعمالها وهو الملف الليبي.
فقد أبرمت أنقرة مع حكومة الوفاق الليبية مؤخراً اتفاقين مهمين، أحدهما لترسيم الحدود البحرية بينهما والثاني للتعاون الأمني والعسكري والذي تضمّن إمكانية إرسال جنود أتراك إلى ليبيا في حال طلبت حكومة السراج ذلك. وفي ظل التعقيدات السياسية والعسكرية والأمنية الكثيرة والمحاذير الماثلة أمام خطوة كهذه، تبذل تركيا جهوداً كثيرة لضمان إتمام الأمر بالطريقة المُثلى والثمن الأقل إن احتاجت إليه.
من الخطوات التركية تثبيت مشروعية ذلك وقانونيته من خلال الاتفاقين والسعي لتسجيلهما دولياً، وإقرار البرلمان التركي لهما، ولكن كذلك التواصل مع الدول المؤثرة وذات العلاقة بالملف الليبي. في هذا السياق تحديداً يُفهم الوفد العسكري والأمني التركي الذي يحاور موسكو، وفي هذا الإطار تحديداً تُفهم مسارعة أردوغان لزيارة تونس على رأس وفد بهذا المستوى. ذلك أن تونس دولة جوار مع ليبيا وذات علاقة خاصة مع غربها تحديداً حيث العاصمة طرابلس التي تتعرض لهجوم جديد من قوات حفتر بدعم خارجي، ما يمنحها أهمية استثنائية في حسابات أنقرة.
ليس واضحاً بعد ما الذي طلبته تركيا من تونس على وجه التحديد، إذ يقع ذلك ضمن نطاق كبير أعلاه المشاركة المباشرة لإسناد حكومة الوفاق، وأدناه تفهُّم دوافع تركيا وخطواتها. لكن العوامل المتعلقة بتونس نفسها لا ترفع كثيراً من سقف التوقعات فيما يبدو.
فمن جهة، لا تزال البلاد بانتظار تشكيل الحكومة الجديدة، مما قد يؤثر على آلية اتخاذ القرار فيها فضلاً عن تنفيذه، وهو ما انعكس بوضوح على الشكل غير المتناظر في اللقاء مع الوفد التركي.
ومن جهة أخرى، توجد حسابات تونسية مختلفة عن تلك التركية بعَدِّها دولة جوار وخصوصية مقاربتها للملف الليبي، ما جعلها تبدو غير متحمسة كثيراً للاتفاق الأخير بين أنقرة وطرابلس، كما فُهم من تصريحات الرئيس سعيّد. كما أن الأخير كان قد قدم مبادرة للحل في ليبيا تقوم على الحوار بين مختلف الفرقاء، على الرغم من الموقف الرسمي المعلَن بدعم حكومة الوفاق المعترف بها دولياً.
وعلى الرغم من ذلك، لا يزال في الموقف بين أنقرة وتونس الكثير من المشتركات، فكلاهما يدعمان حكومة الوفاق ويؤكدان رفض الحلول العسكرية ولا يرغبان بالتأكيد في سقوط طرابلس بيد حفتر. وبهذا المعنى، لا يمكن الجزم بفشل المساعي التركية مع تونس على الرغم من المسافة التي حرصت الأخيرة على إظهارها من الموقف التركي بخصوص ليبيا.
ستكون الزيارة بهذا المعنى تأسيساً لحوار تركي-تونسي بخصوص ليبيا فضلاً عن العلاقات الثنائية المباشرة وخصوصاً الاقتصادية منها، وستتضح نتائجها غير المباشرة أكثر فأكثر مع مرور الوقت وفي ظلال التطورات الميدانية في ليبيا على وجه الخصوص، والمقصود هنا معركة طرابلس ومدى قدرة حكومة الوفاق على الصمود.
ولعل تطوراً سيكون ذا دلالة مباشرة على مستوى التنسيق بين الطرفين في الملف الليبي، هو اللقاء الثلاثي بين أردوغان وسعيّد والسراج الذي تحدثت عنه بعض التقارير الإعلامية، ذلك أن حصوله سيكون إشارة مهمة إلى هذا الصعيد. كما أن تواصل تركيا مع باقي الأطراف ذات العلاقة وخصوصاً الجزائر وروسيا، قد تنتج عنه تفاهمات معينة تساهم في رفع مستوى التعاون التونسي معها.
في الخلاصة، لا يزال الملف الليبي ساخناً وبانتظار تطورات مهمة محتملة، وعلى الرغم من سرعة الخطوات التركية فإن أنقرة لا تبدو في عجلة كبيرة من أمرها ولا تبدو حكومة الوفاق كذلك، بدليل عدم إقدامها على الطلب من تركيا رسمياً إرسال قواتها لليبيا حتى لحظة كتابة هذه السطور. ولعله من المنطقي توقع حالة من التوازي بين التطورات الميدانية في ليبيا وخصوصاً معركة طرابلس وبين مسار الجهود التركية لدعم حكومة السراج بما فيها التواصل والتنسيق والتعاون ما أمكن مع مختلف الأطراف، وفي المقدمة منها تونس.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس