محمود عثمان – خاص ترك برس
عاشت تركيا حقبة تسعينيات القرن الماضي وحتى بداية الألفية الحالية فترة حكومات ائتلافية ضعيفة هزيلة ,تغولت عليها قوى الدولة العميقة من قضاء وعسكر وإعلام وشركات قابضة ,وكانت كل واحدة من تلك الشركات تمتلك بنكا ومحطة تلفزيون وجريدة يومية . حيث كانت تلك الأدوات يومها ضرورية لامتصاص مقدرات الدولة والتسلط على قوت الشعب .. في وقت أعمل كل من البنك الدولي وصندوق النقد مخالبهما في جسم الاقتصاد التركي , فباتت الحكومات التركية مجرد هيكل إداري مسلوب الإرادة ,موجه داخليا بواسطة أدوات الدولة العميقة , وخارجيا بأوامر الدول والمؤسسات الدائنة .
في خضم تلك الحقبة اقتحم عالم البرجوازية التركية شركة قابضة لم يسبق لها حضور في نادي الكبار من قبل . لكنها استطاعت خلال فترة وجيزة أن تنافس على الصدارة في ميادين شتى كانت السياسة أحدها. حيث دخلت عائلة أوزان بشركتها القابضة Uzan Holding عالم الاقتصاد من بوابة تكنولوجيا الاتصالات ,فامتلكت شركة تلسيم Telsim GSMثاني شركة جوال في تركيا والتي تحولت بعد شراكتها مع العملاق الأمريكي موتورولا إلى فودافون . كما كانت عائلة أوزان تملك الى جانب مصانع الإسمنت ومحطات توليد الطاقة وبنك أدا Adabankجريدة وتلفزيون ستار .
كما اقتحم الساحة السياسية التركية قبيل انتخابات عام 2002 حزب سياسي لم يسمع به أحد من قبل قلب موازين القوى رأسا على عقب .حيث أراد الشاب الوسيم جيم أوزان دخول عالم السياسة بنفس الطريقة التي دخل بها عالم المال . فاختار حزبا سياسيا مغمورا يترأسه حسن جلال كوزال وزير تربية سابق وشخصية سياسية مخضرمة مرموقة ليستحوذ عليه بعد فترة وجيزة . حيث تمكن جيم أوزان – بسخائه المفرط - من السيطرة على الحزب بشكل كامل فغير اسمه ليصبح (حزب الشباب) بعد أن قام بتصفية رئيسه وغالبية قياداته السابقة .
وعندما حل موعد انتخابات 2002 استخدم الحزب تقنيات واستراتيجيات حديثة سجلت نجاحا منقطع النظير , فعندما كان يريد تنظيم مهرجانا انتخابيا في مدينة ما , كانت عربات الطعام الجاهز تسبق الجميع فيتناول المواطن وجبة طعام يعقبها حفل غنائي لأشهر المطربين والمطربات ثم يأتي زعيم الحزب فيتكلم مدة عشرة دقائق لا تزيد ولا تنقص , فيلقي خطابا لا يعدو عن كونه شتائم لطيب أردوغان ,وشعارات يطرب لها السامع وتلامس حياة المواطن اليومية ,مثل هل تريدون طرد البنك الدولي؟ , وما رأيكم أن أجعل ليتر البنزين بدولار واحد؟ ,وأن أعفيكم من الضرائب .. وغير ذلك من وعود لا تتعدى كونها مجرد شعارات لا تدعمها رؤية أو خطة أو مشروع , وفي نهاية المسرحية ينزل من المنصة ليحيي الحشود التي يتم تصويرها بطريقة احترافية عالية حيث لا يسمح لأي وسيلة إعلام أخرى تغطية وقائع مهرجاناته سوى جريدته وتلفزيونه !.
يومها صوت كثير من الشباب لصالح الحزب لأنه يحمل اسم الشباب , وبعض النساء منحته ثقتهن بسبب زرقة عيون زعيمه وشكله الوسيم ! وبعض الرجال كان معجبا بذكائه المفرط حيث تمكن من النصب والاحتيال على شركة موتورولا الأمريكية , حيث استطاع بحركة بهلوانية الاستحواذ على غالبية أسهم شركة فودافون على حساب موتورولا .
بهذه الخطة الاستراتيجية البسيطة احتل "حزب الشباب" المرتبة الخامسة فحصل على 2.284.644 صوتا ما يعادل نسبة 7,25% من مجموع أصوات تركيا !. والأهم من ذلك كله أنه تسبب في سقوط حزبين رئيسيين عريقين هما حزب الطريق القويم وحزب الحركة القومي حيث حصل الأول على نسبة 9.54 % من الأصوات ولم يبق بينه وبين تخطى الحاجز سوى بضعة أعشار بالمائة ,بينما حصل الثاني على نسبة 8.36 % من أصوات الناخبين .
وبهذه الطريقة كان "حزب الشباب" قد أسدى أكبر خدمة لحزب العدالة والتنمية ربما لم تقدمها قيادة الحزب نفسه !. إذ تحولت المقاعد البرلمانية التي حصلت عليها الأحزاب سالفة الذكر – بسبب عجزها عن تخطى حاجز العشرة بالمائة – الى حزبين اثنين هما حزب العدالة والتنمية الذي نال حصة الأسد وحزب الشعب الجمهوري . حيث اقتصر التمثيل النيابي على هذين الحزبين فقط إضافة إلى تسعة نواب مستقلين بواقع 363 نائبا للعدالة والتنمية و 178 نائبا لحزب الشعب الجمهوري . وهذا يعني عمليا استحواذ حزب العدالة والتنمية على ثلثي قوة البرلمان مقابل حصوله على ثلث أصوات الناخبين .
كل ما سلف كان سببه صعود "حزب الشباب" على حساب أحزاب اليمين التقليدية وحيلولته دون تخطيها عقبة العشرة بالمائة ..
في المقابل قام حزب العدالة والتنمية وبالتحالف مع برجوازية تركيا التقليدية بتوجيه ضربة قاصمة قاضية أتت على عائلة أوزان فاقتلعتها من جذورها .. حزبها وشركاتها القابضة ومصانعها وسدودها وبنكها وتلفزيونها وجريدتها وبنكها , حيث بيعت جميع أملاكها في المزاد العلني بعد أن قامت الدولة بالحجز عليها وتحويلها إلى خزينة الدولة . وأضحى أفراد العائلة بين عشية وضحاها ملاحقين قضائيا بتهمة الاحتيال والتزوير وتكبيد خزانة الدولة التركية ما زاد عن تسعة مليار دولار !.
قد يخطر على البال : هل جزاء الاحسان إلا الإحسان ,لكن السياسة مكارة غدارة لا ترحم . فإما أن تتغدى بخصمك أو يتعشى بك .. يبقى المثل المثل التركي " -Çabuk parlayan çabuk söner ما يلمع بسرعة يخبو بسرعة " هو الأجمل تعبيرا في مثل هذه الحالات .
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس