د. باسل الحاج جاسم - إندبندنت عربية
على الرغم من أن تركيا لا تتحدث بعد عن صدام مباشر مع روسيا، بل عن العكس، كما ورد في تصريح وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، الذي قال فيه إن بلاده ليس لديها نية التصادم مع روسيا في إدلب، فإن الوضع متوتر للغاية ويتطلب بالفعل تدخل دول أخرى، حيث بيئة الصراع في إدلب تتصاعد، بخاصة بعد حوادث مقتل الجنود الأتراك، ومن الصعب اليوم توقع السيناريو الميداني المقبل في إدلب مع استمرار العمليات العسكرية لدمشق وحلفائها، بالتزامن مع تزايد الحشود العسكرية التركية.
جهود "اللحظات الأخيرة" مستمرة، والحديث يدور عن اجتماع جديد للوفدين التركي والروسي في أنقرة. لذلك، ما يزال هناك فرصة من أجل الحيلولة دون وقوع الحرب الكبرى الكارثية على الجميع، مع أنه لا يمكن إنكار أن موسكو وأنقرة بدأتا بشكل علني مواجهة بعضهما في الميدان.
لعبت روسيا على الطاولة في الأحداث الأخيرة حول إدلب دور الوسيط بين أنقرة ودمشق، لكن المقترحات والخرائط الروسية لم تلبِّ المطالب التركية حتى الآن، ويصرّ الجانب التركي على شرطه المسبق، وهو انسحاب القوات الحكومية السورية إلى الخطوط المنصوص عليها في اتفاق سوتشي، أما روسيا فتريد أن تقبل تركيا بالوضع الجديد، أي من دون الانسحاب التام من المناطق التي تم الاستيلاء عليها أخيراً.
إدلب ليست إلا الجزء المشتعل اليوم من عموم المشهد السوري المعقد، والمشكلة الحقيقية تكمن في العلاقات التركية- الروسية، والتركية- الأميركية، وأصبحت إدلب اليوم اختباراَ للعلاقات التركية الروسية، ويمكن عدم استبعاد أن المفاوضات المتوترة شرارة للتطورات الساخنة اللاحقة.
يؤكد الجانب التركي في المباحثات التي تتناول آخر التطورات في إدلب، على ضرورة وقف الهجوم العسكري في المنطقة، بالإضافة إلى مناقشة وضع نقاط المراقبة التركية في المناطق التي باتت خاضعة لسيطرة دمشق.
صحيح أن معظم التحليلات تتركز حول الخيارات التركية في الأيام المقبلة نحو إدلب ومحيطها، لكن قد يكون من المهم أيضا معرفة نوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أجل مستقبل المنطقة والخيارات التي قد يسلكها في التعامل مع شريكه وصديقه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان.
في البداية، إذا كان لدى بوتين نوايا جديدة في تغيير طبيعة العلاقات مع تركيا، والتي أخذت طابعاً مختلفاً أقرب للشراكة في السنوات القليلة الماضية، فهو سيرمي عرض الحائط برسالة أنقرة إطلاق عملية عسكرية في إدلب مع نهاية الشهر الحالي ولن يتراجع، وهذا يعني إطلاق تركيا عملية عسكرية محدودة ضد دمشق.
الخيار الثاني أن يتراجع بوتين خطوة للوراء، ويتحقق بذلك انسحاب القوات الحكومية السورية لما وراء خطوط اتفاق سوتشي، وبذلك لن يكون هناك حاجة لعملية عسكرية محتملة، وهو هنا يمنع الولايات المتحدة من فرصة كبرى تستثمرها من الوضع المتوتر بين أنقرة وموسكو.
تستمر المحادثات الروسية- التركية من دون نتائج واضحة حتى الآن، لكن من المؤكد أن موسكو لا تريد الدخول في مواجهة مع تركيا في الساحة السورية، فالتعاون بين البلدين يتجاوز الحدود السورية، والإقليمية كذلك، إلى قضايا استراتيجية مثل خط أنابيب غاز السيل التركي الذي افتتحه أردوغان وبوتين مطلع العام، وهو الخط الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا متجاوزاً الأراضي الأوكرانية، بالإضافة إلى صفقة صواريخ إس 400.
واليوم بين تركيا وروسيا شراكة ناجحة، تخدم مصالح الطرفين على أكثر من صعيد، كما يتعاون البلدان في كثير من القضايا خارج إدلب. لذلك، ما يزال هناك هامش واسع للمفاوضات، حيث يرى الجانبان أنهما سيخسران أكثر مما سيربحان، في حال إنهاء شراكتهما.
بعد سيناريو درعا وتخلي واشنطن العلني عن دعم المعارضة في الجنوب السوري، بعد أن كانت طرفاً ضامناً في اتفاق التهدئة هناك، بات مستقبل إدلب يتصدر معظم التصريحات السياسية والإعلامية، بالإضافة إلى تحذيراتٍ من مختلف الأطراف بشأن الكارثة الإنسانية التي تتربص بالمدينة، لا سيما في ظل الهجوم العسكري الأخيرعلى محيطها ويتدحرج نحو مركزها.
يعيش في إدلب اليوم قرابة أربعة ملايين نسمة، ونصفهم ممن هجّروا إليها من مدن ومحافظات سورية أخرى، الأمر الذي يجعل أي عملية عسكرية على المدينة كارثية من الناحية الإنسانية، كما أنها ستضع علاقات وتفاهمات أنقرة- موسكو على المحكّ، وتدفع محادثات أستانا الخماسية نحو المجهول.
وقد استفادت روسيا استفادةً كبرى من عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخُّل في صراعاتٍ مختلفة بالشرق الأوسط وغياب أي دور واضح لها في أزماتٍ كثيرة، وخصوصاً السورية، لتُعيد بناء علاقاتها مع عواصم مختلفة في المنطقة، سيما الخليجية منها. وقد عملت روسيا بتدخلها العسكري في سوريا على تحقيق أهداف جيو- استراتيجية، ونجحت إلى حد كبير فيها، على الرغم من فشلها في تحقيق بعض تلك الأهداف.
وعلى الرغم من التدخل العسكري الروسي القوي في سوريا طوال الأعوام الماضية، إلا أن موسكو ظلت تفتقر إلى تفعيل دور سياسي قوي، لذلك تعاونت سياسياً وعسكرياً مع دول إقليمية في المنطقة، بهدف دعم موقفها السياسي الضعيف، وكان ذلك خلال محادثات أستانا، التي نظمتها موسكو بالتعاون مع طهران وأنقرة، حيث استطاعت الدول الثلاث تهدئة الوضع في سوريا إلى حد كبير، بالإضافة إلى إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد.
في حين اختارت وفضلت الولايات المتحدة - والتي كان من المفترض أن تصبح عامل توازن في مواجهة روسيا- دعم الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني (المصنف على قوائم الإرهاب في الناتو)، أما الاتفاقات التي توصلت تركيا إليها مع روسيا، سواء في أستانا أو سوتشي، فتابعتها واشنطن عن بعد.
ولا يخفى أن المعارضة السورية لم تعد تتحكم باتجاه الأوضاع داخل سوريا، منذ ظهور التنظيمات الإرهابية المتطرّفة منها والانفصالية، وسيطرتها على مناطق واسعة في الجغرافيا السورية، وهو ما جعل الأولويات تتغيّر لدى القوى العظمى والإقليمية في تعاملها مع الحالة السورية، في الوقت الذي تتكون المعارضة المسلحة من عشرات الفصائل مختلفة المشارب بدون قيادة تراتبية، وأجنداتها متضاربة بعضها البعض، وكل فصيل وفق البلد الداعم له، ثم تم تسليحها على نحو تواصل فيه القتال مع عدم منحها القدرة على تحديد أو تغيير مسار الأحداث.
الواضح اليوم أن تركيا تسعى إلى حل مشاكلها في سوريا بمعزل عن الناتو والولايات المتحدة، فتجاربها السابقة مع حلفائها المفترضين داخل الميدان السوري غير مشجعة على الإطلاق، أما العلاقات التركية الروسية فقد نجحت في تجاوز عدد من التحديات التي كانت في يوم من الأيام تشكل أرقاً كبيراً لأنقرة.
يبقى القول، صحيح أن تركيا تصرّ على تراجع قوات دمشق إلى خطوط سوتشي، إلا أنها لا تشير إلى عودة تلك المناطق لسيطرة قوات المعارضة، كما أن هناك بنداً في اتفاق سوتشي حول الدوريات المشتركة الروسية- التركية في المنطقة وعلى الطرق الدولية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس