سعيد الحاج - TRT عربي
وإن هذه الزيارة ستهيئ الأجواء للقاء وزيرَيْ خارجية البلدين قريباً. وبالنظر لهذه الخطوة القريبة، ومسار العلاقات البينية خلال السنوات الأخيرة، والتطورات الحاصلة مؤخراً بين الجانبين، يمكن القول إن تركيا ومصر تدخلان مرحلة جديدة ومختلفة في العلاقات بينهما.
كانت العلاقات قد وصلت حد القطيعة الدبلوماسية بين الجانبين بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، الذي اتخذت أنقرة منه موقفاً حاداً جداً، رافضة الاعتراف بالنظام الجديد والتواصل معه، بعد محاولة من نائب الرئيس في حينه محمد البرادعي ثم وساطة الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى التي رفضتها أنقرة.
علماً أن القاهرة وليست أنقرة هي التي كانت بادرت إلى قرارات أدت إلى تراجع العلاقات الدبلوماسية بطرد السفير التركي، والاقتصادية بعدم تجديد اتفاقية "الرورو" للملاحة البحرية.
هذا السقف المرتفع كان مدفوعاً بأسباب تركية داخلية أكثر منها انحيازات أيديولوجية لأحد أطراف المشهد المصري الداخلي، رغم الخلفية المعروفة للرئيس أردوغان وبعض قيادات حزب العدالة والتنمية.
فتركيا بلد له إرثه المرير من الانقلابات العسكرية وتدخلات الجيش في الحياة السياسية، وبالتالي فلدى قيادتها وحكومتها حساسية مفرطة، ومفهومة، من الانقلابات العسكرية. كما أن أنقرة كانت في ذلك الوقت تحاكم المشاركين في انقلابَيْ 1980 و1997 والمتهمين بالتخطيط لانقلابات أخرى في قضايا "أرغنكون" و"المطرقة" وغيرهما، فضلاً عن أن مظاهرات 30 يونيو/حزيران التي سبقت الانقلاب في مصر تزامنت مع احتجاجات "غيزي بارك" في إسطنبول، ما أدى إلى تصوّر مفاده أن تركيا في انتظار دورها في الانقلاب بعد مصر.
وعلى الرغم من هذه الدوافع المعروفة فإن الموقف التركي استمر طويلاً، لسنوات تلت وبعد تغيرات كبيرة في مصر والمنطقة، حتى ارتفعت دعوات في أنقرة لتحسين العلاقات مع القاهرة، وهو أمر بدأ بضغوط من المعارضة التركية لكنه بات لاحقاً قناعة في ما يبدو لصانع القرار.
إلا أن السنوات الثماني الأخيرة عمّقت الهوة بين الدولتين لأسباب أبعد من العلاقات الثنائية بينهما. فقد وقف كل منهما في أحد طرفَيْ معادلة الاستقطاب الإقليمية ما بعد الثورات والثورات المضادة، بحيث تموضعت مصر مع السعودية والإمارات والبحرين بينما ظلت تركيا أقرب إلى قطر، وانعكس ذلك على المواقف من الأزمة الخليجية والقضيتين السورية والليبية (في بداياتها)، فضلاً عن أزمة شرق المتوسط التي تحولت إلى أهم أولويات السياسة الخارجية التركية.
فقد انضم هذا المحور الخليجي المصري إلى كل من اليونان و"إسرائيل" ودعمته فرنسا بشكل علني، ليتمظهر في منتدى غاز شرق المتوسط الذي تجاهل تركيا بشكل واضح ومتعمد على الرغم من امتلاكها الساحل الأطول على شرق المتوسط، وعلى الرغم من دعواتها المتكررة لحوار متعدد الأطراف يضمن حقوق الجميع.
الآن، مع تغير الكثير بالنسبة إلى الجانبين، ومع إدارة أمريكية جديدة دفعت الكثير من دول المنطقة إلى مراجعة بعض حساباتها وخطابها ومواقفها، ومع مصالح جوهرية فعلية بين البلدين لا سيما في ليبيا وشرق المتوسط، تولدت قناعة مبدئية لدى القوتين الإقليميتين بأن العلاقات بينهما لا يمكن أن تبقى على حالها، ولذا فقد سارتا معاً، وإن بسرعات متفاوتة، في عدة مراحل.
المرحلة الأولى تمثلت بفتح قنوات التواصل بين البلدين على مستوى الاستخبارات، وهو أمر منطقي كون العلاقات بين هذه الأجهزة لا تنقطع، إلا نادراً جداً، حتى بين الدول المتنافسة أو المتخاصمة.
أما المرحلة الثانية فكانت الاتفاق على تخفيف حدة التوتر بينهما، وعدم إضرار كل منهما بالأخرى في المنابر الدولية، وعلى ضرورة وضع خريطة طريق لتحسين العلاقات الثنائية، وفق ما صرح به جاوش أوغلو قبل أشهر.
بعد هذه المرحلة، وربما كجزء منها، بدأ بين الطرفين حوار غير معلن نجم عنه تنسيق في الملف الليبي، في ما يتعلق بوقف إطلاق النار وتفعيل المسار السياسي وصولاً إلى انتخابات المجلس الرئاسي.
لاحقاً، تحدث جاوش أوغلو عن بدء تواصل بين البلدين على مستوى وزارة الخارجية، ولكن القاهرة نفت ذلك عبر مصادر غير معلنة لوكالات أنباء، ما بدا وكأنه تلكؤ مقصود أو مطالبة ضمنية بما هو أكثر من ذلك.
فقد أعلنت قنوات المعارضة المصرية التي تبث من إسطنبول، الشهرَ الفائت، أن السلطات التركية طلبت منها ترشيد خطابها وتخفيف حدة انتقادها للنظام المصري ورموزه، كما ذكرت تقارير أن تعليمات مشابهة صدرت لوسائل الإعلام المصرية بعدم المساس بتركيا وأردوغان.
وعليه، وبالرغم من أن تصريح وزير الإعلام المصري المرحّب بالخطوة التركية قد مُسح من المواقع الإخبارية والرسمية المصرية، فإن الخطوة قد أرضت الجانبين في ما يبدو وأكدت التزامهما بمسار التقارب والحوار، الذي يفترض أن يُتوَّج بلقاء على مستوى وزارتي الخارجية.
ومن اللافت أن الطرف المبادر بالزيارة سيكون تركيا، وهو أمر متوقع ومتناغم مع المواقف المصرية السابقة. إذ إن النظام المصري يرى أن أنقرة هي من أخذت منه موقفاً سلبياً واحتضنت المعارضة المصرية على أراضيها، وبالتالي فالخطوة الأولى مطلوبة منها. تماماً كما صَمَتَ سابقاً إزاء التصريحات التركية الإيجابية من عدة مسؤولين أتراك في الحكومة والحزب الحاكم، وهو أمر له علاقة كذلك بالتسويق الداخلي والعلاقات الإقليمية.
بيد أن هذا "التمنّع" الإعلامي لا يعني أن القاهرة غير مهتمة أو معنية بالتقارب مع أنقرة، فهي تدرك أن لها مصلحة حقيقية معها في شرق المتوسط على وجه التحديد، وأن الاتفاق التركي الليبي لترسيم الحدود البحرية قد صبَّ في مصلحتها.
ولذلك فقد خدم الاتفاق الجزئي الذي وقعته مصر لترسيم الحدود البحرية مع اليونان سردية تركيا وحقوقها، كما رحبت الأخيرة بـ"احترام" القاهرة للحدود الجنوبية لجرفها القاري في مناقصات التنقيب عن الغاز، فضلاً عن اتصال وزير الخارجية المصري بنظيره التركي للتهنئة بشهر رمضان وشكره على عرض تركيا مساعدتها في أزمة قناة السويس الأخيرة.
إذن، فأنقرة والقاهرة اليوم تدخلان مرحلة جديدة في علاقاتهما البينية. فما المتوقع بينهما؟
لقد قطع الجانبان مراحل صعبة لكن لا ينبغي الإفراط في التفاؤل. فلقاء الوزيرين إن حصل سيكون بدوره بداية لمرحلة جديدة عنوانها علاقات شبه طبيعية بين البلدين، لكن ذلك لن يعني حل كل الخلافات القائمة بينهما.
كما ينبغي الانتباه إلى أن مسار التقارب بين البلدين كان بطيئاً نوعاً ما وأن كل مرحلة أخذت وقتاً طويلاً نسبياً، وهو المتوقع أيضاً للمرحلة المقبلة الأكثر صعوبة.
حديث الجانبين سيتطرق لمجمل الملفات الخلافية، لكنه بالتأكيد سيركز على فكرة ترسيم الحدود البحرية بينهما، وهو أمر بات ممكناً أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً أن أنقرة ما زالت مصرّة عليه وأظهرت جديتها بخصوصه رغم ردات الفعل المصرية سالفة الذكر.
بيد أن التوصل إلى اتفاق ليس أكيداً ولا قريباً جداً بالضرورة. فما زالت دونه عقبات كبيرة، في مقدمتها علاقات القاهرة الإقليمية ومدى استعدادها لتحمل ضغوطها، وإرث السنوات السابقة الذي لا يمكن أن يُمحى بجرة قلم، وعدم توافق المؤسسات المصرية على رؤية واحدة للتعامل مع تركيا.
وعليه، فإن توقيع الاتفاق بين البلدين مرتبط إلى حد كبير بمدى تحكيم العقل الاستراتيجي وتقديم المصالح الحقيقية للبلدين بعيداً عن المؤثرات الخارجية أو المواقف المسبقة أو الحسابات الشخصية. وأما تطور العلاقات بين الجانبين أبعد من ذلك، بمعنى الوصول إلى حالة التعاون فضلاً عن التحالف، فمستبعد جداً لأسباب تاريخية وجيوسياسية وواقعية.
ذلك أن فجوة الثقة بين الدولتين والنظامين كبيرة، وتحالفات القاهرة الإقليمية ما زالت مهمة لها، وتأثير انتخاب بايدن قد لا يطول. فضلاً عن أن المنطق الجيوسياسي والاقتصادي يفرض على الجانبين التنافس أكثر من التحالف، وإن كان ذلك لا يلغي مساحات التعاون والتنسيق الممكنة أو على أقل تقدير تجنب الصدام والتوتر، حين يُحَكَّمُ العقل السياسي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس