نعيمة صادقي - خاص ترك برس
إن تلافي الأحداث و تسارعها في شرقيالبحر المتوسط يأتي في إطار حلقة الفعل ورد الفعل، بُعيد بدأ تركيا عمليات التنقيب عن الغاز الطبيعي في البحر الأسود ، أعقبتها المناورات العسكرية اليونانية - التركية و التي تصاعدت حتى بدت شبه مُستنفذه للحلول السياسية و الدبلوماسية في بعض المرات ، أو أنها على شفا إحتدام التصادم نحو الحلول العسكرية ، غير أن هذه الأخيرة مستبعدة بالنظر إلى تكلفتها و الخسارة التي يمكن أن تتكبدها أوروبا في مواجهة تركيا عسكريا، علاوة على أن أمريكا ستمنع بأي شكل من الأشكال حدوث ذلك ، نظرا لان تركيا و اليونان تنضويان تحت حلف الناتو العسكري و لا يمكنها أن تُخيَر إلى جانب من تقف أو ضد من ، و بدى جليا أن القضية لا ترتبط فقط بموضوع الطاقة ، إذ عكست المواقف ضغائن دفينة لدى الجانب الفرنسي و عقدته من تركيا ، فالمشكل أبعد بكثير من الخلاف اليوناني التركي نظرا لدخول أطراف ثانوية تسمى في علم النزاع بالأطراف غير الأصيلة ، هذه الأخيرة غذت الخلاف و زادت من حجم انتشاره .
بدايات تشنج المواقف الدولية تجاه تركيا :
إن تحركات تركيا الأخيرة أصبحت دون شك تُزعج و تُؤرَق الجميع ، و قد أدت بدون شك إلى تعصب المواقف الدولية نحو تركيا ، فقرار إرجاع آيا صوفيا إلى مسجد بعد أن كان كنيسة ثم متحفا ، أثار جدلا لدى الموقف الفرنسي و الأوروبي و الروسي ، حيث صرح رئيس الكنيسة الأرثودكسية الروسية قائلا :" نشعر بحزن و قلق حيال القرار الذي أخذه القضاء التركي بشأن آيا صوفيا هذا سيفتح الباب لمزيد من الخلافات و التقاطبات" ، لان الغرب يدرك جيدا أن هذا الانجاز سوف يضع تركيا في المضمار الصحيح ، و في هذا السياق قال نجم الدين اربكان :" إذا رُفع الآذان في آيا صوفيا ، فإعلموا بأن الإسلام هو المهيمن في تركيا " .
إن طريقة إعلان القيادة السياسية التركية عن إيجاد حقل للغاز كان على شاكلة حرب نفسية ، ترك العالم في وضع متوتر يترقب جديد تركيا بعد استخدام اردوغان لعبارة " سأزف يوم الجمعة بشرى للعالم " ، لذلك و على وقع الصدمة تشكلت كتلة من المواقف المتعصبة تضمنت دول الإتحاد الأوروبي ، الولايات المتحدة الأمريكية ، بعض الدول العربية ضد تركيا ، و التي كان من المفترض أن تلتزم الحياد من اجل إيجاد تسويات دبلوماسية . حتى الموقف الألماني و الذي يُفترض أن يكون محايدا ، دعت ميركل أوروبا للوقوف إلى جانب اليونان في نزاعها ضد تركيا.
بينما يثير الموقف الفرنسي تساؤلات عدة ، عن تدخلها في مسألة لا تعنيها سوى اتساع نطاق التوتر و طول مدته بسبب تصريحات ساستها ، غير أنها أجابت بطريقة غير مباشرة عن سبب رفضها مطلب تركيا التاريخي المتمثل في الانضمام للحضيرة الأوروبية ، و بدى الموقف الفرنسي شبه تائه و مجنون و غير مبرر بالبتة .
فهل يريد الموقف الغربي أن يتذرع باليونان ليوخز تركيا و يكبح تحركاتها و بالتالي يحد من نشاطها المتواصل في الصعود و التمدد ، تخوفا من سنة 2023 ؟
أم أن تحدي تركيا للكبار و بدايات الخروج من قوقعتها في هذا الحيز الإقليمي الحساس وحَد المواقف و الرُؤى الغربية و هو الظرف المناسب في تقديرهم لإرجاع تركيا إلى حجمها السابق ؟
غير أن الموقف العربي تجاه مسألة التوتر اليوناني التركي ظلت تشوبه إعاقة ذهنية ، و هو ليس بالجديد ، طالما انه لا زال العرب لحد الآن لا يفرقون بين من هو الصديق و من هو العدو، ربما كمراهق لا يعرف مواطن الخطأ و مواطن الصح .
من الأمور المسلم بها أن الدول العربية ظلت تابعة في سياساتها الخارجية للدول التي صنعتها أو إستعمرتها ، كما أن شكل الدولة الفيبري – نسبة إلى ماكس فيبر- فرضهالغرب على الدول العربية وفق معاهدة سايس بيكو 1918 ،هذه التوليفة – أي سياسات الفرض و المساومة - هي ذاتها التي استمرت لليوم على شاكلة دخول الإمارات العربية المتحدة و مصر مشاركةً بقواتها إلى جانب اليونان في مناوراتها العسكرية ، غير أن الموقف الإماراتي و المصري لا يمثل جميع الدول العربية و لا يمكننا التعميم ، و لأنه يُقال "لابد من العودة للتاريخ لفهم السياسة " فالتاريخ يعيد نفسه ، لان المشرق العربي سبق و أن ثار ضد الدولة العثمانية استجابة لضغوط بريطانيا و فرنسا ، فقد تضمنت مراسلات حسين شريف مكة إلى هنري ماكماهون المفوض السامي البريطاني في مصر الوعود بالاستقلال العربي من حكم العثمان ، في هذا الصدد جاءت التيارات العربية مناهضة لسياسة التتريك في دول الشام و الشرق الأوسط لكنها كانت تتلقى الدعم الفرنسي و الإنجليزي و كان العمل ممنهج لاجتثاث النسق العثماني و إضعافه بواسطة نخب متغربة الفكر.
غير أننا المتعمق في أغوار التاريخ يجد أن العلاقات العربية التركية لها روابط و مقومات تاريخية حضارية مشتركة ، حيثيعود أول اتصال بين العرب و الأتراك إلى عام 54 هجري في عصر معاوية بن أبي سفيان ، عبر والي خرسان "عبيد الله بن زياد" نهر جيجون إلى بلاد الأتراك و أرسل ألفي فتى من فتيان الأتراك إلى العراق لينظموا للجيش العربي، و بعد ذلك اخذ الأتراك ينظمون إلى الإسلام جماعات و فرادى" ، كما تزوج العديد من الخلفاء العباسيين من تركيات، و بما أن العرب كانوا العنصر الغالب عددًا و شأنا فقد أخذت العربية تفرض نفسها على اللغة التركية حيث استعارت جميع أحرف الأبجدية العربية .
مما تقدم توصلنا إلى التحليل التالي :
• اختلاف الرؤى و المواقف بين أقطاب الاتحاد الأوروبيتجاه تركيا في أزمة شرقي المتوسط يعكس سياسة أمنية و خارجية غير موحدة لدول النادي الأوروبي.
• ألمانيا تمتلك ورقة الضغط لجعل اليونان تذعن و تتراجع عن التصعيد و تقبل بالتفاوض منها دفتر الشيكات الأوروبي و المساعدات ...
• التراشق الكلامي بين ماكرون و اردوغان و مطالبة فرنسا بوضع خطوط حمراء لتركيا في شرق المتوسط سببه فضح تركيا لمخططات فرنسا في ليبيا و تونس و لبنان ، و تجاوز تركيا الحدود الموروثة عن التاريخ حسب تصور فرنسا .
• التوتر في شرقي البحر المتوسط لا يمكن حله إلا بالآليات الدبلوماسية و الإحتكام للقانون الدولي ، رغم أن تركيا قدمت نوايا حسنة و مساعي حميدة إلا أنَ اليونان تعنتت و لم تبدي أي تعاون و لا تعبير عن حسن نية رغم أن هناك أعضاء في البرلمان اليوناني يميلون إلى فكرة أنه لابد من تحسين العلاقات مع تركيا سلميا مؤكدين على فرصة التعاون مع تركيا و ليس التصادم .
و كمحصلة ، أظهرت المواقف المختلفة المعارضة لتركيا عن عزلتها و عدم وجود حلفاء لها في المتوسط ، فالدول تميل للصراع أكثر من ميلها للتعاون في ظل عالم يتجه نحو نضوب الموارد و الثروات، و التي تعتبر معيارا لتصنيف اقتصاديات الدول .
إن طبيعة الصراع ضد تركيا ليس فقط اقتصاديا ولا سياسيا ولا عسكريا لأنها دولة تصطبغ بكل تمظهرات الحداثة الغربية و هي مزيج معاصر متجانس لعدة مراحل تاريخية سابقة ، لكنه بالأساس صراع حضاري ديني ، مشبع بالتخوف من عودة العثمانيين و المطالبة باقليمهم التاريخية المسلوبة ، و زيادة حيازة حزب ذو توجه إسلاميعناصر القوة في العلاقات الدولية ، و هو ما سيغير الخارطة الجيو-سياسية في المتوسط و في الشرق الأوسط ككل . غير أن تصريحات داوود أوغلو رئيس "حزب المستقبل" ضد سياسات اردوغان فيها نوع من الصحة و المنطقية ، لان اردوغان تجاوز المرجعيات الفلسفية الناظمة لسلوك تركيا خارجيا ، منها مبدأ صفر و مبدأ الدبلوماسية و الأمن الإقليمي . لكن لابد على اردوغان أن يُقوي جبهته الداخلية و لا يستأثر بالسلطة أكثر و إلا سيقود انجازاته نحو الهاوية ، فالمعارضة الفرنسية ماري لوبان رغم خلافها الكبير داخليا مع ماكرون إلا أنها تقف إلى جانبه خارجيا ضد تركيا .
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس