سعيد الحاج - مؤتمر مركز بيت الحكمة
بعد عدة جولات تفاوضية بين الطرفين التركي و”الإسرائيلي”، تواترت التقارير الإعلامية والتصريحات السياسية في كل من أنقرة وتل أبيب حول قرب إنجاز اتفاق ما لتطبيع العلاقة بينهما، بعد حوالي ست سنوات من القطيعة الدبلوماسية بينهما على خلفية الاعتداء على سفينة “مافي مرمرة” وسقوط عشرة شهداء أتراك.
ما يميز هذه التقارير والتصريحات عن سابقاتها هو ورودها من الطرفين إضافة إلى تناولها تفاصيل دقيقة متعلقة بالاتفاق المفترض، وهو ما يعطيها نصيباً أكبر من المصداقية من سابقاتها، حين كانت دولة الاحتلال تسرب خبر قرب إبرام الاتفاق في ظل نفي تركي.
تبحث هذه الورقة في فرص إبرام اتفاق بين الطرفين لتطبيع العلاقات، والمدى الذي يمكن أن تصله العلاقات إن عادت، فضلاً عن انعكاسات ذلك على القضية الفلسطينية، عبر تحليل يتناول محددات العلاقة بين الطرفين، وتاريخية العلاقة، والظروف المحفزة للتقارب بينهما، ومعيقات ذلك، بطرح السيناريوهات الواقعية المحتملة.
خلفية تاريخية
تربط تركيا بدولة الاحتلال علاقات قديمة امتدت على مدى عشرات السنين، إذ كانت من أوائل الدول التي اعترفت بها عام 1949، كأول دولة مسلمة تفعل ذلك. ثم، وبعد انضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي عام 1952، تعمقت العلاقة بينهما أكثر خاصة في المجالين العسكري والأمني، نتج عنها توقيعهما – مع إثيوبيا – الاتفاق الإطاري أو حزام المحيط عام 1958.
وبعد فترات من المد والجزر في العلاقات الثنائية، كان الانقلاب العسكري في تركيا عام 1980 نقطة تحول في هذه العلاقات التي تسارعت وتعمقت وتجذرت في مختلف المجالات، وشهدت في بداية التسعينات فترتها الذهبية، التي وصلت لذروتها بزيارة رئيسة الوزراء التركية تانسو تشيلر لـ”إسرائيل” عام 1994، ثم زيارة الرئيس سليمان دميريل لها عام 1996.
عام 1996 شهد توقيع الطرفين على عشرات الاتفاقيات في المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، أهمها تدريب الطيارين “الإسرائيليين” في تركيا، وتطوير الدبابات والمقاتلات التركية في “إسرائيل”، وتواجد مقاتلات “إسرائيلية” على الأراضي التركية، فضلاً عن تعميق مستوى التعاون الاستخباري على مستوى الأجهزة الرسمية وتبادل المعلومات وتواجد مراكز تنصت وإنذار مبكر على الأراضي التركية تتجسس عبرها “إسرائيل” على بعض دول الجوار ومنها العراق وسوريا.
ولم يؤد وصول حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية – على مستوى قياداته وليس على مستوى برنامجه – للحكم في تركيا عام 2002 إلى تدهور العلاقات بين البلدين، ولم يسع الحزب لذلك، بل استمر التطور فيها وحصلت زيارات دبلوماسية متبادلة على أعلى مستوى بين الطرفين أهمها زيارة كل من وزير الخارجية التركي حينها عبدالله غل ثم رئيس الوزراء وقتئذ رجب طيب اردوغان لـ”إسرائيل” عام 2005، والتي لاقت ترحيباً “إسرائيلياً” كبيراً.
وبالتوازي مع العلاقات الاقتصادية المتطورة باضطراد واضح بين الطرفين، حاولت تركيا لعب دور الوسيط بين “إسرائيل” ودول عربية وإسلامية مثل سوريا والباكستان، قبل أن تتدهور علاقاتها مع دولة الاحتلال على إثر العدوان على غزة عام 2008، والتي اعتبرته تركيا طعنة في ظهرها وخيانة لجهدها المبذول على جبهة العلاقات السورية – “الإسرائيلية” والتي رعت تركيا فيها مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين.
لاحقاً، مرت العلاقات الثنائية بعدة منعطفات وأزمات، مثل حادثة منتدى دافوس التي وجه خلالها اردوغان لرئيس دولة الاحتلال شمعون بيريس انتقادات حادة قبل أن يغادر الجلسة احتجاجاً، وأزمة إهانة السفير التركي في “تل أبيب” حين تعمد الجانب “الإسرائيلي” إجلاسه على مقعد “أوطأ” من مقعد المسؤول “الإسرائيلي”، حتى وصلت الذروة بالاعتداء على سفينة مرمرة التي كانت جزءاً من أسطول الحرية الرامي لكسر الحصار عن غزة، والتي انقطعت العلاقات الدبلماسية بين الطرفين على إثرها واستمرت كذلك حتى الآن.
محددات العلاقة مع “إسرائيل”
ثمة محددات وأسس كثيرة صاغت سابقاً وتصوغ إطار علاقة تركيا في عهد العدالة والتنمية بدولة الاحتلال، أهمها:
أولاً، البناء على العلاقة الممتدة بين الطرفين على مدى عشرات السنوات، وعدم القدرة على – وربما غياب النية لـ – إحداث تغييرات جذرية ومباشرة فيها.
ثانياً، مراعاة الأوضاع السياسية في البلاد حين تسلم الحزب الحكم، وخصوصاً وصاية المؤسسة العسكرية التركية على المشهد السياسي، وهي صاحبة العلاقات المتميزة مع “إسرائيل”.
ثالثاً، وضع العلاقة تحت بند الخطوط العامة للأمن القومي التركي ومصالح تركيا التي أعاد الحزب الحاكم تفسيرها وصياغتها ولم ينقلب عليها بشكل دراماتيكي.
رابعاً، نظرية الحزب في ضرورة تطويع السياسة للاقتصاد في السياسة الخارجية – أي “الارتباط المعزز” بينهما – في ظروف العلاقات الطبيعية مع الدول، والفصل – “فك الارتباط” – بينهما في فترات التوتر، أي الحفاظ على العلاقات التجارية والاقتصادية رغم الخلافات السياسية، وهو ما فعلته تركيا بعد أزمة سفينة مرمرة.
خامساً، تجنب تركيا للمواجهات المباشرة والحادة مع أي طرف، وصعوبة تحركها منفردة دون شركاء إقليميين، بغض النظر عن مدى ارتفاع سقف الخطاب.
سادساً، اعتبار العلاقة مع دولة الاحتلال جزءاً من منظومة علاقات تركيا الغربية – الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي – ومفتاحاً لنيل ثقة هذه الأطراف من خلال العلاقة الجيدة – أو على الأقل غير المتأزمة – معها.
سابعاً، حاجة تركيا لـ”إسرائيل” في عدة مجالات، وتحديداً التعاون الأمني وتطوير الأسلحة والصناعات الدفاعية، خصوصاً في سنوات حكم العدالة والتنمية الأولى.
ثامناً، مراعاة التدرج في العلاقة، بحيث تنعكس قوة وضع الحزب الداخلي على العلاقة مع دولة الاحتلال، تخففاً من بعض الالتزامات والروابط، بشكل هادئ وبطيء لا يؤدي إلى أزمات حادة معها ولا يستثير الغرب ضد أنقرة.
تاسعاً، عدم تجاوز السقف العربي – الدولي في التعامل مع القضية الفلسطينية، والالتزام بالحل السياسي لها وفق رؤية “حل الدولتين” والمبادرة العربية للسلام، بل والدعوة لإشراك حركة حماس في عملية التسوية.
عاشراً، عدم تخطي حدود الدعم السياسي – الإعلامي – المالي للفصائل الفلسطينية، مع مراعاة أن يكون الدعم المالي تحديداً على شكل معونات إغاثية وإنسانية ومشاريع دعم للبنية التحتية لعدم الإضرار بالعلاقة مع دولة الاحتلال قبل الأزمة معها.
وبناء على هذه المحددات وفي ضوئها نسج العدالة والتنمية علاقات تركيا مع “إسرائيل” على مدى سنوات، حتى تأزمت العلاقة معها على عدة مراحل كما ورد آنفاً. ورغم أن الحكومة التركية لم تكن داعمة لفكرة أسطول الحرية ورحلته لكسر الحصار عن قطاع غزة عام 2010، إلا أن الاعتداء عليه وقتل عشرة مواطنين أتراك (تسعة مباشرة، وواحد بعد أشهر من العلاج تأثراً بجراحه) وضعها في موقف الذود عن سيادة البلاد ومواطنيها.
ولذلك فقد اتخذت تركيا عدداً من الإجراءات العقابية تجاه “إسرائيل”، مثل سحب السفير التركي وطرد السفير “الإسرائيلي”، وإلغاء مناورات عسكرية ثنائية مبرجمة مسبقاً، وإلغاء صفقات سلاح ومنها شراء طائرات بدون طيار منها، فضلاً عن تجميد عشرات الاتفاقيات في مختلف المجالات معها. لاحقاً، أعلنت تركيا شروطها الثلاثة لعودة العلاقات إلى سابق عهدها مع “إسرائيل”، والتي تمثلت في الاعتذار عن الاعتداء، ودفع تعويضات مادية لعائلات الشهداء العشرة، وكسر الحصار عن قطاع غزة.
محفزات التطبيع والعقبات أمامه
بدأت اللقاءات الثنائية بهدف تطويق الأزمة بين الطرفين مبكراً جداً، حيث التقى وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو سراً بوزير الصناعة والتجارة “الإسرائيلي” بنيامين بن إليعازر في بروكسل في الأول من تموز/يوليو 2010 دون أن يفضي ذلك اللقاء إلى نتيجة إيجابية.
تتالت اللقاءات بين مسؤولي البلدين وتكرر الفشل في التوصل لاتفاق ما بسبب إصرار تركيا على شروطها الثلاثة ورفض “إسرائيل” لها، حتى حمل عام 2013 جديداً باعتذار بنيامين نتنياهو من اردوغان – بضغط من الرئيس الأمريكي باراك أوباما- في شهر آذار/مارس، فيما بقي الشرطان الآخران دون تنفيذ حتى اليوم.
بعد هذا الاعتذار تسارعت اللقاءات بين الطرفين، فاجتمعا في أنقرة في أبريل/نيسان ثم في القدس في أيار/مايو من عام 2013، ثم توصلا إلى مسودة اتفاق لم يكتب له الخروج إلى حيز التنفيذ.
وافقت “إسرائيل” عام 2014 على تعويض أسر الضحايا بمبلغ 20 مليون دولار، دون أن تنفذ ذلك، والتقى الطرفان مرة أخرى في حزيران/يونيو 2015، قبل أن تسرب وسائل الإعلام العبرية أخباراً عن “اتفاق قد تم فعلاً” بين الطرفين. بينما بدى الموقف التركي في المقابل مرتبكاً بعض الشيء، فتذبذت تصريحات المسؤولين الأتراك بين الإقرار بوجود محادثات ونفي توقيع اتفاق نهائي، بين الحديث عن ثبات الموقف التركي من سياسات “إسرائيل” واعتبار “الشعب الإسرائيلي صديقاً للشعب التركي”، بين الرغبة في التقارب باعتباره مصلحة “للبلدين والمنطقة” والتباهي بأن تركيا هي أول دولة “ترغم إسرائيل على الاعتذار”، بين التأكيد على شروط أنقرة الثلاثة في بعض التصريحات وذكر صيغة “تخفيف الحصار” بدل “رفع الحصار” في بعضها الآخر.
تتميز الجولات الأخيرة من المفاوضات بين الطرفين عن سابقاتها بتضافر مجموعة من العوامل المحفزة، منها ما هو متعلق بالظرف الإقليمي – الدولي الدافع للطرفين نحو التقارب، ومنها ما هو خاص بكل منهما على حدة، ومنها ما هو مرتبط بما سبق من مباحثات، مثل:
– عدم ممانعة تركيا عودة العلاقات من الناحية المبدئية وربطها الأمر بشروط إجرائية.
– تضرر الطرفين من فترة انقطاع العلاقات الدبلماسية، فتركيا فقدت القدرة على لعب دور مؤثر في القضية الفلسطينية بعد تردي علاقاتها مع كل من تل أبيب والقاهرة، بينما حال الفيتو التركي دون مشاركة “إسرائيل” في بعض أنشطة ومناورات حلف الناتو، فضلاً عن أنها فقدت حليفاً مهماً لها في فترة تمر فيها المنطقة بتحولات سياسية – اجتماعية ضخمة تمتاز بسيولة كبيرة ونتائج غير متوقعة.
– الانتهاء منذ فترة طويلة من الشرطين الأولين، ووقوف المحادثات عند الشرط المتعلق بحصار غزة.
– إرادة الطرفين بترميم العلاقة بينهما لطي صفحة الخلاف والتوتر.
– الضغوط الأمريكية على حليفيها الاستراتيجيَيْن في المنطقة للتقارب في ظل المتغيرات الإقليمية الكثيرة.
– قناعة الطرف “الإسرائيلي” بعدم جدوى تأخير الملف أكثر من ذلك، بعد أن كان يراهن على تراجع آخر لحزب العدالة والتنمية في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر الفائت يضعف موقف تركيا في المباحثات. بينما أعادت الانتخابات الحزب إلى أغلبيته البرلمانية وساعدته على تشكيل حكومة قوية بمفرده، فاضطر نتنياهو لتفعيل الملف المجمد على طاولته منذ 2014.
– تطورات الأزمة السورية وما نتج عنها من مهددات مشتركة للطرفين، في مقدمتها تنظيم الدولة – داعش.
– التواجد الروسي العسكري المباشر في سوريا منذ نهاية أيلول/سبتمبر الماضي، وهو عامل مهدد لكلا الطرفين، بغض النظر عن درجة التنسيق بين روسيا و”إسرائيل”.
– النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، وخاصة سوريا، والذي ينظر له الطرفان بنوع من الريبة، تحديداً بعد الاتفاق النووي بين إيران ودول (5 زائد 1) الذي يتوقع أن يزيد من هذا النفوذ.
– الحاجة المتبادلة في ملف الغاز الطبيعي، بعد العقوبات الروسية الاقتصادية على تركيا واكتشاف حقول على الشواطئ الفلسطينية واللبنانية تتجه “إسرائيل” للسيطرة عليها واستثمارها، بحيث تقلل تركيا من نسبة اعتمادها على الغاز الروسي (%55 من حاجة تركيا من الغاز الطبيعي يأتي حالياً من روسيا)، وتجد “إسرائيل” سوقاً جديدة وممراً لعبور “غازها” إلى الدول الأوروبية.
– العزلة التي تعانيها تركيا في المنطقة، والنداءات المتكررة من مسؤولين في الحكومة والحزب الحاكم بضرورة مراجعة السياسة الخارجية وتصويب مسارها، في محاولة لتقليل الخصوم وتدوير الزوايا مع عدد من دول المنطقة.
– تأييد جزء مهم من المعارضة التركية (حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي تحديداً) لتعديل سياسة تركيا الخارجية، وخصوصاً في جزئية إعادة العلاقة مع “إسرائيل”.
– رغبة تركيا في كسب دعم يهود روسيا لكبح جماح بوتين في حزمة عقوباته ضد تركيا، فضلاً عن زيادة التوتر معها.
– انشغال أنقرة بالتصعيد العسكري مع حزب العمال الكردستاني منذ تموز/يوليو الماضي، ورغبتها في التركيز على حسمه أولاً، وتحييد العامل الخارجي في إذكائه ثانياً.
– التخوف التركي من تسارع خطوات المشروع السياسي لأكراد سوريا على حدودها الجنوبية، وهو ما تعتبره أنقرة خطاً أحمر وفق معايير أمنها القومي، مضافاً للعلاقات التي تربطهم بدولة الاحتلال سياسة وتسليحاً. حيث تأمل تركيا أن تحد من طموح حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري) في إقامة ممر كردي شمال سوريا يمتد من حدود العراق إلى البحر المتوسط، من خلال التقارب مع تل أبيب وإرضائها.
– رغبة تركيا بتسجيل إنجاز سياسي لها من خلال إسهامها بتخفيف الحصار عن قطاع غزة، ووصول مباحثات “تثبيت وقف إطلاق النار” غير المباشرة بين “إسرائيل” وحماس إلى طريق مسدود، الأمر الذي قد يجعل من أي اتفاق تركي – “إسرائيلي” مقدمة لتسوية إقليمية شاملة.
– تطور العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين منذ 2010 – بل منذ تسلم العدالة والتنمية الحكم عام 2002 – رغم الأزمة الدبلماسية بينهما، ورغبتهما في زيادة حجم التبادل التجاري بينهما، ومركزية المصالحة السياسية في هذا السياق. وهذا جدول يوضح حجم التبادل التجاري بينهما (الوحدة: ألف دولار أمريكي):
* لمقارنة عام 2015 مع 2014، تم حساب حجم التبادل التجاري بين الطرفين خلال الشهور العشرة الأولى، باعتبار أن وزارة الاقتصاد لم تعلن بعد عن أرقام الشهرين الأخيرين من عام 2015.
من ناحية أخرى، لا زالت تقف أمام هذه المباحثات – كما سابقاتها – عدة عقبات، في مقدمتها:
– رفض دولة الاحتلال لرفع الحصار بشكل كامل عن قطاع غزة، باعتبار أنه سيكون عاملاً مساعداً لفصائل المقاومة هناك.
– تعذر تنازل تركيا عن شرط رفع الحصار تماماً، على الأقل لأنه سيسيء لسمعتها في المنطقة وبين الفلسطينيين خاصة، وسيحرجها أمام الرأي العام التركي في الداخل.
– المعارضة الشعبية في تركيا للاتفاق، فضلاً عن معارضة وقف الإغاثة الإنسانية (İ.H.H.) الذي سيَّر سفينة مافي مرمرة لتطبيع العلاقات بهذا الشكل، سيما وأن التسريبات الإعلامية تحدثت عن تعهد تركيا بوقف كافة القضايا المرفوعة ضد قادة “إسرائيليين” في تركيا.
– حملات التراشق الإعلامي بين الطرفين خلال فترة المقاطعة، والتي زادت من الفجوة بينهما، سيما على المستوى الشخصي بين اردوغان ونتنياهو.
– الإشارات الكثيرة والتصريحات التي صدرت عن تل أبيب فرحاً واستبشاراً بتراجع العدالة والتنمية في انتخابات حزيران/يونيو 2015 باعتباره تمهيداً لخسارة حركة حماس أحد داعميها الإقليميين.
– الاتهامات التركية لـ”إسرائيل” باستهداف تركيا، عبر الورقة الكردية في الداخل والشمال السوري، فضلاً عن التسريبات الحكومية بعلاقة خاصة تربط جماعة فتح الله كولن المتهمة بتأسيس تنظيم سري للسيطرة على الحكم في البلاد بتل أبيب.
– تراجع حاجة تركيا لـ”إسرائيل” في مجالات الصناعات الدفاعية واستيراد الأسلحة، بعد أن نوعت مصادر استيرادها للأسلحة، فضلاً عن قطعها أشواطاً مهمة – ما زال أمامها الكثير – في الصناعات المحلية في مجال السلاح.
– غياب إجماع “إسرائيلي” داخلي على ملف المصالحة مع تركيا، وصعوبة تسويق نتنياهو اتفاقاً مع أنقرة لشركائه في الائتلاف الحكومي اليميني.
– تكرر فشل جولات المباحثات السابقة، ونشوء حالة من عدم الثقة لدى الجانبين في نوايا الطرف الآخر.
– تحفظ مصر على التقارب بين “إسرائيل” وتركيا، وفق ما تسرب من أخبار في الإعلام “الإسرائيلي”، وعدم رغبة “تل أبيب” بخسارة القاهرة من أجل اتفاق غير مضمون الإبرام ثم العواقب مع أنقرة.
– مواقف تركيا من الثورات العربية وقضايا المنطقة التي لم تتغير في خطوطها العامة، وما زالت تتعارض مع رؤية ومصالح “تل أبيب”.
– تعرف “إسرائيل” أن أي اتفاق لإعادة العلاقات مع تركيا لا يضمن لها بالضرورة تحجيم العلاقة بين الأخيرة وحركة حماس، وأنها لا تقدر على إجبار أنقرة على ذلك، وهو شعور غذته بعض الرسائل المتضمنة في دعوة الأخيرة لرئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في ذروة الحديث عن المصالحة المرتقبة بين الطرفين.
السيناريوهات الواقعية المحتملة
إن الاحتمالات المتعلقة بشكل العلاقات الثنائية بين الجانبين مستقبلاً من الناحية النظرية عديدة ومتنوعة، بيد أنه من الناحية العملية يمكن استبعاد بعض لانتفاء إمكانية حدوثها واقعياً أو على الأقل ضعف فرصها بشكل كبير. فلا ترى هذه الورقة أن سيناريوهات مثل تطبيع العلاقات بين الطرفين بتقديم أحدهما تنازلاً كاملاً للآخر (كسر تام للحصار، أو تخل كامل عن هذا الشرط)، أو تأزم العلاقات بين الجانبين بشكل كبير يصل لدرجة انهيار المباحثات تماماً وعدم العودة إليها مطلقاً، أو بقاء الحال كما هو عليه بلا أفق للحل بين الطرفين، لا ترى أنها سيناريوهات وافرة الحظ عملياً. ولذا يقتصر هذا البحث على سيناريوهين اثنين ممكنـَي الحدوث ووافرَي الحظ واقعياً:
الأول، بلورة اتفاق ما بين الطرفين يجسر الهوة بينهما ويعيد العلاقات الدبلماسية إلى سابق عهدها، وهو السيناريو المرجح برأينا، بغض النظر عن تحققه قريباً أو على المدى المتوسط. بل إن التصريحات المتفائلة وشبه الحاسمة من الطرفين يؤيد هذا الاحتمال وتقويه. وفق هذا السيناريو سيستطيع الوفدان المختصان من الطرفين الاتفاق على حل وسط بين كسر الحصار التام أو التخلي عنه بشكل كامل، لا يمس خطوط “إسرائيل” الحمراء المتعلقة باستفادة قوى المقاومة الفلسطينية من كسر الحصار ولكن أيضاً لا يحرم تركيا تماماً من تسويقه على أنه “كسر” أو “تخفيف” للحصار المفروض على القطاع منذ سنوات.
هذا الحل الوسط سيكون – وفق ما توقعنا سابقاً ووفق ما رشح من تفاصيل – على شكل ممر بحري تركي نحو قطاع غزة لإدخال المواد إليه، بمعنى منح تركيا وضعاً خاصاً، لسفنها ومؤسسات المجتمع المدني فيها، للدخول إلى غزة، فضلاً عن تسهيل إعادة الإعمار ومساهمة تركيا في حل مشكلة الكهرباء عبر “سفينة عائمة” مقابل شاطئ غزة.
بيد أن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة عودة العلاقات التركية – “الإسرائيلية” إلى حالة التحالف الاستراتيجي التي عرفها الجانبان في تسعينات القرن الماضي. ذلك أن حجم المتغيرات على طرفي المعادلة كبير جداً، فلا تركيا اليوم هي تركيا الأمس ولا حاجتها لـ”إسرائيل” هي نفس الحاجة، ولا يمكن تصور عودة التعاون الاستخباري – مثلاً – بين الطرفين لحالة التبعية التي كانت تعاني منها تركيا سابقاً. الأرجح، في هذا السياق، هو عودة التمثيل الدبلماسي وتطور العلاقات الاقتصادية في قطاعي التجارة البينية والسياحة، والتعاون تحت أطر المنظمات الدولية – وخاصة حلف الناتو – في القضايا ذات الاهتمام المشترك، لكن باحتفاظ كل طرف برؤيته وأولوياته بل وهواجسه من الطرف الآخر.
أخيراً، لا يتوقع أن ينعكس هذا السيناريو بشكل كارثي على الطرف الفلسطيني، وخاصة حركة حماس. فالعلاقة بين تركيا والحركة ليست مبنية بشكل كامل على الخلاف التركي – “الإسرائيلي” ولذلك فليس من المتوقع أن تتبدل بنسبة 180 درجة لدى عودة العلاقات. فالعلاقات التركية – الفلسطينية والتركية – “الحمساوية” تسير وفق أطر ومحددات عدة، منها التاريخي والسياسي والديني والمبدئي والمصلحي، ولا يمكن لها أن تنقلب رأساً على عقب بمجرد عودة العلاقات بين الطرفين.
أكثر من ذلك، يحاجج البعض – ولديه بعض الحق – أن العلاقات التركية – “الإسرائيلية” إن عادت بمستوى ما لن تكون شراً محضاً، بل قد تنطوي على بعض الفائدة للقضية الفلسطينية، من حيث امتلاك تركيا مجدداً القدرة على الضغط على دولة الاحتلال بفعل العلاقات الناشئة، وهو الأمر الذي كانت أنقرة تفتقده خلال فترة العلاقات المجمدة مع دولة الاحتلال.
الثاني، فشل هذه الجولة من المحادثات بين الجانبين، في انتظار تطورات محلية و/أو إقليمية تعيد فتح الملف وتجلس الطرفين إلى الطاولة مرة أخرى في محاولة جديدة للتقارب، قد تكون أوفر حظاً من الجولة الحالية. هذا السيناريو الأقل حظاً – بكثير – من سابقه يعني أن العوامل المحفزة الكثيرة التي سبق ذكرها لم تكن كافية لتجاوز الجانبين العقبات الماثلة في الطريق، أو أن المهددات المشتركة لم تسعفهما لجسر أزمة الثقة بينهما، أو أن المشهد الداخلي على طرفي المعادلة ما زال أقوى من المحفزات الإقليمية.
وعليه، سيبقى الوضع – وفق هذا السيناريو – كما هو عليه الآن: استعداد مبدئي من الجانبين للتصالح، وإرادة متبادلة بإنهاء القطيعة، وشروط تركية ماثلة وإن بدت اليوم أكثر مرونة من ذي قبل، وتشوف “إسرائيلي” لأي حل يمكن تسويقه في الداخل على أنه لم “يكسر” الحصار عن “القطاع المتمرد” الذي يؤوي “المخربين”.
بيد أن فشل هذه الجولة لا يعني أن الجانبين سيعودان لنقطة الصفر مرة أخرى، فالسياقات المذكورة آنفاً، إضافة لاتفاق الطرفين على النقاط المتعلقة بهما – حصار غزة يخص طرفاً ثالثاً في نهاية المطاف – حتى الآن، فضلاً عن ثبات بل وتطور عدد من المخاطر المشتركة، كلها عوامل تعني أن التعاون في الحد الأدنى بينهما سيظل قائماً بغض النظر عن التمثيل الدبلماسي بينهما، دون أن ننسى أن العلاقات الاقتصادية في نمو مستمر ويتوقع أن تزداد سرعة نموها بعد الأجواء الإيجابية التي عكسها الطرفان.
أخيراً، ومن جهة أخرى، فإن تأجيل إبرام الاتفاق بسبب فشل هذه الجولة من المباحثات لا يعني أيضاً بالضرورة أن تجاوز أنقرة لبعض الخطوط والسقوف في علاقاتها الفلسطينية و”الحمساوية” سيستمر بنفس الشكل والوتيرة، ولا أن “الامتيازات” التي حصلت عليها حماس تحديداً غير قابلة للتراجع. فرغبة الطرفين في تحسين العلاقات تتطلب إجراءات بناء ثقة من الجانبين، وليس أنسب من العلاقة مع حماس لتكون عنوان هذه الإجراءات بالنسبة للطرف التركي، فضلاً عن أن العلاقة مع الأخيرة تستجلب ضغوطاً على أنقرة من حلفائها الآخرين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، دون أن نغفل أن بعض هذه “الإجراءات” قد تم بالفعل على مدى الشهور السابقة إما كمبادرة من طرف حماس أو على شكل “رجاء” وتنسيق بين أنقرة والحركة، ومن ذلك مغادرة بعض قياداتها الأراضي التركية بعيد انتخابات حزيران/يونيو 2015.
خاتمة
بعد حوالي ست سنوات من القطيعة الدبلماسية بين تركيا و”إسرائيل”، يبدو الطرفان أقرب من أي وقت مضى لجسر هوة العلاقات بينهما وإعادتها لوضعها الطبيعي أو قريباً من ذلك، تأثراً بعوامل وسياقات عدة محلية وإقليمية.
الأجواء الإيجابية التي عبر عنها الطرفان، وخاصة التركي، تعكس بالضرورة التقدم الحاصل في هذه المباحثات بنفس القدر الذي تعكس فيه رغبة الجانبين وحاجتهما لهذا التقارب. ويبدو وفق ما رشح من تصريحات سياسية وتقارير إعلامية أن النقاش بين الطرفين يدور حالياً حول تفاصيل التفاصيل، أي الضمانات التي طالبت بها “إسرائيل” لعدم تخطي الدعم التركي للقطاع خطوطها الحمراء، ولذلك فقد طالبت أن تكون لها رقابة مباشرة على السفن التركية وعلى موضوع مد القطاع بالكهرباء، بينما تريد تركيا للرقابة أن تكون دولية، وهو أمر يمكن الوصول إلى حلول ما بخصوصه في المدى القريب المنظور برأينا.
ترجح هذه الورقة إذن سيناريو تطبيع العلاقات وعودة التمثيل الدبلماسي بين الطرفين، بيد أن كم المتغيرات خاصة فيما يتعلق بتركيا لا ينبئ بعودة التحالف الاستراتيجي بينهما بقدر ما يمكن اعتباره “اتفاق الضرورة” و”تحالف الخصوم” في ظل الظروف المستجدة.
وبكل الأحوال، أشَهدنا اتفاقاً يعيد العلاقات بين الطرفين أم تأجل ذلك إلى حين، فإن حداً أدنى من التعاون لا شك موجود بفعل انضواء الطرفين تحت نفس المظلة في بعض الملفات الإقليمية، وهو ما يعني مرة أخرى أن تركيا 2016 ليست أبداً تركيا 2011، وقد دخلت فعلاً في مرحلة إعادة النظر والتقييم لسياساتها الخارجية وبدأت استدارة ملحوظة في عدد من ملفاتها، وهو ما يفرض على الطرف الفلسطيني، بل الأطراف الفلسطينية، أيضاً تقييم موقفها وترتيب أوراقها والتكيف مع الوضع المستجد، بحيث لا يكون الاتفاق ضد مصلحتها تماماً، وبحيث لا تخسر حليفها التركي أيضاً. فعودة العلاقات الدبلماسية بين أنقرة وتل أبيب لا يعني أن تركيا تخلت عن القضية الفلسطينية ولا يعني أنها باعت الفلسطينيين، بل يعني أن سياستها الخارجية ومصالح شعبها قد فرضت عليها استدارات معينة، لم نكن نحبذها كفلسطينيين – ولا نقبلها من الناحية المبدئية والعملية – ولكن أيضاً لا تدفعنا للتشكيك بالنوايا التركية أوة الدور التركي في دعم القضية الفلسطينية، بل تبقى تركيا قبل الاتفاق وبعده – إن تم – حليفة ينبغي التنسيق والتعاون معها قدر الإمكان.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس