مدى الفاتح - القدس العربي
لا يمكن لأحد أن ينكر الشعبية الجارفة التي يتمتع بها الرئيس التركي أردوغان في معظم البلاد العربية، حيث لم تسفر حملات التشويه المتعمدة التي قادتها بعض الأنظمة التي تضايقت من نموذج بلاده، إلا عن مزيد من التعاطف مع المشروع التركي.
تركيا التي قدمت نفسها أولاً للعالم العربي كشريك تجاري ووجهة سياحية وثقافية (المسلسلات التركية نموذجاً) سرعان ما تجاوزت ذلك لتدلي بدلوها في جميع القضايا التي كان العرب يعتبرونها حكراً لهم، فكانت لها مواقفها القوية ضد الحرب على غزة، وضد حصار القطاع، الذي سعت إلى الدخول إليه وفك أسره أكثر من مرة، من دون أن تخفي ضيقها من دول الجوار العربي التي كانت تشارك في خنق القطاع بطريقة أو بأخرى.
كان لها الصوت الأعلى في دعم القضية الفلسطينية، وما يزال أسطول الحرية وشهداؤه عالقاً بذهن الملايين في العالم العربي والإسلامي، وكذلك قوافل المساعدات المالية والعينية. ومنذ أن تزايد القتل في سوريا كانت تركيا تعلن أن الرئيس السوري فقد شرعيته، وأن عليه أن يوفر الدماء والدمار، وأن يتنحــــى، ثم دعمـــت الشعب السوري الجريح، وما تزال، موفـــرة الملاجــــئ والإقامة والغذاء لمئات الآلاف منهم. ولم تخف تركيا صدمتها إزاء الانقلاب العسكري في مصر، وما تلاه من أعمال عنف من أجل تمكين السلطة الجديدة، وبعد الفض الدموي لميدان رابعة كان أردوغان يلخص المشهد أمام جماهيره برفع أصابعه الأربعة، رمزاً للميدان وتعاطفاً مع الذين قضوا في ذلك اليوم، معلناً أنه لن يعترف أبداً بذلك الانقلاب، وبما سيترتب عليه من إجراءات وهو ما زال يكرّر ذلك في كل وقت ومناسبة.
انطلاقاً من ذلك عمد أردوغان إلى انتقاد الشرعية الدولية وفضح الدول الأكبر التي تتاجر بحقوق الإنسان وتتشدق بدعم الديمقراطيات، في حين أنها لا تكترث سوى بمصالحها وبما يخدم نفوذها. كانت هذه المواقف وغيرها، خاصة ما يتعلق بطرح قضايا الأقليات المسلمة المستضعفة، ومشكلات إقليمية أخرى كقضايا البلقان ومآسي المهاجرين، مثار إعجاب الملايين من الشباب، الذين رأوا في القيادة التركية ما كانوا ينتظرون من مواقف رجولية قوية، مقارنة بالمواقف الضعيفة والمهتزة التي تصدر عن بلادهم.
أقول إن الجميع كان ينتظر الكثير من تركيا: الدول ذات الاقتصاديات المتعثرة، كانت تنتظر مزيداً من الدعم المالي والتقني والمنح من الحكومة التركية، والمعارضة السورية كانت تنتظر دعماً يتجاوز الإعلامي والإنساني إلى المادي والعسكري، أما غالب الشعوب العربية فكانت تنتظر اليوم الذي يتحرك فيه الجيش التركي لتحرير الأقصى المبارك. الجميع، ما عدا أولئك الذين لا يخفون عداءهم للدولة التركية ولرموزها، كانوا يعوّلون على تركيا بطريقة أو بأخرى.
يحاول هذا المقال النظر بموضوعية لمساحة التحرك التركي، حيث أن معظم «المتحمسين» يعانون من المشكلة التي أسميها «تغليب العواطف»، وهي مشكلة تجعلك تفشل دائماً في وضع نظرة استراتيجية لمستقبل الأحداث.
نذكّر أولاً أننا أمام تركيا مجـــــاورة لإيران، وهـــذا الجوار الملغوم يجعلها تفكر ألف مرة قبل أن تعلن عداءها للجمهورية الشيعية، لما يمكن أن تسببه لها تلك الأخيرة من قلاقل داخلية أولاً، وأخرى اقتصادية ثانياً. ذلك يفسر طريقــــة مخاطبة إيران عند الحديث عن الأزمة السورية، فرغم أنها هــــي المعقّد الأكــــبر للقضية والداعم الرئيس لبشار الأسد، إلا أن تركيا لم تخرج في خطابها معها عن لغة اللياقة الدبلوماسية، بل تكاد تعترف بها كجزء من حل الأزمة.
تركيا كانت في موقف بارد ملحوظ تجاه الاتفاق النووي، فلم تعلن غضبها عليه كدول الجوار العربي، التي اعتبرت أن ذلك كارثة، بل مضى الأتراك لحد اعتبار أن من النجاح الوصول إلى تفاهم سياسي. ربما كان تفسير ذلك يرجع للفائدة المرجوة من انفتاح إيران الاقتصادي، الذي سيوفر ملاذاً مهماً لتركيا على صعيد الواردات والصادرات، خاصة ما يتعلق بالنفط والغاز. الموقف لا يقل غموضاً إزاء «عاصفة الحزم» التي لم تبد تركيا متحمسة لخوض غمارها، مفضلة التمسك بالطرق الدبلوماسية لحل الصراع اليمني، ونلاحظ أنه في وقت اشتداد الأزمة (7 إبريل) كان الرئيس التركي يجري مباحثات التعاون الاستراتيجي مع طهران.
تركيا تراهن على الحوار السياسي، وتعتبر أنها نجحت من خلال دعم التفاوض النووي في إبعاد شبح الحرب المحتملة عن إقليمها القريب. أيضاً فإن تأجيل العمل في المسار النووي الحربي الإيراني، حسب الاتفاق، يبدو لها شيئاً مريحاً، وإن كانت ما تزال هناك مخاوف من أن تصبح إيران قريباً دولة نووية فيختل الميزان الاستراتيجي وتعود لتشكل تهديداً حقيقياً لها.
ربما يقول قائل إن هذا إنما يشير للبراغماتية التركية، وهذا صحيح، لكنه ليس شيئاً سلبياً، بل بهذه الخطوات وبالوقوف مع حقوق الدول في امتلاك الطاقة النووية يمكن لتركيا تمرير موافقة هي الأخرى لتحظى بالشيء ذاته، خاصة أنها تنوي ذلك منذ فترة.
الجانب الأهم في موضوع الاتفاق النووي هو بلا شك الجانب الاقتصادي، فنحن نتحدث هنا، في حال انتفت العقوبات، عن مليارات الدولارات المجمدة التي ستعود للخزينة الإيرانية إضافة إلى مليون برميل من النفط يومياً. نتحدث عن دولة تمتلك رابع أكبر احتياطي نفطي في العـــــالم، وهي الثانية على مستوى العالم في الغاز الطبيعي وفي كمية المعادن، وبالنظر إلى التقديرات الاقتصادية المحايدة يمكننا أن نفهم بوضوح لماذا يتلكأ العالم المصاب بنكسات مالية واقتصادية في الدخول في مواجهـــة مفتوحة مع جمهورية الولي الفقيه. وهنا علينا أن نقف عند ذلك الفصل الغريب بين السياسي والاقتصادي في العلاقات الإيرانية التركية فبينما تقاتل المليشيات الشيعية المجموعات المقربة من تركيا في سوريا، تتواصل، على صعيد آخر، أعمال العناية بالميزان التجاري الاستراتيجي بين البلدين..!
هذا على صعيد إيران وهو صعيد مهم وذو علاقة وطيدة بعدم قدرة تركيا على لعب دور أكثر قوة في الشرق الأوسط، خاصة أنه لا بديل لها عما ستخسره في حال المواجهة مع دولة الملالي. لكن هناك معوقاً آخر، وهو تحديات البنية السياسية والاجتماعية الداخلية في تركيا، بين قوميين علمانيين متضايقين من المشروع الإسلامي الجديد لتركيا، وأكراد يحلمون بالانفصال وطوائف وأديان مختلفة، وكل ذلك يأخذ حيزاً كبيراً ولا شك في الترتيب السياسي والتوجه الخارجي. أكبر دليل على ذلك الأهمية التي يوليها حزب العدالة والتنمية لانتخابات يونيو المقبلة، التي تمهدّ في حال تم الحصول فيها على نجاح مميز لتحول تركيا إلى نظام رئاسي، عبر تعديل الدستور مباشرة، أو على الأقل عبر طرح ذلك في استفتاء عام، وهو ما سيتيح للرئيس حرية أكبر للحركة والمراوغة. لكن ذلك ليس سهلاً مع المنافسة الكبيرة التي تقودها أحزاب المعارضة، خاصة تجمع الأكراد المسمى «حزب الشعوب الديمقراطية» مما يجعل الحصول على غالبية أصوات أمراً غير مضمون.
بعيداً عن كل ذلك فإن على أصحاب القراءة العاطفية أن لا ينسوا أن تركيا هي أحد أهم أعضاء حلف الناتو، وأنها تتمتع بعلاقة استراتيجية ومميزة مع الولايات المتحدة، رغم اختلاف وجهات النظر حول بعض القضايا.
تركيا الحريصة على علاقتها مع أمريكا ومع الاتحاد الأوروبي، الذي تحرص ما تزال على الانضمام إلى ناديه، تدرك أن البديل الذي كانت تنشده عبر الالتفات إلى العالم العربي والإسلامي لم يعد خياراً مناسباً، وأن دونه عراقيل كثيرة، على الأقل في الوقت الحالي، فلا مفر إذن من تمتين العلاقة مع الغرب، خاصة الاتحاد الأوروبي، الشيء الذي لن يتأتى إلا عبر علاقة «طبيعية» مع الكيان الصهيوني. هل يعني ذلك أن نتوقف عن الرهان على تركيا؟ الأمر متروك لتقدير الجهات المختلفة ولنوع الرهان المطلوب. لكن تركيا ستبقى، رغم كل شيء، صاحبة البراغماتية الأكثر إنسانية في عالمنا المعاصر، ومن الظلم ربما مطالبتها بالوقوف وحيدة أمام نظام عالمي مبني على المصالح الوقتية وخالٍ من القيم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس